لم ينتظر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي انعقاد مجلس النواب المنتخب والمختص بممارسة السلطات الدستورية من ضمنها استصدار قرارات وقوانين تمُس أوضاعًا اقتصاديية ومالية قائمة، فحامي حمى “جمهورية الضباط” في مصر والقادم من رحمها يسعى كلما سنحت له الفرصة إلى توسيع صلاحيات وسلطات الجيش في السيطرة على أراضي الدولة بعد انتهاء الأغراض العسكرية فيها والاستحواذ على المشروعات القومية والحيوية الكبرى وبالتالي السيطرة على الاقتصاد السياسي في البلاد.
ففي آخر قرار أصدره السيسي مكّن جهاز بيع الأراضي والعقارات التابع لوزير الدفاع من إنشاء شركات خاصة به برأسمال خاص أو بالمساهمة مع مستثمرين محليين أو أجانب وبذلك تكون المرة الأولى التي يُسمح فيها للجيش المصري بإنشاء شركات مع شركاء أجانب أو مستثمرين مصريين.
يجيز القانون الجديد قيام الجهاز الجديد بتعظيم أصوله المالية وتمكينه من دخول مجال الأراضي والعقارات وبيعها بغرض الاستثمار، وسيسمح القانون بالشراكة بين الجيش الذي يضع يده على الأراضي الصحراوية التي تُستغل في المشروعات الكبرى مع الشركات الإماراتية أو السعودية التي ستساهم في إنشاء مشروعات مثل العاصمة الإدارية وغيرها.
بات اقتصاد المؤسسة العسكرية اليوم يتصرف وكأنه قطاع تجاري يسعى إلى إقامة مشاريع مشتركة مع الشركات المحلية والأجنبية الخاصة ويبحث عن فرص للتصدير والاستثمار في الخارج، وقد لا نستبعد دخول شركات تتبع للمؤسسة العسكرية المصرية في مناقصات لمشاريع عملاقة في العالم من أجل الاستثمار والتربح.
جمهوية الضباط
تعززت ظاهرة الضباط في المشهد السياسي والاقتصادي إبان تولي محمد حسني مبارك المنصب الرئاسي في 1981 وهو رابع عسكري يشغل هذا المنصب، ويمكن ملاحظة وجه الاختلاف بين سياستي مبارك وجمال عبد الناصر أنّ الأخير عممّ قطاعات الدولة وصناعاتها وأعاد توزيع الأراضي واتبع سياسات اشتراكية، بينما قام مبارك بدمج القوات المسلحة في الدولة واستقطب كبار الضباط إلى النظام الرئاسي القائم على ثنائية الولاء والعطاء، وعمل على نزع الصبغة الرئيسية من القوات المسلحة واستمالة كبار الضباط إليه.
بدأ توغل القوات المسلحة المصرية في الأروقة السياسية والاقتصادية ما بعد عام 1991؛ حيث وسّعت تلك القوات من ولوجها في جنبات الدولة أيام نظام مبارك القائم على المحسوبيات واجتذاب كبار الضباط لصفّ الرئيس لمنعهم من الانخراط في السياسة وتقديم ولائهم للرئيس مقابل وعود قُدمت لهم بتعيينهم في مناصب رفيعة في الوزارات والشركات المملوكة للدولة بعد التقاعد ومنحهم امتيازات وفرصًا استثمارية مربحة تمكّنهم من زيادة أصولهم المالية؛ فارتفعت نسبة الوزراء ذوي الخلفية العسكرية وأدت لتشكيل ما سمي بـ “جمهوية الضباط” التي انغرست في بوتقة السلطة الرئاسية وشكلت نفوذًا سياسيًا مع الوقت أصبح من الصعوبة اليوم تجاوزه بحكم تغلغله في كل مجالات الدولة وتفرعاتها.
مبارك سعى جاهدًا وحتى الرمق الأخير في الحفاظ على ازدواجية حماية الرئاسة مع النظام البيروقراطي في الدولة وتوفير مصادر دخل مالية لكبار الضباط في مرحلة ما بعد التقاعد من خلال ممرات لبقاء وديمومة ذلك النظام.
ينتشر داء العسكر بشكل جليّ في مجال الحكم المحلي فمن خلاله يلعبون دورًا مباشرًا في المحافظة على النظام الحاكم بدءًا من أحياء القرى والمدن وانتهاءً بالمحافظات، يُذكر أنّ طريقة إدارة البلاد من خلال مجالس المحافظات أوجدها عبد الناصر من أجل سيطرة الرئيس على أنحاء البلاد والحد من سلطات ومسؤوليات الوزارات الحكومية والهيئات والسلطات المدنية العامة، حيث يُعتبر المحافظ هو ممثل الرئيس وأرفع مسؤول أمن في المحافظة، وجاء تقسيم مصر أيضًا إلى خمس مناطق عسكرية مُكملًا للهيمنة على الهيئات المدنية بحكم أنّ مهام قادة المناطق العسكرية هي التنسيق مع المحافظين والسلطات المدنية المحلية لضمان الأمن الداخلي، يوجد في مصر حاليًا 27 محافظة حسب آخر تنظيم في عام 2011 والجدير بالذكر أنّ 50 إلى 80% من المحافظين لهم خلفية عسكرية منذ التسعينيات و20% من الشرطة أو أجهزة الأمن الداخلي.
