ترجمة وتحرير نون بوست
صورة الرجال الملثمين داخل شاحنات النقل الصغيرة السوداء قد تبث الألم والرعب بطبيعتها في معظم الأماكن في جميع أنحاء العالم، ولكن هذه الصورة تجلب شعورًا بالطمأنينة لسكان زوارة، المدينة التي تقع في أقصى الشمال الليبي.
تنفي الجماعة، المعروفة باسم “الرجال المقنعون”، بأنها ميليشيا، وتصر على عدم اتباعها لأي أجندة دينية أو سياسية، بل تخطط الجماعة لغرس الشعور بالقانون والنظام في جزء من ليبيا دمرته شبكات التهريب والعصابات الإجرامية في الأشهر الأخيرة.
ابتداءً من فصل الصيف المنصرم، أصبحت مدينة زوارة الساحلية الهادئة مرة أخرى مركزًا للجريمة والبؤس، فعلى الرغم من اعتياد سكان زوارة بشكل تقليدي على خروج المهاجرين من بلدتهم باعتبارها نقطة انطلاق رئيسية في الطريق إلى إيطاليا، إلا أن البلدة التي يقطنها حوالي 60.000 نسمة لم تعتد على المشهد المأساوي الذي استقبلته في 27 أغسطس الماضي، حيث فاضت شواطئ زوارة الرملية البيضاء بحوالي 200 جثة نثرها انقلاب زورق خشبي قديم على بعد بضعة أميال قبالة الساحل، مما أسفر عن مقتل حوالي نصف ركاب الزورق.
قام سكان زوارة بحفر مقبرة جماعية ليواروا الجثث الثرى، ومن بعدها ساروا بمظاهرة من ساحة البلدة إلى الميناء مطالبين ضمنها باتخاذ إجراءات للحد من ظاهرة تهريب البشر، “زوارة لا يمكن أن تصبح موطنًا للقتلة”، هتف الجمع باللغة الأمازيغية المحلية.
هذه ليست المرة الأولى التي يتظاهر فيها أهالي البلدة ضد المهربين، ولكن حجم المأساة الأخيرة دفعتهم للمطالبة بوضع حد نهائي لظاهرة المتاجرة بتهريب البشر.
رغم إصرار الجماعة على السرية، إلا أن صحيفة الميدل إيست آي كانت قادرة على إجراء حديث مع أيمن قافاز، القائد العام لقوات الرجال المقنعين، وفي حديثه مع الصحيفة، أخبرنا قافاز بأن المجموعة تأسست أصلًا في يناير 2013 كـ “فرقة تدخل خاصة” تهدف للتصدي للأنشطة الإجرامية، إلا أن الحركة توسعت بسرعة على مدى العامين الماضيين، واليوم، كما يشير قافاز، تضم مجموعة المقنعين حوالي 130 شخصًا تحت الطلب، نصفهم من رجال الشرطة، يعملون في نوبات على مدار الـ24 ساعة.
تم تسجيل المجموعة رسميًا في وزارة الداخلية في طرابلس العاصمة، ومن هناك، وفقًا لقافاز، يتم دفع رواتب الرجال المقنعين.
منذ الإطاحة بالديكتاتور الليبي، معمر القذافي، في عام 2011، تدهور الوضع الأمني بشكل حاد في ليبيا، حيث أضحت الميليشيات المتحاربة تسيطر حاليًا على أجزاء واسعة من البلاد، وفي خضم تنافس برلماني طبرق وطرابلس على السلطة في ليبيا، بزغت جماعة الدولة الإسلامية وسط الفوضى التي تعم البلاد.
“لقد تلاشت سيادة القانون في ليبيا، لكن القانون ما زال ساريًا في زوارة”، قال قفاز، وتابع موضحًا بأنه منذ وقوع الحادث في أغسطس الماضي، ألقى الرجال المقنعون القبض على 35 شخصًا لهم صلات مزعومة بالإتجار بتهريب البشر، ورغم أن صحيفة ميدل إيست آي لم تستطع التحقق مما إذا كان هؤلاء الرجال ما زالوا معتقلين، كما لم تستطع أن تتفقد الظروف التي يتم احتجازهم بها، إلا أن سكان المدينة يصرون على أن الحياة أصبحت أفضل بكثير منذ بدء حملة المقنعين على تجار البشر.
