يمكن استخدام عبارة العمليات الإرهابية، لما تعرّضت له باريس في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2015، ليس اقتناعا بدقة الوصف والتسمية، وإنما تجاوزا وتجنبا للخوض في جدل حول المصطلح على خطورته وضرورة تصحيحه.
العمليات الإرهابية التي تمارسها حركة داعش، وفي أي مكان ضربت فيه. تختلف اختلافا نوعيا عن مختلف العمليات الإرهابية أو الحالات الإرهابية التي عُرِفَت في الماضي، ولا سيما في القرن العشرين حتى بروز داعش، وعلى التحديد، إلى تمكّنها من السيطرة على المنطقة الممتدة من الموصل في العراق إلى الرقة في سوريا، ثم إعلانها قيام “دولة الخلافة” وتسمية “أبو بكر البغدادي” خليفة لها.
اتسّمت العمليات الإرهابية التي عُرِفَت في الماضي بوجود دولة كبرى أو وسطى أو حتى صغيرة وراءها، وكانت تحمل مغزى في توقيتها، وفي الهدف الذي تضربه، وفي ما تريد أن تبلغه من سياسة لمن يعنيه الأمر. أما العمليات الإرهابية التي مارستها قوى محلية فقد حملت هدفا معينا يخصّ ذلك البلد ونظامه ورئيسه. ولم تكن قد جعلت كل البلدان في العالم هدفا لها. فالحركة الفوضوية عندما قدّمت نفسها كحركة أممية إنما حدّدت لنفسها هدف ضرب وجود الحكومة، أيّة حكومة، من حيث أتى.
والعمليات الإرهابية التي مارستها الدول الكبرى من خلال مخابراتها، وضدّ بعضها بعضا، كانت تحمل هدفا محدّدا تريد تحقيقه. ولم تكن مفتوحة الأبواب لتضرب كيفما لاح لها أن تضرب.
لذلك كان المحللون السياسيون في مواجهة وقوع عملية إرهابية، يتبارون في معرفة اليد الخفيّة وراءها، ثم يَنكبّون على قراءة الأبعاد السياسية التي حملها التوقيت، والمكان، كما الضحية التي استُهدِفَت، أو الضحايا. وكان يسهل، في الماضي، توقع الردّ عليها من جانب الذي وَجَّهت إليه رسالتها. ومن ثم يُصار إلى إعادة تنظيم أصول اللعبة في الصراع إذا لم يقتضِ الأمر إعادة تكرارها، وإعادة الردّ على المكرِّر من أجل الوصول إلى تنظيم أصول اللعبة أخيرا.
الوضع الآن اختلف اختلافا جوهريا عما كان عليه الحال، أو الحالات في الماضي. فمن جهة اختلفت موازين القوى في ما بين الدول الكبرى والإقليمية والعربية فالسيطرة على النظام العالمي والإقليمي والعربي أصبحت مفقودة، وغدا الوضع أقرب إلى اللانظام والفوضى والارتباك العام. ولعل أخطر ما يتسّم به الوضع الراهن هو عدم استعداد أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أن تُرسِلَ جيوشها وتكتسح البلدان الأخرى. فإن أقصى ما أصبح بمقدورها، أو ضمن استراتيجيتها العسكرية أن تفعله هو التدخل من خلال الطيران، والمخابرات (التي فقدت قدرتها على صناعة الانقلابات). وهذا يعني عدم القدرة على الحسم في مواجهة أيّة قوّة صغيرة متمردّة أكانت إرهابية أم لم تكن كذلك. فحركة مثل داعش مثلا لم تكن تحتمل في القرن التاسع عشر أو القرن العشرين حتى 2003 أن تصمد أمام جيش من جيوش الغرب أكثر من أيام معدودات حتى تصبح مشرّدّة مطاردة في الجبال.
والوضع الآن، من جهة ثانية، ولا سيما في البلاد العربية عموما، ونتيجة للخلل الذي حدث في موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية، أصبح يُواجِه حالات لم يسبق لها مثيل من ناحية التفكك في علاقات الدول العربية بعضها مع بعض، كما من ناحية ضعف قبضة الدولة القطرية العربية وما راحت تواجهه في عدد من أقطارها الرئيسية من تصدّع وانقسامات وفقدان للسيطرة، مما راح يهدّد التجزئة العربية بما يمكن تسميته تجزيء المجزّأ.
ويجب أن يُشارَ هنا إلى التراجع الذي أصاب الكيان الصهيوني نتيجة ما حلّ بالسيطرة الغربية العالمية من ضعف في ميزان القوى ومن عجز عن التدخل العسكري الميداني المباشر، ثم نتيجة هزيمة جيشه في أربع حروب 2006 في لبنان و2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة ومن قبل اندحار احتلاله لجنوب لبنان عام 2000 ومن بعده اندحار الاحتلال وتفكيك مستوطناته في قطاع غزة 2005. فالجيش الصهيوني منكفئ مندحر، ولم يعد ذلك الجيش الذي يصل قناة السويس بسرعة الدبابة ويتهدّد أيّة عاصمة عربية بالاحتلال والقصف.
ضمن هذه الأوضاع الجديدة وما شهدته البلاد العربية في ظلها من تغيّرات واهتزازات خلال الخمس سنوات الماضية، دخلت العمليات الإرهابية من خلال داعش مرحلة مختلفة إلى حدّ بعيد عما كانت عليه الحال، أو الحالات، في السابق. وقد اتسّمت بصورة أساسية بطبيعة داعش الشاذة عن كل ما سبقها. ومن ثم لم تعد المناهج السابقة في قراءة العمليات الإرهابية صالحة لقراءة عمليات داعش.
