ترجمة وتحرير نون بوست
“شغلوا الموسيقى” يصرخ مويسيس كورالت، وهو يتبختر أمام الحشد المتجمع أمامه ويعزف على أصغر هارمونيكا في العالم، “اوقفوا الموسيقى”، صرخ صديقه كارلوس إسبوزيتو، الذي يرتدي بنطالًا مخمليًا أرجوانيًا وقبعة بلون قوس قزح، ويسحب الهارمونيكا التي لا يتجاوز طولها السنتيمترين من يد مويسيس، ليقابل الأطفال الذين يشاهدونهما بدهشة.
يرفع مويسيس، بأنفه الأحمر وعيناه الموشحتان باللونين الأبيض والأسود، قميصه فوق الجزء الخلفي من رأسه، ويصرخ “شغلوا الموسيقى”، وهو يضرب بيديه على بطنه محاكيًا صوت ضربات الموسيقى، “اوقفوا الموسيقى” يصيح كارلوس مرة أخرى، وحينها يلتف مويسيس بهدوء ليصبح خلف كارلوس، ويسقط القبعة الملونة من على رأس الأخير، ويضرب رأس كارلوس الأصلع بحركة بهلوانية، ويصرخ “شغلوا الموسيقى”، وحينها يدخل الجمهور في موجة من التصفيق العارم.
آنا تسحب باقة من الزهور بحركة سحرية أمام الحشد الذي يشاهدها
في ظهر كل يوم، ينضم مويسيس وكارلوس لمهرجين آخرين، إيلينا إيكسبيلي وآنا مونتسيرات، ليؤدوا جميعًا عروضهم فوق قطعة من الأرض المليئة بالتراب في مخيم للاجئين في أدوميني باليونان، وبجوار الخيام التي نصبتها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين هناك، يؤدي المهرجون حركات بهلوانية، ألعاب خفة، يعزفون الموسيقى، ويقومون بالخدع السحرية.
مويسيس، كارلوس، إيلينا، وآنا جميعهم أعضاء في جماعة تطلق على نفسها اسم “مهرجون بلا حدود”، وهي منظمة دولية غير حكومية، تقدم برامجها للمجتمعات المنكوبة جرّاء الصراع والحرمان في جميع أنحاء العالم، ومنذ أغسطس، زار المهرجون ليسفوس وبريسيفو في صربيا لتقديم عروض تسلية للاجئين.
منذ بداية أكتوبر، أدى المهرجون التابعون لمنظمة مهرجون بلا حدود عروضهم أمام الآلاف من الأطفال والبالغين في أدوميني، حيث يضطر هؤلاء المهاجرين للانتظار لعدة أيام، وأحيانًا لعدة أسابيع في المنطقة، للمرور عبر الحدود اليونانية – المقدونية.
مؤخرًا، وبعد قيام بعض دول البلقان بمنع الأشخاص من جنسيات معينة من عبور حدودها، اضطر الآلاف من اللاجئين للإقامة في مخيم أدوميني إلى أجل غير مسمى، والترفيه المرح الذي يقدمه المهرجون هناك، هو أحد مصادر الإلهاء الوحيدة التي تُقدم الفرحة والسلوان للاجئين عن الأخطار التي واجهتهم، وسوف تواجههم في المستقبل.
أثناء وقوف آنا على يديها فوق كتفي كارلوس، يجلس الأطفال القرفصاء على الأرض وهم يراقبون تحركاتهما بتعجب، وذويهم، الذين ينفجرون هم أنفسهم مقهقين ضحكًا في كثير من الأحيان، يقفون على شكل نصف دائرة وراء الأطفال، ويتابعون العرض بافتتان يشابه ولع أطفالهم.
“ابنتاي تشاهدان هذا العرض كل يوم، إنهما تضحكان وتستمتعان به للغاية”، يقول محمد، وهو أب إيراني يقف في مؤخرة الحشد، ويوضح بأن العائلة حضرت العروض كل يوم خلال كامل الأسبوع الماضي، تبعًا لعدم وجود أي شيء آخر يمكن القيام به في أدوميني.
