خرج الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان من قصر الرئاسة منذ قرابة العام ونصف، دون أن يتفق اللبنانيون على من سيخلفه في هذا المنصب، لتعاني لبنان حتى الآن من أطول مدة فراغ في تاريخ الرئاسة اللبنانية منذ فراغ عام 1988.
يواجه اللبنانيون في هذه الفترة أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة بسبب حساسية منصب الرئاسة وتأثيره على بقية المؤسسات في الدولة التي أصبحت هي الأخرى تعاني من هذا الفراغ بعد أن تحول مجلس الوزراء اللبناني من مهامه التنفيذية إلى مجلس رئاسي يدير لبنان، ويتطلب هذا المجلس موافقة جميع أعضائه من الوزراء لكي يُصدر قرارًا رسميًا، وذلك لحين ملئ فراغ الرئاسة.
كذلك تعطل مجلس النواب اللبناني لحين انتخاب رئيس جديد، وتوقفت التعيينات الأمنية لقادة الجيش، وتوقفت عملية اعتماد السفراء، وأُجلت المشاريع الاقتصادية الكبرى لتعطل كل هذه المؤسسات جملة واحدة نتيجة شغور منصب الرئيس في لبنان، مما يُصحح الصورة عن هذا المنصب المهم في بنية السلطة اللبنانية، بعد أن كان يُعتقد أنه منصب صوري لا أكثر.
الرئاسة في لبنان ليست شأنًا لبنانيًا خالصًا
أكثر من 25 جلسة لمجلس النواب فشل فيها الفرقاء اللبنانيين في انتخاب رئيس جديد، حيث لم ينجح أي مرشح في الحصول على أغلبية الثلثين المرجحة في الجلسات، وبما أن هذا الأمر ليس شأنًا لبنانيًا داخليًا خالصًا فقد تعذر الاتفاق بين اللبنانيين، لتعذر الاتفاق بين الدول الإقليمية ذات النفوذ في الشأن اللبناني.
على رأس هذه الدول بالطبع المملكة العربية السعودية وإيران اللذين يمارسان تجاذبات وحروب سياسية بالوكالة داخل لبنان، هذا الصراع الذي أخر انتخاب رئيس جديد للبنان طوال هذه الفترة، وهو أمر لا ينكره الساسة اللبنانيين الذين رأوا أن الحل في تدخل الولايات المتحدة للضغط على الدول الإقليمية المؤثرة في الوضع اللبناني لإنهاء حالة الفوضى السياسية في الحال.
ارتباط بين القضية السورية والوضع اللبناني الداخلي
تلعب السعودية دورًا محوريًا داخل لبنان وتتمسك بشروط محددة غير معلنة فيما يخص مرشح الرئاسة القادم، لكنها معروفة ضمنيًا على الساحة اللبنانية، أهمها هي انتخاب شخصية ليست معادية لرؤيتها في الملف السوري حتى تضمن عدم إعاقة لبنان للتحركات السعودية في سوريا، كما تريد السعودية ضمانة أخرى ألا يتبنى الرئيس اللبناني القادم وجهة نظر حزب الله في القضية السورية.
تتصادم هذه الرؤية مع وجهة نظر الإيرانيين وحليفهم الأول في لبنان حزب الله الذي لديه من النفوذ الكثير داخل أروقة السياسة اللبنانية، وعلى هذا ربما تتناحر بقية الأطراف اللبنانية التي ترى أحقية دعم مرشح بعينه، مع عدم الاستعداد للتنازل والتوافق على شخصية من بين مجموع القوى السياسية، مثل شخصية العماد عون التي طرحها حزب الله كمرشح أوحد.
أما الآن وضع الشارع اللبناني بحاجة لفك الارتباط بين القضية السورية ولبنان بسبب تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تنذر باندلاع نزاع مجتمعي وشيك، إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، وقد كانت أزمة النفايات أحد التحذيرات التي تؤكد ذلك.
الوضع الداخلي يُجبر على فك الارتباط
بعض القوى السياسية المدعومة من السعودية أدركت ذلك، وحذرت هي الأخرى من خطورة انفجار وشيك في الشارع اللبناني، لذلك أبدت هذه القوى مرونة في إمكانية التوافق حول شخصية تتقلد منصب الرئاسة في مقابل بعض التنازلات من الجميع.