فعندما تحدث عملية إرهابية في أي بلد عربي أو إسلامي أو دولي، لا تبحث عن لماذا استُهدِفَ هذا البلد بعينه، ولا تبحث عن التوقيت أو أبعاده، ولا عن الهدف المحدّد وراءه. فبالنسبة إلى داعش فالقرار مأخوذ ضدّ الجميع، وحيثما توفرّ، وفي أي وقت أمكن الضرب. فالإعداد للعمليات مفتوح على مصراعيْه في كل مكان، والمنهج الذي يُطبّق هو نفسه، وليس هنالك من سقف أو حدود أو محاذير. والهدف هو نفسه، على العموم، في كل مكان. فأينما وُجِدَت نقطة ضعف أو توفرّ الإمكان، تقرّر التنفيذ.
أما ما قد ينجم عن هذه العملية من نتائج، ومن يمكن أن يفيد منها أو يستخدمها فكل ذلك لا يدخل في حساب داعش، عكس ما كان عليه وضع العمليات الإرهابية في السابق. فالهدف الأول أن تُثْبِت داعش قدرتها وهيبتها ووجودها في كل مكان. وأن تشيع الرعب في صفوف الجميع من الناس العاديين أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، أو أكانوا عربا أم غير عرب فالمهم هو الاعتماد على الوصول إلى هدف إخافة الجميع. فداعش تعتقد بمبدأ “أن النصر يأتي من خلال الرعب”. وهذا يفسّر تعمّدها للوحشية القصوى وتوزيع ذلك من خلال الصوت والصورة وبأعلى درجات الإتقان الفتي في مشهد الجسد المحترق والرأس المقطوع والقتل الجماعي لأبرياء في شارع عام أو صالة، أو مقهى أو مسجد أو طائرة.
لذلك يصعب أن يُحدّد نسَق معيّن في عملياتها، أو في تحديد توقيتها، أو الهدف المباشر منها. فالضربة التي وجهتها في فرنسا كان يمكن أن تكون في لندن أو في برلين، أو في نيويورك أو موسكو أو شنغهاي. والضربة التي وجهتها للضاحية كان يمكن أن تكون قبل ذلك في أي وقت، والضربة الأخيرة التي استهدفت تونس كان يمكن أن تكون في غزة أو الجزائر أو الدار البيضاء أو في أي وقت آخر.
فأنت تتعامل مع استراتيجية في العمليات الإرهابية مفتوحة على توفّر الإمكان في أي مكان، وفي أي وقت، وبلا حساب لعدد الضحايا أو هويّتهم الدينية أو المذهب أو القومية أو القطرية أو القاريّة أو الجهوية. فكل من هو ليس بداعش أي لم يبايع “الخليفة” مرشح للذبح أو في أحسن الحالات يُعامَل باعتباره “مُسّخرا (مؤقتا)، ولو قدّم لها تسهيلات مرورية أو تجارية، أو ما شابه.
فلا نسَق هناك ولا توقيت ولا مكان ولا مجموعة إنسانية هناك. فليس هنالك غير هدف إثبات القدرة وتوسيع المنخرطين أو المبايعين وإشاعة الرعب. أما ردود الفعل الأخرى أكانت سلبية حتى على داعش فلا تدخل في الحساب والاعتبار، أم كانت إيجابية في مصلحة من تعتبرهم ألدّ أعدائها أم انقلب عليها، وكان يهادنها أو مسّخرا لها أم متجنبا لأفرادها، فأيضا خارج الحسابات والاعتبار (وهنالك أمثلة كثيرة على ذلك).
إذا صحّت هذه القراءة، فإن أول ما يجب أن يُواجَه به داعش هو إبطال إشاعة الرعب منها وتوسيع روح التحدّي، وذلك على مستوى الناس العاديين وفي كل مكان، كما على مستوى النخب والقوى السياسية التي تتصدّى لها. أما النقطة الثانية فموّجهة إلى كل من يحاول الإفادة من عمليات داعش لتحقيق سياسات أخرى غير هدف مواجهتها. وهذه النقطة بالذات آفة الدول الكبرى التي تتعاطى مع الموضوع كما دول أخرى. وهذا يفسّر لماذا لازالت داعش قادرة على ممارسة كل هذا التحدّي والارتكابات. وهو أمر يتناقض مع حجمها وكل موازين القوى حين نُعدّد من يعلنون خصومتهم لها.
فالإشكال هنا ليس في قوّتها وإنما في التناقضات القائمة بين الأطراف الأخرى، مما يفسح لها مجال الوجود والبقاء، وحتى استمرار ما تقوم به من عمليات تشغل الواحدة منها العالم كله. وهذا خارج كل معقول إذا ما اعتمدنا على ما كان معقولا في الماضي. فإذا استمرّ كلٌ يغني على ليلاه وهو يُنْكِر ليلى الداعشية، فكل ما يجري من ضجيج في مواجهة داعش لن يؤدي إلى إصابة داعش في مقتلها، وإنما هو ضربٌ على الريش.
والسؤال الأخير، ولو خارج السياق، أين هي الاختراقات المخابراتية ولماذا لم تكشف عملية بحجم هجمات باريس؟