يعترف قافاز بأن الوضع أبعد ما يكون عن الكمال، ولكنه بذات الوقت ينعت التدابير الأوروبية، التي تحاول المشاركة بحملة وقف تدفق اللاجئين من خلال اعتراض السفن بمجرد مغادرتها لليبيا، بأنها “عديمة الفائدة تمامًا”، وأضاف قائلًا: “إذا كانت بروكسل تريد حقًا وقف تدفق اللاجئين يجب عليها تمكين السلطات المحلية على الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وكذلك المنظمات التي تشبه منظمتنا، نحن هنا نمثل آخر منفذ قبل الوصول إلى أوروبا، ونحن قادرون على السيطرة على هذا المنفذ إذا ما تلقينا ما يكفي من الدعم”.
موظفو الخدمة المدنية، كصادق جياش، الذي يعمل كمسؤول ضمن المجلس المحلي للمدينة، يدعمون بشكل كبير نشاطات فرقة المقنعين، “ليس هناك حكومة فاعلة في البلاد، لذا أدركنا بأننا بحاجة للقيام بشيء ما للتعامل مع الأزمة المتفاقمة في أراضينا”، قال جياش لصحيفة الميدل إيست آي.
جياش هو موظف مدني ورئيس لجنة الطوارئ في زوارة، وهي لجنة تأسست في أبريل 2014 ويديرها 35 متطوعًا محليًا، منهم أطباء ورجال إطفاء وأعضاء من جمعية الهلال الأحمر المحلية وغيرهم.
“في حالة المهاجرين، نقوم بالبحث عن الجثث والمساعدة في محاولات الإنقاذ بالتنسيق الكامل مع الإدارة المحلية، المجتمع المدني، ومجموعة المقنعين”، قال جياش، في الوقت الذي أصر به بأنه “راضٍ للغاية” على درجة التعاون بين جميع الأطراف.
آلاف من المهاجرين غرقوا في البحر الأبيض المتوسط هذا العام.
عكس التيار
سمحت الفوضى المتزايدة بازدهار المهربين في ليبيا، حيث ازدادت ثروة الكثير من المهربين في زوارة إثر الاتجار غير المشروع بتهريب البشر لمدة سنوات.
حتى الآن، وفي هذا العام، حط أكثر من 140.000 شخص رحالهم قبالة السواحل الإيطالية قادمين من ليبيا وتونس، ونسبة كبيرة من هؤلاء غادروا من زوارة، حيث أسفرت هذه الرحلات المتكررة عن مقتل حوالي 3000 شخص غرقًا في مياه المتوسط، وفي يوم الخميس، سحبت قوارب الإنقاذ البحرية الإيطالية 1500 مهاجر من البحر قبالة سواحل ليبيا في غضون بضع ساعات.
“كان القذافي يمتلك مفتاح السيطرة على تدفق المهاجرين، وقام باستخدامه في نهاية المطاف لممارسة الضغط على الاتحاد الأوروبي” قال جياش، وتابع: “لكن كل شيء خرج عن نطاق السيطرة بعد الحرب في عام 2011”.
بعد الإطاحة بالقذافي انعدم القانون في البلاد، ورغم أن زوارة حاولت السيطرة على الوضع من خلال اعتقال مثيري الشغب المزعومين، إلا أن البلدة لا تمتلك سجنًا لتودع فيه هؤلاء المعتقلين، “لقد نظمنا أنفسنا للقبض على المهربين ونقلهم إلى صبراتة أو الزاوية”، قال جياش، وتابع: “لكنهم سرعان ما كانوا يعودون للعمل، فأنت تعرف، الفساد في ليبيا مستشرٍ للغاية”.
ولكن بعد كارثة الشاطئ الأخيرة، وبالتوازي مع احتمالية لجوء الاتحاد الأوروبي لعمل عسكري وضربات جوية محتملة لاستهداف شبكات التهريب، قرر السكان الخروج عن صمتهم.
في اليوم العاشر من انقلاب الزورق، ظهر الرجال الملثمون على الساحة، في الوقت الذي كان فيه سكان زوارة في أمس الحاجة للتغيير، وكان أول عمل مارسته المجموعة يتمثل باعتقال حوالي 10 أشخاص متهمين بصلاتهم مع شبكات التهريب، وبدلًا من إرسالهم إلى أي مكان آخر، تم تأسيس سجن مؤقت في زوارة.
التعامل مع الفوضى
حل إنشاء سجن مؤقت في زوارة ليس مثاليًا البتة، ولكن في ظل وجود عدد قليل من البدائل، يبقى هذا الحل هو البديل الوحيد المعقول، خاصة في ظل بقاء الطريق الذي يربط زوارة بطرابلس مغلقًا في أغلب الأحيان تبعًا للاشتباكات الدورية التي تندلع بين الميليشيات المتناحرة على الطريق الساحلية، والأمر ذاته ينطبق على الطريق الجنوبي الأقل استعمالًا تجاه جبال نفوسة، المعقل الرئيس للأمازيغ في ليبيا.