“هذا العرض يجعلهما سعيدتان”، يقول محمد، وهو ينظر إلى ابنتيه، هيلين البالغة من العمر سبع سنوات وهيلما البالغة من العمر عامين، وهما تجلسان عند قدميه، قبل أن يضيف بشكل قاطع: “إنها سعادة صغيرة ومؤقتة فقط، فنحن بحاجة إلى حياة أفضل”.
الأطفال يستمتعون بالعرض
بعد العرض، يعمد الأطفال لالتقاط صور السيلفي مع المهرجين، بغية إرسالها في وقت لاحق لأقاربهم وأصدقائهم في بقاع أخرى من الأرض.
يوضح كارلوس، الرجل الأرجنتيني القوي الذي يبلغ من العمر 33 عامًا، دوره ضمن الفرقة بقوله: “أقوم بتقديم عروض خيرية خاصة في كل عام مع منظمة مهرجون بلا حدود”، ويتابع: “في العام الماضي ذهبت إلى الهند، إنها المرة الثانية التي أعمل فيها هناك، كما عملت أيضًا في كوسوفو وفلسطين، في نابلس ورام الله والقدس”.
يعمل كارلوس مع منظمة مهرجون بلا حدود لمدة شهر تقريبًا من كل عام، ويقضي بقية عامه يعمل في إسبانيا، مقدمًا عروضه للسياح على الشواطئ وفي الشارع.
“أنا أحب عملي لأنه يخفف من مخاوف الناس وقلقهم”، يقول كارلوس، ويشير إلى أنه لاحظ بوضوح الفارق الذي استطاعت عروضه التي يقدمها منذ بداية أكتوبر في أدوميني أن تحققها في نفسيات اللاجئين المحطمة.
“مشاهدة مهرج تساعد الأشخاص على الاسترخاء، كما أن هذه العروض يمكنها أن تعطل التوتر الذي يشعر به الناس، ربما لساعة، أو لساعتين، ولكن بالنسبة لي، هذا شيء عظيم”، يقول كارلوس، ويتابع: “جميع الأشخاص العاديين، وحتى الأغنياء، لديهم مشاكل، وعندما يرون مهرجًا مثلي، يبدأون بالابتسام والضحك، ويباشرون بالتفكير بطريقة أخرى، إنها بداية مناسبة لنسيان مشاكلهم”.
“هل يمكنني؟ هل يمكنني التقاط صورة؟” قالت آنا مقاطعة، وسحبت كاميرتها الصغيرة من حقيبتها، التي تحمل أغلب أسرار عملها، “سأنشرها على البريد الإلكتروني؟ أو على الفيسبوك؟ الفيسبوك”، قالت آنا، واتجهت قبالة بعض الأطفال لتلقط صور سيلفي معهم، ولسان حال آنا يقول، هنا وبوجود المهرجين، لا ينبغي أن تأخذ أي أمر على محمل الجد.
آنا، كارلوس، مويسيس، وإيلينا يقطعون المخيم بسيارتهم، ومع مرورهم، ترتسم الابتسامات على وجوه الناس، فمجرد وجود المهرجين ينهي اليأس والتوتر، أما الأطفال، فيتهافتون إليهم ليعرضوا عليهم ألعابهم، مدركين بأن المهرجين، سوف يقدرون تمامًا مقدار المتعة التي تحملها هذه الألعاب، وأثناء مرورهم بالمخيم، يلقي جميع البالغين تقريبًا التحية، والكثير منهم يتشكرهم أيضًا، وبالمجمل جميع من في المخيم يعرفهم حق المعرفة.
المهرجون، كما يقول مويسيس، موجودون هنا لتسلية البالغين كما لتسلية الأطفال، “إنهم حقًا بحاجة للتسلية، فهم يصلون إلى هنا متعبين ومجهدين وحزينين للغاية، ورغم أننا جئنا إلى هنا أساسًا لتسلية الأطفال، ولكن الكبار يحتاجون حقًا لهذه العروض بذات قدر ما يحتاجها الأطفال”، يقول مويسيس.
“العبرة لا تتمثل بكون العروض تلهي اللاجئين لساعة أو لساعتين” يقول مويسيس، ويتابع: “هذه العروض جيدة لأذهان اللاجئين ونفسياتهم، فالشعور بالإبهار لفترة قصيرة يعني أنهم سيشعرون على نحو أفضل لبقية اليوم، ولن يكونوا في غاية الإحباط”.