وعلى سبيل التوضيح حول مدى تغلغل الضباط في الحكم المحلي نسرد هذا المثال حسب ما جاء في دراسة ليزيد الصايغ في مركز كارينغي “في 22 فبراير 2012 وقّع وزير الإنتاج الحربي اللواء علي إبراهيم صبري اتفاقًا لتطوير سوق الجملة في محافظة الجيزة، وقد وقّع عن الطرف الآخر الرئيس التنفيذي لسوق الجملة اللواء سامي عبد الرحيم وذلك بحضور نائب محافظ الجيزة اللواء أسامة شمعة والأمين العام للمجلس المحلي اللواء محمد الشيخ ومساعده اللواء أحمد هاني”.
من جملة ما اخترقه الضباط في الدولة وإداراتها من قطاعات مدنية: إدارة الجامعات ومراكز البحوث والمعاهد القومية للمقاييس وجمعيات حماية المستهلك ومراقبة المياه والملاعب الرياضية والمستشفيات الحكومية والإذاعة والتلفزيون والمدارس الأجنبية وجهاز التعبئة والإحصاء ومجالس إداراة الشركات القابضة للطيران والنقل البحري والبري والكهرباء والمياه والصرف الصحي، ويهيمنون كذلك على قطاعي النفط والغاز الطبيعي ويوجد عدد من الضباط لا يستهان به في مجالس الإدارة للمرافق العامة ومشاريع البنية الأساسية، علمًا بأن هذه المرافق هي مشاريع اقتصادية مملوكة للدولة، وينطبق الأمر نفسه على الشركة المصرية للاتصالات.
أثناء حكم الرئيس مرسي كافحت “جمهوية الضباط” أكثر لإحكام قبضتها على سلطاتها ومصالحها باستخدام شبكات عملائها داخل أجهزة الدولة وبمساعدة خارجية – رأت في المؤسسة العسكرية فرصة لإعادة العهد القديم خشية تمدد عدوى الثورة إلى بلدانها – ساهمت في صناعة الثورة المضادة لإعادة تموضعها في شكل الدولة المفرز بعد الثورة وإنتاج نفسها من جديد بضبط بوصلة اختراقاتها داخل أجهزة الدولة على المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ فسعى الضباط لعرقلة سياسات الحكومة وإصلاحاتها وتقويض النظام الديمقراطي وتعبئة الشارع المصري وتخويفهم من أخونة الدولة على يد مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي.
كشّرت تلك القوى العسكرية الكامنة عن أنيابها أثناء مشروع تطوير قناة السويس من قِبل حكومة مرسي التي واجهت جيوبًا بيروقراطية متحكمة بالمشهد الاقتصادي العام في الدولة، فعمد مرسي إلى مجابهة تلك القوى المضادة لتطور مصر على كافة الأصعدة فحرم بشكل شبه كامل المؤسسة العسكرية من المشاركة في هذا المشروع القومي الهام ومشاريع أخرى، فبدأ المجلس العسكري وبالتعان مع عدة جهات شعبوية وخارجية لتنفيذ مخطط “انقلابي” على السلطة المنتخبة انتخابًا ديمقراطيًا ونجح في مخططه باعتلاء المشير عبد الفتاح السيسي للسطلة في تاريخ 8 يونيو 2014.
ساهم عبد الفتاح السيسي بعد توليه الرئاسة في توطيد حكم العسكر وتثبيت يدهم الطولى في التغلغل بمشاريع الدولة والاستئثار بالموارد والوظائف الرفيعة المستوى ورسم خطوط حمراء لكل من يريد المساس بمصالحهم والتأثير على الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية فبدل تقلص حجمها وتقليم أدواتها في التحكم بالدولة، تضخم حجمها بشكل ملحوظ حتى باتت الشغل الشاغل والمعوّق الرئيس لاستقرار مصر وازدهارها؛ حيث شهد عهد السيسي دخول كبار الضباط في جهاز الدولة مستوى غير مسبوق واستأثروا بالاقتصاد السياسي في مصر متمثلًا بسيطرتهم على مشاريع البلاد القومية وتعميق الفجوة بين طبقات المجتمع المصري، بالإضافة لاستحلالهم وظائف دوبلوماسية في الدولة ومناصب إدارية في الأجهزة الأمنية ورؤساء ومديري مجالس الشركات الحكومية ومناصب رئيسية في مجالات مختلفة.
اليوم تمارس المؤسسة العسكرية في مصر نشاطها الاقتصادي من خلال مؤسسات اقتصادية تُدار مباشرة من قِبل القوات المسلحة ولا تخضع ميزانياتها لرقابة من قِبل أي جهة مدنية سواء كانت حكومية أو خاصة وتدرج رقم واحد في الموازنة العامة للدولة وفقًا للدستور المصري وبالإمكان حصر الشركات التابعة للجيش في أربعة مؤسسات رئيسية تندرج تحتها عدة شركات كبيرة ومتوسطة الحجم وصغيرة: جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، الهيئة العربية للتصنيع، الهيئة القومية للإنتاج الحربي، والهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
ختامًا إن جمهوية الضباط ومنذ الإطاحة بنظام مبارك عملت على التعبئة غير المباشرة للدفاع عن مكانتها ومصالحها في إمبراطوريتها الاقتصادية، فأعادت تعريف العلاقة بالدولة المصرية وأكدت على أولوياتها المؤسسية بشكل أكثر وضوحًا من قبل لذلك وجد المجلس العسكري نفسه في الواجهة بعد سقوط “حامي الحمى” مبارك للدفاع عن كينونته وإمبراطوريته، وإن أكثر تعبير مناسب لهذه الجمهورية هي دولة موازية داخل الدولة المصرية لها مواردها ورجالها وسلطاتها ومدخولاتها وتتحكم في الدولة المصرية في كل الأصعدة.