من الممكن أن يبدو السؤال بديهيًا للبعض، كيف يمكننا أن نحب؟ الأمر يبدو بسيطًا للغاية، فالبعض يزعم بأن الحب مجرد مشاعر، لذا لا داعي لكل تلك التعقيدات والتفاصيل الهامشية، إلا أن هذا الزعم لا يجتمع عليه الكثير، وخاصة علماء الفلاسفة والاجتماع منهم، فالإجماع يكون على أن الحب هو أكثر التجارب الإنسانية غموضًا، على الرغم من دراسته وتحليله نفسيًا وفلسفيًا، بل في بعض الأحيان يتم تفسيره رياضيًا، إلا أنه يظل ذلك الشيء الممتع والغريب، والذي لم يستطع الجميع فك سر غموضه بعد.
الذهن في البوذية يعني كل من العقل والقلب، فلا تفرقة بينهما كما تفعل المدارس الغربية، فكلمة “بوذي” تعني الحالة الأسمى من النقاء، وهي الحالة التي يحاول أتباع البوذية الوصول إليها عن طريق التخلص من كل العقبات الذهنية والشعورية، وهي التي تتلخص في المشاعر المزعجة والمربكة للحالة الإنسانية المستقرة، كالغيرة والغضب والأنانية وانعدام التركيز وعدم الفهم، فالبوذية تعمل على التخلص من تلك المشاعر المربكة عن طريق “النمو”، وهو النمو الشعوري والذهني، حيث يؤمن أتباع البوذية أن كل منا لديه المادة الخام الأصلية التي تساعدنا على التواصل والفهم، ويختلف كل منا في طريقة استخدامه لتلك المادة الخام في طريقة تعامله مع البشر.
ثيت نات هانه: أحد رهبان البوذية، ومعلم وناشط سياسي يعمل على حل النزاعات عن طريق السلام
تعتمد طريقة “ثيت نات هانه” في تعليم الحب على أن التفاهم هو أحد مسميات الحب البديلة، فهو يرى أن القدرة على تقدير وفهم معاناة الطرف الآخر هي علامة من علامات الحب، وهي من أعظم الهدايا التي يمكنك أن تقدمها لمن تحب، قد تبدو كلمة “معاناة” أو “ألم” درامية بعض الشيء، إلا أنها في البوذية تعني عدم الرضا عن النفس سواء كان عدم الرضا الجسدي أو الروحي أو العاطفي، فالبوذية ترى أن الجميع يبحث عن شخص ليفهمهم في حياتهم، على الرغم من أن ذلك يبدو سهلًا وبسيطًا نظريًا، لكن تأتي التعقيدات في التطبيق، فيشعر البعض بتفاهة تعلقهم بالشخص الآخر ومحاولاتهم المستمرة والمضنية في فهمه، فيوضح “ثيت نات هانه” الطريقة كالآتي:
“إذا وضعت بعضًا من الملح في كوب من الماء، سيتعكر الكوب وسيصبح غير قابل للشرب، أما إذا فعلت الشيء نفسه في النهر، فهو لدية القدرة على الاستمرار رغم ذلك، وسيستمر الناس في الشرب منه، واستخدامه لأغراضهم المختلفة، لأن النهر لديه القدرة على التحمل والتقبل بسرور، وأن يحتوي ما سكبته فيه، هذا ما يحدث عندما تصبح قلوبنا صغيرة، فتكون القدرة على الفهم والتحمل والتعاطف محدودة، فنبدأ في المعاناة وعدم مسامحة الطرف الآخر على قصورهم ونطالب بالتغيير، ولكن عندما تكون قلوبنا أكبر، سيكون لدينا القدرة على التفاهم والتعاطف بشكل فعال، وسنستطيع احتواء من نحبهم، وبالتبعية سنترك لهم الفرصة ليتغيروا من أجلنا.
السؤال هنا، كيف لنا أن نغير من نمو قلوبنا، والذي يرتبط بمدى التفاهم بين الطرفين ويقلل من المعاناة؟
“عندما نحقق السعادة لأنفسنا أولًا، ونقوم بالتأكد من قدرتنا على الحب، ففن الحب هو تعلم كيفية تحقيق السعادة لأنفسنا ولمحبينا”.