من مكاتب الهلال الأحمر في المدينة، ألقى إبراهيم التوشي، رئيس لجنة الطوارئ المحلية والمنظمات غير الحكومية، اللوم على السلطة المنقسمة في البلاد ما بين المركزين المتناحرين، لنقص الأدوية وغيرها من الإمدادات الأساسية، حيث الحكومة الأولى تعمل من طرابلس، أما الحكومة الأخرى فتقبع على بعد 1000 كلم شرقًا في طبرق.
“غالبًا ما يتم إغلاق الطرق، لذلك بالكاد نتمكن من تلبية احتياجات السكان المحليين، واحتياجات العمال الأجانب الـ3000 المسجلين فيما بيننا، الذين ينحدر معظمهم من الصحارى الفرعية”، قال التوشي للميدل إيست آي.
فضلًا عن تقديمها للمساعدة الطبية للسكان المحليين، تم إرهاق منظمة الهلال الأحمر بعمل يفوق مقدار طاقتها في محاولة معالجة أزمة المهاجرين واللاجئين، حيث يقول التوشي: “نقوم بتسجيل الجثث، وإجراء اختبارات الحمض النووي، كما أننا نلتقط في بعض الأحيان صورًا للملابس التي نعثر عليها لاستخدامها كدليل للعثور على المفقودين”.
أشار التوشي إلى أن عدد الجثث تضاءل “بشكل كبير” على مدى الأشهر القليلة الماضية، وذلك بفضل جهود الرجال الملثمين، وعمل المجتمع المدني،”نحن نتعاون مع الرجال المقنعين، حيث يقومون بإخبارنا في كل مرة يجدون فيها مهاجرين” قال التوشي، وتابع: “إنهم مجموعة من الرجال المحليين المثقفين، والكثير منهم يحمل شهادات جامعية”.
أميري من نيجيريا وجد نفسه عالقًا في زوارة بعد خنق طرق التهريب خارج البلدة
الطريق المسدود
رغم الجدل الكبير الذي يدور حولها، إلا أن الحملة الجارية لمكافحة شبكات تهريب البشر في زوارة أثبتت فعاليتها؛ ففي أكتوبر، كانت الميدل إيست آي قادرة على قضاء بعض الوقت على متن مركب الكرامة واحد أو (Dignity One)، وهو أحد القوارب التي تسيرها منظمة أطباء بلا حدود لإنقاذ المهاجرين واللاجئين في منطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث أفادت المنظمة بأن غالبية جهود الإنقاذ في الأشهر الأخيرة تركزت بالقرب من طرابلس بدلًا من زوارة، تبعًا لعدم انطلاق أعداد كبيرة من المهاجرين من الأخيرة.
وقال منسق مشروع الكرامة واحد، خوان ماتياس، بأن عدد القوارب المغادرة من زوارة أضحت “أقل بكثير” على مدى الأشهر القليلة الماضية.
من جهتهم، قال المهاجرون الذين تحدثوا إلى الميدل إيست آي، بأن زوارة لم تعد تُعرف على أنها نقطة انطلاق رئيسية باتجاه أوروبا، بل أصبحت بمثابة طريق مسدود.
ولكن ليس الجميع سعداء بهذه التطورات الجديدة، فهذه الأوضاع ليست مناسبة لأميري، الشاب الذي يبلغ من العمر 23 عامًا، والذي غادر قريته في نيجيريا قبل سنتين تقريبًا وبجعبته 500 دولار فقط آملًا بالوصول على متن قارب إلى أوروبا، حيث يقول: “لقد جئت إلى زوارة لأن أحدهم قال لي بأنها مكان أكثر أمانًا للمبيت حتى تسنح لي فرصة المغادرة إلى أوروبا”.
ولكن أميري عالق اليوم في زوارة، ويقول بأنه قد يتشجع ليقطع طرقات ليبيا المحفوفة بالمخاطر للسفر إلى جزء آخر من البلاد ينعدم فيه القانون، حيث يواصل المهربون عملهم علنًا، ولكن الميليشيات هناك تطارد المهاجرين، وتعتقلهم تعسفيًا بغية الحصول على فدية، وضباط الشرطة يقبضون عليهم ويضربونهم، ورغم جميع ذلك، قد يغامر أميري بالوصول إلى تلك المناطق، لأنه قد يحظى هناك على الأقل بفرصة أكبر للوصول إلى حياة أفضل في نهاية المطاف في أوروبا، والعديد من الآخرين مثله يعتقدون بأنها مخاطرة تستحق المجازفة للقيام بها.
المصدر: ميدل إيست آي