لم يكن يخطر ببال القيادة الأمريكية السابقة أثناء التحضير لغزو العراق سنة 2003 للإطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين بدعوى امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، أنها ستقدم أفضل خدمة لبعض المنتظرين دخول القوات الأمريكية لإحدى دول الشرق الأوسط.
ففي فجر الخميس من شهر مارس 2003 بدأت الطائرات الأمريكية تتسابق في سماء العراق لتفرغ حمولتها المتنوعة والمتمثلة أساسًا في أطنان المتفجرات الفتاكة والصواريخ الذكية والغبية والقنابل العنقودية على المدن العراقية، وعلى رأسها العاصمة بغداد.
بعد سقوط العاصمة بغداد وإسقاط تمثال الرئيس العراقي ظن العراقيون أن زمن الديكتاتورية ولى بلا رجعة وأعدوا العدة للترحيب بالديمقراطية والتعددية والحرية وغيرها من الشعارات التي وعدتهم بها القيادة الأمريكية قبل الغزو.
لقد بدأ الجيش الأمريكي مدعومًا بمرتزقة بلاك ووتر بتنفيذ الإصلاحات الموعودة، فقتل المدنيين وسجنهم في معتقلات أُعدت خصيصًا لانتهاك حقوق الإنسان وكل ما يتعلق بالكرامة الإنسانية.
عام 2004 هزت الصور المسربة لتعذيب السجناء في سجن أبو غريب العالم، ومن هول تلك الصور التي سببت فضيحة للحكومة الأمريكية، قررت القيادة نقل السجناء إلى معتقل أفضل حالًا من سابقه أُطلق عليه تسمية “معسكر بوكا”، تخليدًا لذكرى رونالد بوكا، الجندي في اللواء 800 للشرطة العسكرية الذي لقي حتفه في هجمات 11 سبتمبر 2001.
معتقل بوكا جامعة وليس سجنًا
“ليته لم يُغلق حتى الآن، إنه مدرسة، بل جامعة، توصلك إلى الحقيقة المجردة واكتشاف نفاق العالم الغربي، لقد قضينا فيها أجمل أيام حياتنا رغم بؤسها، كانا عامين مكناني من اكتشاف نفسي، وخرجت وأنا أحفظ ثلث القرآن الكريم والعشرات من الأحاديث النبوية والمسائل الشرعية على يد شيوخ الجهاد الكبار هناك، كما أنني اعتدت في هذا السجن على التعذيب الجسدي حتى أصبحت رجلًا لا تنزل له دمعة”.
على وقع تلك العبارات التي يتلذذ بتكرارها في كل لقاء معه، يصف المعتقل رقم (11509) ياسر عبد الله، المكنى بأبي سمرة، أحوال وصفات أحد أكبر مراكز إعداد أخطر الجهاديين في العالم.
لم يكن معتقل بوكا، الذي يعتبر أحد أسوأ وأبشع 3 سجون أمريكية في العالم، سجنًا عاديًا بل كان مدرسة ضمت تشكيلة متنوعة من الأفكار والمواهب والطاقات العراقية، فقد كان نزلاء المعتقل ضباطًا في الجيش والمخابرات وجهاز الأمن الوطني، عناصر وموظفي منظومة التصنيع العسكري العراقي، موظفي منشأة تموز النووية، وعلماء وخبراء عراقيين بارزين، إضافة إلى أعضاء حزب البعث العراقي وعناصر المقاومة العراقية الوطنية الرافضين للاحتلال بالكلمة أو السلاح ثم سرعان ما اُضيف إليهم عشرات المعتقلين الجهاديين من تنظيم القاعدة وغيرها من الجماعات الجهادية المقاتلة في العراق وقتها.
بعد إجلائها للسجناء من سجن أبو غريب، فتحت القيادة الأمريكية أول جامعة جهادية في العراق ربما يفوق المدرِسون فيها نظراءهم في جامعة هارفارد، ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية تعلم بأن هذه الجامعة سيتخرج منها أخطر رجل في العالم “أبو بكر البغدادي”.
وعلى إثر فضيحة تسريب صور التعذيب التي تورط فيها أفراد من الشرطة العسكرية الأمريكية في سجن أبو غريب، أضحت القيادة الأمريكية في تلك الفترة بين خيارين أحلاهما مر، الأول يتمثل في ترك السجن يستقبل المزيد من السجناء وتجاوز فضيحة صور التعذيب الوحشية والبربرية في حق المعتقلين، والثاني فتح معتقل جديد تحترم فيه حقوق الإنسان مع منح مزيد من الحريات وكل ذلك تحت رقابة دولية.
بفضل هذه الرقابة الدولية على معاملة السجناء في المعتقل تمكن الجهاديون من غزو “بوكا” ونشر أفكارهم وتجنيد مزيد من الأنصار والمقاتلين ليكونوا قنبلة قابلة للانفجار فور خروجها من المعتقل بعد تخرجهم من أكاديمية بوكا العسكرية الجهادية، والتي تمازج فيها النص الشرعي بالواقع السجني وبالخبرة البعثية والسلفية.
10 أشهر صنعت أخطر رجل في العالم
في معتقل بوكا سُجن أخطر المطلوبين في العالم لمدة 10 أشهر، إنه أمير تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي.