تؤمن البوذية بـ “الصدى الإيجابي” لتعلم الحب، وهو المبدأ الذي يعتمد على التقليد، كتعلم الأبناء للمشاعر الإيجابية والتعاطف والتراحم من الآباء عند رؤيتهم يتبعون ذلك الأسلوب أمام أعيننا، فيكتب “ثيت نات هانه” في ذلك:
“إذا لم نجد الحب والتفاهم بين أبوينا، كيف لنا أن نعرف كيف يكون الحب؟ أكثر الأشياء الثمينة التي يمكن للأبوين أن يتركوها لأبنائهم كنوع من الإرث هي سعادتهم الخاصة، فمن الممكن أن يترك الأبوين المال، الأرض، والمنزل، ولكن من الممكن ألا يكونوا شركاء سعداء في حياتهم، أعتقد أن سعادة الأبوين هي أثمن إرث في هذه الحياة”.
الإعجاب الشديد من الممكن أن يكون وهم
الفرق بين الافتتان بالطرف الآخر وبين الحب، من الممكن أن يوضح الكثير من الأفكار الوهمية التي يصنعها الإعجاب والتي يكون محورها هو تخيل كيف من الممكن أن يكون هو أو هي مناسبين بشدة لنا:
“أحيانًا نقحم أنفسنا في دائرة الإعجاب الشديد بالشخص، لا لأننا نحبه بحق، بل لأننا نريد صرف انتباهنا الشخصي عن معاناتنا أو الفترات المؤلمة في حياتنا، والحل هنا أن نتعلم أن نحب أنفسنا أولًا، ونفهم ذاتنا قبل محاولة فهم شخص آخر ومنحه مشاعر لم نعطها لأنفسنا في المقام الأول، وفي الأغلب نقع في تلك المعضلة عندما نشعر بالفراغ داخل أنفسنا، وذلك الشعور يكون قوي لدرجة أنه يدفعنا لمحاربته بأن نجعل أنفسنا أقل وحدة، وأقل فراغًا، حتى أنه يمكننا أن يشعرنا بالشوق أحيانًا لمعرفة أنفسنا بدرجة أفضل عن طريق أشخاص غيرنا، مما يدفعنا أن نبحث عن ذلك الشخص بطريقة غير عقلانية، لنكون محبوبين من طرف الغير، أن نحب ونشعر بالحب في المقابل أمر طبيعي في الحياة البشرية، ولكن تكمن المشكلة عندما لا نفهم أنفسنا بالشكل الكافي، ولكننا بالفعل وجدنا هدفًا ليحبنا، ونبدأ حينها باتخاذ الطريق الخاطئ في طريقة حبنا لهذا الشخص لأننا نبحث فيه عن تحقيق توقعاتنا والتي في الأغلب لا نجدها، أو لأننا نبحث معه عن شيء لا نعرف في الأصل ماهيته، ولكنك تستمر في توقع وانتظار الأفضل، ولهذا أنت مازلت متمسك به وتنتظر مهاتفته لك.
ترى البوذية أن الحب الصادق يكمن في أربعة مبادئ: العطف، الرحمة، المتعة، والاتزان، وهي من تمنح الحب الصادق تلك القداسة التي نبحث عنها، ولذا لا يمكنك تحقيق تلك المبادئ مع شريكك إلا بعد أن تحققها لنفسك أولاً، فأساس الحب هو أن تمنح السعادة لشريكك، ولا يمكنك منح تلك السعادة إلا بعد أن تمنحها لنفسك أولًا، لذا تكمن الخطوة الأولى في بناء منزلك الخاص داخل نفسك أولًا، وأن تحاول أن تعالج نفسك وتمنحها الاتزان الخاص بها وأن تسعدها، وذلك عن طريق تدريب ذهنك على خلق لحظات من السعادة خاصة به وحده، لتصبح قادرًا بعدها على منح تلك اللحظات لمن تحب، كما أن الترابط ما بينك وبين من تحب يكمن في المبدأ الرابع الذي ذكرته البوذية للتعبير عن الحب الصادق، ألا وهو الاتزان، فمن خلال الاتزان الذي يحقق العلاقة الصادقة والعميقة يمكننا أن نرتقي لمبدأ الشمولية، وهو لا حاجز بينك وبين من تحب، معاناتك ستصبح هي معاناته، وعلى درجة تفاهم لتلك المعاناة سيقلل من معاناة من تحب ذاته، حينها لا يمكنك قول “تلك هي مشكلتك” لشريكك، فسعادته ستكون هي سعادتك بشكل أو بآخر، فكلما كانت لديك القدرة على فهم معاناته، كلما كانت لديك القدرة على المساعدة والاحتواء، وتقليل تلك المعاناة بطريقة أو بأخرى.
“عندما تحب شريكك بدون معرفة كيف لك أن تحبه فأنت تؤذيه، فإذا أردت أن تحبه يجب عليك أن تفهمه، وإذا أردت أن تفهمه، عليك أن تصنت جيدًا لما يقوله، وأن تكون مستمعًا بارعًا”.