تُحسن الأنظمة ولا سيما العربية تطويع الأزمات لخدمة مصالحها، كما تحسن استغلال عمليات إرهابية تشنها تنظيمات عنيفة في تمرير قوانين فاشية تطيح بجميع الخصوم السياسيين دون أن تمس شعرة من منفذي تلك العمليات، فتوقع الأنظمة مع كل أزمة كافة معارضيها في شركها ليكونوا دمية سهلة التحريك وإن أبوا فمصيرهم الهلاك وبشكل قانوني حفاظًاعلى شكل الدولة في الأعين، وتقوم بذلك تحت شعار محاربة ومكافحة الإرهاب في حملاتها القمعية واسعة النطاق.
تونس التي أشعلت ثورات الربيع العربي في 2011، تعود تدريجيًا إلى ما كانت عليه من القمع قبل الثورة التونسية، والسبب في هذا القمع يعود بكل تأكيد إلى الأنظمة التي حكمتها بعد تلك الفترة وأسلوب الإدارة الذي اتخذته تلك الأنظمة، ونستطيع أن نأخذها هنا كمثالٍ لنهج الأنظمة المتبع في سوء استغلالها الأزمات لتقضي بها على معارضيها، يُظهر لنا أيضًا كيف تتحول تونس الثورة إلى تونس القمع ما قبل الثورة.
اعتقالات وأحكام قضائية بسبب تدوينات على فيسبوك
المحكمة الابتدائية بتونس قضت الخميس الماضي الذي وافق تاريخ 30 نوفمبر بالسجن لمدة عام على المدون وأستاذ الرياضيات عبد الفتاح سعيد، مع تغريمه ألفي دينار (960 دولارًا تقريبًا)، وأتى هذا الحكم على خلفية نشر سعيد كتابات تنتقد مسؤولين بالحكومة التونسية على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك في شهر يوليو الماضي، وكذلك نشره فيديو عن العملية الإرهابية التي شهدها المنتجع السياحي بالقنطاوي في محافظة سوسة التونسية (وسط شرق) وحديثه عن تورط مسؤولين عموميين في العملية.
يجدر الإشارة إلى أن هذه الواقعة ليست الأولى من نوعها، فبسبب تدوينات نُشرت على الحساب الشخصي على فيسبوك لمدون تونسي آخر يدعى مهيب التومي، وانتقاده تجاوزالأمن في أحداث العنف التي وقعت خلال إحدى فعاليات حملة “وينو البترول”، تم اعتقال المدون في يوليو الماضي، ليحكم في قضيته التي اتهم فيها بالقذف العلني والتطاول على رئاسة الجمهورية بعدم سماع الدعوى في أواخر أغسطس الماضي.
في منتصف أبريل الماضي، أفرجت محكمة الاستئناف في تونس عن المدون، ياسين العياري، بعد قضائه ستة أشهر في السجن وهي نصف العقوبة التي قررتها المحكمة ضده، حيث حوكم العياري عسكريًا بتهمة انتقاد أداء المؤسسة العسكرية بسبب مجموعة من المقالات التي كتبها ونشرها على حسابه الخاص على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك، بسبب تلك المقالات صدر حكم غيابي بحقه بالسجن 3 سنوات وبعد اعتقاله في ديسمبر من العام 2013 وتقديمه استئناف على هذا الحكم خُفف الحكم إلى سجن سنة مع النفاذ ليقضي نصف المدة قبل أن يُفرج عنه.
تقويض حرية التعبير لم يقتصر على مواقع التواصل الاجتماعي وحسب، بل طال أيضًا عمل الصحفيين والإعلاميين في نشر الأخبار والأحداث ومجريات الأمور، ففي منتصف الشهر الماضي أقيل رئيس التليفزيون الحكومي في تونس بعد بث التليفزيون صورًا لرأس الشاب، مبروك سلطاني، الذي ذُبح في سيدي بوزيد منتصف نوفمبر الماضي على يد أعضاء منتمين لتنظيم الدولة، وذهبت الدولة إلى تحذير الصحفيين الذين يبثون مثل تلك الصور، وقالت في بيان أصدرته وزارة العدل التونسية أن من يخالف ذلك من الصحفيين يمكن أن يواجه تهم تقويض جهود البلاد في مكافحة الإرهاب.