الأطفال يتدافعون لالتقاط الصور مع آنا بعد انتهاء العرض
أثناء تحدثنا مع المهرجين بجانب سيارتهم، يأتي بعض البالغين إلى المهرجين ليحاولوا تأدية بعض الخدع السحرية التي شاهدوها أثناء العرض، ورغم تأديتهم لها بشكل سيء وبعيد عن الإتقان، إلا أن المهرجين يتعاملون معهم بأريحية تامة، مفسحين أمامهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم، وتجربة بعض الخدع، بغية نسيان بعض الهموم والمآسي التي يحملونها في داخلهم، وهي أشياء لا يمكن القيام بها داخل المخيم لولا وجود المهرجين، فهم يمنحون الأشخاص هناك متنفسًا من خلال الموسيقى والضحك والإبداع، وهي أمور ليست شائعة في مخيمات اللاجئين.
“عندما أتحدث مع اللاجئين وأستمع إلى قصصهم وتاريخهم، يصعب عليّ تخيل الوضع”، تقول إيلينا، المهرجة البالغة من العمر 33 عامًا من مايوركا – إسبانيا، وتتابع: “عندما أقوم بتأدية العرض، أشاهد الأشخاص وهم يبتهجون، إنه أمر ممتع لي ولهم على حد سواء، فهم ينسون دراما حياتهم لبضع لحظات ويشعرون بالاسترخاء”.
بجانب خطوط السكك الحديدية، وعلى بعد حوالي كيلومتر واحد من المخيم، يوجد مقهيان صغيران، وإلى هناك يذهب اللاجئون مشيًا على الأقدام كل يوم لاحتساء القهوة والاستمتاع ببعض الدردشة، وهذه أبعد مسافة يقطعها اللاجئون من مخيمهم الذي يقيمون به منذ عدة أسابيع، ولكن هذا النشاط لا يوفر أي راحة من صرامة الوضع القائم، فموضوعات المحادثات تتكرر دائمًا ضمن المخيم وخارجه: “متى سيفتحون الحدود؟”، “لماذا يبقوننا هنا؟”، “لماذا يعاملوننا بهذه الطريقة؟”.
بصرف النظر عن خيمة ألعاب الأطفال، التي يتم إقامتها ليوم واحد في الأسبوع، يشكّل المهرجون الإلهاء الحقيقي الوحيد في أدوميني، وعروضهم تفسح مساحة أمام سكان المخيم لنسيان الظروف التي يعيشون ضمنها، وفرصة للسلوان والإبداع؛ وهذا الأمر يمثل حاجة إنسانية ملحة، وينبغي، كما يقول الكثيرون، أن يطبّق على نطاق أوسع، كما ينبغي الاعتراف به رسميًا باعتباره حاجة إنسانية أساسية.
مويسيس، ايلينا، كارلوس، وآنا
قبل أن يغادر المهرجون من المخيم في هذا اليوم، وقف سلمان، وهو رجل إيراني كردي مسن، إلى جانبنا وباشر بغناء أغنية شعبية، حينها شعر ابنه بالحرج، وتحولت عيناه لتلقي نظرات قلقة كإشارة إلى وجوب توقف والده المسن عن الغناء، ولكنه واصل غير آبه، فهو يعرف بأن هذا هو المكان الوحيد في المخيم ربما الذي يستطيع الغناء ضمنه، فهؤلاء المهرجون هم مؤدون، وقادرون على استيعابه، لذا يجب عليه استغلال هذه الفرصة للغناء.
بعد لحظات ينضم المهرجون إليه، ويباشرون بالتصفيق، مويسيس، موسيقي الفرقة، يعزف بضربات سريعة على الطبل الذي يحمله، وحينها يتجمع حشد حولنا بشكل سريع، وعلامات الضحك والابتسام ظاهرة على محياهم، وينضم بعض الذين يعرفون الأغنية إلى سلمان في تأديتها، وأخيرًا يختتم سلمان أغنيته، ويقول: “شكرًا لكم”، ويمضي في طريقه بعيدًا.
المصدر: ميدل إيست آي