على رأس هذه القوى تيار المستقبل الذي يُعاني من أزمة داخلية طاحنة تجبره على السعي للوصل إلى اتفاق بشأن منصب الرئاسة يمكنه من العودة إلى الإمساك بزمام منصب رئيس الحكومة كمندوب عن المكون السني في البلاد، مما يتيح له إعادة التموضع على الساحة اللبنانية، على الرغم من صعوية إقناع حلفاء تيار المستقبل وزعيمه سعد الحريري من الأطياف اللبنانية الأخرى كرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بضرورة التوصل إلى توافق سريع في قضية الرئاسة.
تحركات سعد الحريري غير المعلنة تُشير إلى اقتراب الاتفاق مع النائب سليمان فرنجية زعيم تيار المردة على قبول ترشحه لمنصب الرئاسة، رغم أن المعروف جيدًا عن فرنجية اقترابه من النظام السوري وتحالفه مع حزب الله، لكن ربما مآلات الأمور الحالية في لبنان ستجبر الجميع على تخطي الأزمة السورية وقك الارتباط بينها وبين الوضع اللبناني الداخلي.
هل تقبل السعودية بفرنجية لحل الأزمة؟
موقف السعودية الرسمي من المقترح المتدوال بين ساسة لبنان كان إيجابيًا، حيث صرح السفير السعودي لدى لبنان علي عسيري، قائلاً: إن المملكة تدعم اقتراحًا لبنانيًا بتولي الماروني المسيحي النائب سليمان فرنجية رئاسة لبنان.
هذا وقد ترددت أنباء عن اجتماع في باريس جمع بين فرنجية والحريري تم الاتفاق فيه على تولي الحريري لرئاسة الوزراء وبقاء نبيه بري رئيسًا لمجلس النواب، مقابل القبول بفرنجية كرئيس للجمهورية، بالإضافة إلى مناقشة قانون الانتخابات النيابية وتوزيع الحصص الوزارية المستقبلية.
غضت السعودية الطرف عن ميول فرنجية السورية الأسدية الواضحة للجميع، وهو ما قد يوحي بأن الاجتماعات السرية بين تيار المستقبل وفرنجية قد حسمت مثل هذه النقاط الخلافية، حتى تقبل السعودية بهذا الترشيح وتقول أنه ما دام اختيارًا لبنانيًا خالصًا فإن السعودية ستباركه.
فيما يحاول تيار المستقبل الآن تخطي عقبة الأطراف اللبنانية المتناحرة لقبول هذه المبادرة التي ترشح سليمان فرنجية، حيث أبدى حزب الله عدم ممانعة في ترشيح فرنجية مقابل عدة تنازلات ستقدم، حتى يتخلى العماد ميشال عون عن فكرة ترشحه للرئاسة بدعم من حزب الله.
أبرز هذه التنازلات المطلوبة تبني قانون انتخابي نسبي، إضافة إلى اتفاق صريح على تولي رئيس التيار جبران باسيل وزارة الداخلية، بالإضافة إلى استدعاء الجنرال شامل روكز من التقاعد وتعيينه قائدا للجيش، وأن يحصل التيار الوطني الحر التابع لعون على الحصة الكاملة في تعيينات الدرجة الأولى في دوائر الدولة.
من جهة أخرى يبذل فرنجية مجهودًا في إقناع السعودية بصلاحيته لهذا المنصب عن طريق إعلانه الالتزام باتفاق الطائف، كما أنه يرد على الاتهامات التي تشير إلى علاقته القوية بالنظام السوري، بقوله إنها ليست علاقة سلبية بل نقطة قوة لتجنيب لبنان ويلات الحرب السورية، فيما يبقى أمام سعد الحريري وتيار المستقبل مهمة إقناع حليفه سمير جعجع الذي يرى فرنيجة خصمه التاريخي.
المؤشرات في هذا الاتجاه إيجابية حتى الآن، ولكن المخاوف تأتي من جانب سمير جعجع وحزبه، وكذلك عدم حسم العماد ميشال عون لانسحابه من الترشح حتى بعد طرح شروطه، وهو ما قد ينذر بحرق ورقة فرنجية لتعود الساحة السياسية في لبنان إلى نقطة الصفر.