إعلان حالة الطوارئ مرتين في عامٍ واحد
عقب التفجير الذي وقع أواخر يونيو الماضي وأدى إلى مقتل نحو 39 سائحًا أغلبهم من السياح البريطانيين، دعا الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي الحكومة إلى اتخاذ إجراءات “موجعة” لمكافحة الإرهاب، وقالت الرئاسة إن “المجلس الوطني للأمن” الذي يضم وزيري الدفاع والداخلية وعدد من القيادات العسكرية والأمنية، وضع خطة أمنية متكاملة لتفعيل التصدي لأي عملية إرهابية قد تستجد بالبلاد، لكن تلك الإجراءات الموجعة للإرهاب والخطة الأمنية المتكاملة للتصدي لأي عمليات مشابهة، لم تحاسب المتورطين في الحادث الذي تبناه تنظيم الدولة، ولم تتصد فعليًا للعمليات المشابهه، لكنها كانت ستارًا لتوقيف المدونين والناشطين المعارضين للنظام أمثال المدون عبد الفتاح سعيد.
فقد شهدت العاصمة التونسية تفجيرًا تبناه تنظيم الدولة أيضًا في 24 من نوفمبر الماضي بعد تفجير حافلة تقل حرسًا رئاسيًا والتي راح فيها نحو 13 قتيلًا وأكثر من 20 جريحًا، لكن هذا الحادث ربما تم استغلاله كغيره ليتم انتهاك بعض الحقوق الإنسانية، فإبان الحادث تم الاعتداء اللفظي والجسدي على نحو 30 صحفيًا ممن وصلوا لتصوير مكان الحادث، وقامت قوات الأمن بتطويق المكان ورفضت السماح للصحافيين بمزاولة عملهم، كما قامت بتحطيم بعض المعدات وآلات التصوير الخاصة بالصحفيين، فاستغل الحادث للتضييق والتعدي على الصحفيين ومنعهم من مممارسة عملهم، ورأى البعض ذلك أنه تعدٍ على حق الجمهور في الحصول على المعلومات وحكر نشر المعلومات على المصادر الرسمية فحسب.
أما السبسي، فقد خرج معلنًا حالة الطوارئ مدة 30 يومًا، للمرة الثانية هذا العام، كما فرض حظر التجول في العاصمة من التاسعة مساءً حتى الخامسة صباحًا إلى أجلٍ غير مسمى، وذلك بعد أقل من شهرين على رفعها، حيث رفعت السلطات التونسية حالة الطوارئ مطلع أكتوبر الماضي، بعد أن استمرت ثلاثة أشهر متتالية منذ أن فرضت في الرابع من يوليو إثر هجوم سوسة، وكان آخر وقت أُعلنت فيه حالة الطوارئ قبل الأخيرتين هو إبان الثورة التونسية في العام 2011، وقد رفعت في مارس 2014.
حالة الطوارئ تمنح السلطة التنفيذية سلطات كثيرة في حظر الإضرابات والمسيرات وكذلك حظر التجمعات التي تصنفها على أنها مخلة أو مهددة للأمن، وأيضًا تعطيها القدرة على فرض الإقامة الجبرية على الأشخاص الذين تعتبر السلطة التنفيذية نشاطهم خطيرًا على الأمن والنظام، كما يحق لها اتخاذ إجراءات لمراقبة الصحافة والبث الإذاعي وكل أنواع المنشورات، وحتى العروض السينمائية والمسرحية، في ظل غياب الرقابة القضائية المباشرة على تلك الإجراءات، ما يهدد المساس بالحقوق الأساسية للأفراد والجماعات.
تلك السلطات مُنحت إلى السلطة التنفيذية لا سيما وزارة الداخلية التونسية (الوالي أو المحافظ) بموجب حالة الطوارئ المفروضة، رغم أن متابعين يرون أنه لا يوجد ظروف استثنائية حقيقية كحالة حرب أو فتنة اجتماعية ستؤدي إلى اندلاع حرب أهلية أو غيرها من المخاطر الداهمة التي قد تعرض كيان الدولة للزوال والتي تستدعي إعلان حالة الطوارئ، كما يرون أن الاستناد في إعلان حالة الطوارئ على مرسوم صدر في 1978 الذي يمكن الرئيس من اتخاذ تلك الخطوة لا يتناسب مع أحكام الدستور الجديد ومنظومة الحقوق والحريات التي تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية، كما أن الإجراءات المُتخذة لا تتناسب مع الواردة في المرسوم ولا تتناسب مع الشروط المستوجبة لإعلان الحالة الاستثنائية الواردة في الدستور التونسي.
