في الأيام القليلة الماضية وتحديدًا بعد التفجير الانتحاري الذي استهدف حافلة الأمن الرئاسي في شارع محمد الخامس بالعاصمة التونسية، تابعت على غير عادتي بعض وسائل الإعلام المحلية لمواكبة تطورات الحادثة ومخلفاتها وليتني ما صرفت تلك الدقائق المهمة في حياتي للاستماع إلى الكذب المباح والتحريض الصراح من قِبل ثلة احترفت الدجل والضحك على الذقون.
بعد 6 أيام من الحادثة الأخيرة، وتحديدًا يوم الثلاثاء 1 من شهر ديسمبر الجاري، دفعني الفضول لقراءة الصفحة الأولى لإحدى أكبر الصحف التونسية اليومية المحسوبة على النخبة المثقفة التي يشار إليها بالبنان، فرأيت عنوانًا براقًا جميلاً ملفتًا للانتباه وخاص بعنوان “القبض على تكفيري غسل الانتحاري قبل تفجير حافلة الأمن الرئاسي”، فانتقلت إلى الصفحة المشار إليها تحته وقبل أن أقرأ نص المقال جذبني عنوانًا آخر ولا أكذب على القارئ الكريم إن قلت إن موضوع نص الخبر المرفق مع العنوان ليس له مثيل في الصحافة العالمية بكل لغاتها.
كان الخبر فريدًا من نوعه ومزيجًا من الخيال الواسع والتأثر بمشاهدة الأفلام الأمريكية الهوليودية وكذلك الجهل الذي ليس له نظير.
قال الصحفي في الخبر المشار إليه “إن قوات الأمن التونسي ألقت القبض على متشدد ديني يتبنى الفكر الداعشي الإرهابي يشتبه في أنه قام بغسل الانتحاري حسام العبدلي قبل تنفيذ العملية الإرهابية”، لم يقف الإبداع عند هذا الحد بل واصل الصحفي قائلاً “إن عملية الطهارة الكبرى قبل الموت لاستقبال الحور العين في الجنة تتم أساسًا وفق معتقدات وتفكير التيار الجهادي”.
السؤال المطروح بعد قراءة هذا الخبر، من أين جاء هذا الصحفي بمعتقد السلفية الجهادية في أن العمليات الانتحارية تستوجب القيام بطهارة كبرى قبل تنفيذها وذلك لكي يقابل الحور العين في الجنة؟
في الحقيقة أزعم أني قرأت مئات التقارير والتحقيقات والدراسات الأجنبية حول الجهاديين عمومًا ولم يعترضني قول يشابه قول هذا الصحفي التونسي الذي تفرد بمثل هذه المعلومة التي توضح سبب الفجوة العميقة بين الصحافة في الدول الغربية والصحافة في إحدى الدول العربية.
بعد أن وضح لنا صديقنا الصحفي أن عملية الطهارة الكبرى أصل من الأصول التي بنيت عليها السلفية الجهادية يجب على كل مراكز الدراسات العربية والأجنبية أن تهب للانفراد بدراسة أو ببحث علمي خاص بهذا الموضوع فربما غاب عليها ما علمه صديقنا، كما أطالب من هذا المنبر هيئات الإفتاء في كل الدول العربية أن تبحث في هذه النازلة الجديدة في كتب الفقه قديمًا وحديثًا وأن تبين الحكم الشرعي لهذا الغسل الذي ذكره الصحفي هل هو واجب أم سنة أم مستحب، كما نطالب كل أقطاب السلفية الجهادية في العالم أن تدلي بدلوها وتوضح للمراقبين ما نسب إليها من أن هذا القول نابع عن معتقداتهم.
منذ زمن بعيد وأنا أمني النفس أن أستمع أو أقرأ تحليلاً عميقًا لخبير تونسي في الجماعات الإسلامية يشرح فيه قضايا الإرهاب والعنف في العالم من وجهة نظر علمية مثل زملائهم في مصر والأردن وفي الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية عامة مبتعدين عن القوالب الجاهزة التي حفظوها دون أن يفهموها ويفهموا مرادها.