وقد أشار تقرير لمنظمة العفو الدولية أن السلطات تسيء استخدام تدابير حالة الطوارئ، وقالت إنه منذ الإعلان عن فرض حالة الطوارئ في يوليو الماضي نفذ ما لا يقل عن 1880 مداهمة لمنازل مواطنين في مختلف أنحاء البلاد، فيما اعتقل 155 شخصًا على الأقل بسبب الاشتباه بهم، بينما وضع 138 شخصًا قيد الإقامة الجبرية.
ولفتت إلى أن عمليات المداهمة التي يقوم بها مسلحون ملثمون من عناصر الشرطة تروع العائلات بسبب اقتحام وتكسير الأبواب وتفتيش المنازل دون التعريف عن أنفسهم أو إبراز أي مذكرات أو قرارات تسمح بالتفتيش، كما تحدثت عن تصويب البنادق إلى سكان تلك البيوت، الأمر الذي يسبب الرعب للأطفال والأمراض لكبار السن من أصحاب الأمراض المزمنة، وأشارت المنظمة الدولية إلى تعرض البعض ممن يتم اعتقالهم إلى الضرب أثناء نقلهم للاستجواب.
مع تلك الإجراءات التي اتخذتها السلطات التونسية في مقايضة الأمن بالحرية فإنها اتخذت إجراءات أخرى مع إعلان حالة الطوارئ في يوليو الماضي قضت بإغلاق نحو 80 مسجدًا تقول الحكومة إنها خارجة عن سيطرة الدولة، كما حظرت المظاهرات في جميع أنحاء الدولة التونسية، واستخدمت القوة المفرطة لتفريق المحتجين، وأوقعت العديد من الإصابات في صفوف المتظاهرين.
قوانين تعضد القمع
من ضمن الإجراءات “الموجعة لمكافحة الإرهاب” التي تحدث عنها السبسي أعقاب تفجير سوسة أواخر يونيو الماضي تمرير قانون جديد لـ “مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال” من خلال البرلمان التونسي، القانون ثغرته الأساسية تكمن في كونه مطاطًا وفضفاضًا فلا يوجد به تعريف لـ “الإرهابي”، أو ما هو الإرهاب؟ وإنما يكتفي بتعريف “الجريمة الإرهابية”، وهو ما قد يتسبب في قمع بعض الأعمال كالمظاهرات السلمية تحت هذه المزاعم، كما يسمح باحتجاز المشتبه بهم بمعزل عن العالم لمدة تصل إلى 15 يومًا دون السماح لمحامييهم أو عائلاتهم بزيارتهم ما يزيد من مخاطر تعرضهم لسوء المعاملة أو تعذيب.
القانون الجديد الذي يُعد بديلًا عن قانون 2003 الذي استغله الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في محاكمة نحو 3000 شخص، بحسب منظمات حقوقية، أبقى هذا القانون على عقوبة الإعدام، كما فرض رقابة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ويسمح كذلك بعقد جلسات غيرعلنية للمحكامات دون أن يحدد المعايير الواجب توافرها في إجراء الجلسة المغلقة، كما أن القانون نص على عدم الكشف عن المعطيات التي من شأنها تحديد هوية الشهود، وهذا يحرم المتهمين من حق الاعتراض على تلك الشهادات وإعداد دفاع جيد.
كما استخدم عبارات فضفاضة في التهم الخاصة بالإشادة أو تمجيد الإرهاب، الذي قد يصل حكمه بالسجن حتى 5 سنوات، إذ يرى مراقبون أن القانون أفرط في المحاسبة على أساس الشبهة وليس على أساس ثبوت الجريمة، كما يمنح قوات الأمن سلطات واسعة في مراقبة الأشخاص، حيث يمنح القانون أجهزة الأمن والمخابرات سلطة استثنائية في استخدام طرق تحرّي خاصة كالتنصّت واختراق المكالمات والاطلاع على محتوى الاتصالات ونسخها وتسجيلها.