أثناء هجمات باريس الأخيرة استضافت القنوات والإذاعات الفرنسية خلال تغطيتها للأحداث خبراء عرب وفرنسيين أبدع معظمهم في توصيف ظاهرة الإرهاب وكل ما يتعلق بها من فروع وأصول ولم أستمع أو أقرأ حسب ما قدرت عليه على تلك الحماقات التي يرددها المهرجون التونسيون.
بعد دقائق من العملية الإرهابية في تونس، استضافت وسائل الإعلام المحلية ثلة من المتطرفين من اليمينيين واليساريين الذين أبدعوا في التحريض على العنف وعلى عدم تطبيق القانون في حق كل المشتبه بهم، بل دعا بعضهم إلى إقامة معتقلات للزج بكل المشتبه بهم داخلها، وقد نسي هؤلاء الحمقى أن معتقل “بوكا” في العراق صنع أخطر وأغنى تنظيم جهادي في التاريخ الحديث، لم يقف الأمر عند هذا الحد بل طالب آخرون بقطع العلاقات الدبلوماسية مع تركيا لأنها راعية الإرهاب، بل وصل بهم الأمر إلى القول “إنه من غير المعقول أن تغزو المنتوجات التركية الأسواق التونسية”.
في تونس وبعد كل حادث إرهابي يطل علينا هؤلاء المهرجون ويبدأون بالتحريض على كل ما له علاقة بالحضارة الإسلامية وكل ما له ارتباط بالإخوان المسلمين بكل تفرعاتها بل حتى الدول الخليجية وعلى رأسها قطر والمملكة العربية السعودية نالت من الشتائم والتشكيك واتهموها بالوقوف وراء كل حادثة إرهابية في العالم.
لقد نسي أو تناسى هؤلاء تلك المساعدات التي قدمتها تركيا لتونس بعد أحداث 14 يناير ولم تقدمها لا الحكومة الأمريكية ولا نظيرتها الفرنسية، كما نسوا القروض التي وعدت بها قطر الدولة التونسية والتي ألغيت بسبب حملتهم المسعورة عليها وعلى سياساتها.
لا يمكننا لوم أمثال صديقنا الصحفي وهذه الثلة من المهرجين والخبراء الوهميين فهم نتاج 23 عامًا من الخنوع والخضوع للنظام السابق فقد كان شعاره “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد” وقد كانوا هم أنفسهم تبعًا له وبرروا قمعه وبطشه بشعبه في صحفهم وإذاعاتهم وقنواتهم التلفزيونية في حين كانت الأقلام الحرة داخل البلاد وخارجها تصلى العذاب الأليم.
لا يمكننا لوم هؤلاء لأننا خبرناهم وعرفناهم وقرأنا لهم وعنهم، كما نعلم جيدًا تاريخهم المجيد في التمجيد والتثمين، كما لا يمكننا نسيان أن أغلب هؤلاء جهلة كثيرًا ما يرددون كلمات لم يفهموها ولم يفقهوا مرادها.
في تونس بعد 14 يناير أصبح من الصعب أن تغرد خارج السرب لأن التغريد خارجه سيتسبب لك في الأرق والشعور بالوحدة والعزلة وأن كل الناس لا ترغب في سماعك لأنهم اعتادوا سماع الكذب المباح.
لقد باع بعض الإعلاميين في تونس شرف مهنتهم وكرامتهم الشخصية بأقل من 20 دولارًا ولا عجب فمرتب الصحفي العادي في تونس 250 دولارًا ويعاني الأمرين لأجل الحصول عليها؛ فكان من البديهي أن ينتهج طرقًا ملتوية للحصول على دولارات أخرى بطرق ملتوية.
المشهد الإعلامي في تونس أصبح مقززًا لأبعد الحدود وقد أضحى أشبه بمقر مخابرات يغلي ليل نهار يُكاد فيه ويُصطاد لكل خارج عن سلطان مافياته، ولا عجب في ذلك فهؤلاء تربية النظام السابق ومن زمرته المقربة وكما قيل قديمًا “إذا عُرف السبب بطل العجب”.