فمن أكل بوكا طَعِم ومن مائه شرب وفي وحداته السكنية الخشبية المسقفة قضى رفقة سجناء آخرين ليال طوال، وفي ساحاته تعارف مع ضباط كبار في الجيش العراقي السابق ومع مقاتلين وقياديين من المقاومة العراقية المسلحة ومن القاعدة في بلاد الرافدين.
فمن هو أبو بكر البغدادي أخطر رجل في العالم؟
اسمه الكامل إبراهيم بن عواد بن إبراهيم بن علي بن محمد البدري وكنيته أبو بكر البغدادي، وُلِد في سنة 1971 في مدينة سامراء، إحدى المدن العراقية القديمة التي تقع على الحافة الشرقية من المثلث السُني شمالي بغداد.
لا توجد معلومات دقيقة عن طفولته وعن شبابه، وكل ما كتب عن هذه الفترة من حياته لا يمكن تصديقها ولا تكذيبها لتباينها واختلافها وتضاربها وما هي إلا محاولات محتشمة من قِبل بعض الكتاب والباحثين.
تخرج البغدادي من جامعة بغداد في العام 1996، ثم التحق بجامعة صدام للدراسات الإسلامية حيث درس فيها لنيل شهادة الماجستير في تجويد وتلاوة القرآن الكريم، الذي يعتبر علمه المفضل، وكانت رسالة الماجستير التي قدمها عبارة عن تحقيق وشرح على كتاب مخطوط في التجويد والقراءات وكانت مهمته التوفيق بين إصدارات مختلفة من المخطوطات وهو ما نجح فيه ليتحصل على درجة الماجستير في العام 1999، ويلتحق بعدها ببرنامج الدكتوراه في الدراسات القرآنية بنفس الجامعة.
بعد 4 سنوات من حصوله على درجة الماجستير، وفي وقت متأخر من العام 2003، وبعد أن هزم الأمريكيون جيش صدام ثم حلوه، ساهم البغدادي في تأسيس جيش أهل السُنة والجماعة الذي قاتل القوات الأمريكية وحلفاءها المحليين في شمال ووسط العراق.
وبعد فترة وجيزة، وتحديدًا في شهر فبراير 2004، أُلقي القبض على البغدادي وتم نقله إلى مركز الاعتقال في معسكر بوكا، وهو مجمع واسع جدًا في جنوب العراق، وجرى تصنيفه في ملفات السجن بأنه “معتقل مدني”، وهو ما يعني أن معتقليه لم يعرفوا أنه كان جهاديًا.
خلال الأشهر العشرة التي مكثها في المعتقل، لم يكشف البغدادي النقاب عن تشدده، وفي هذا السياق يقول أحد زملائه من السجناء الذين أجرت صحيفة “ذا غارديان” مقابلة معه من دون ذكر اسمه “كان البغدادي شخصًا هادئًا يتمتع بكاريزما، ويمكن أن تشعر بأنه كان شخصًا ذا أهمية كما كان يؤم المصلين أثناء أداء الصلاة ويلقي خطب يوم الجمعة ويعطي دروسًا دينية للسجناء الآخرين”.
وقال سجين آخر، أجرى مراسل موقع المونيتر الإخباري مقابلة معه “مجندون جدد كان يتم إعدادهم في المعسكر، وما إن يُطلق سراحهم حتي يصبحوا قنابل زمنية موقوتة، وكلما حضر سجين جديد كان زملاؤه يعلمونه، ويلقنونه، ويعطونه توجيهات، فيغادر المعسكر كأنه لهب مشتعل”.
كان أبو بكر البغدادي الأخطر من بين تلك اللهب، فهو الرجل المسؤول عن معظم ألسنة النار التي التهمت المنطقة بعد أقل من عقد من الزمان وهو أول من أعلن نفسه خليفة للمسلمين، متمردًا بذلك على تنظيم القاعدة وساحبًا المشعل منها، كما أنه أول زعيم جماعة جهادية تقاتلها أكثر من 60 دولة.
هل كان البغدادي إخوانيًا؟
لقد كان أبو بكر البغدادي إخوانيًا قبل أن يصبح سلفيًا جهاديًا، حسب ما ذكر الباحث الأمريكي المتخصص بالشرق الأوسط “ويليام ماكانتس”، في تحقيق له حول سيرة البغدادي، فوفقًا لماكانتس فإن أبا بكر البغدادي كان متأثرًا بحركة الإخوان المسلمين في بداياته رغم عقيدته السلفية، وهو ما جاء مطابقًا لما ذكره الصحفي الفلسطيني وائل عصام في تحقيق له عن زعيم تنظيم الدولة في صحيفة القدس العربي في شهر أكتوبر 2014.
فقد نقل الصحفي الفلسطيني عن بعض المصادر العراقية أنه وفي سنة 2000 جلس البغدادي مع أحد قادة العرب السنة البارزين وبدا غاضبًا يشتكي من قيادته في الإخوان المسلمين قائلًا “جماعتنا مو حيل محتضنينا”، وقد كان البغدادي حينها طالب دكتوراة في جامعة صدام للعلوم الإسلامية.
وجاء في تحقيق القدس العربي أيضًا أن البغدادي كان على خلاف دائم مع قياديي الإخوان المسلمين لتوجهاته السلفية ثم سرعان ما انفصل عنهم بعد الاصطدام بهم وانضم لـ”القاعدة”، بحسب قيادات وشخصيات سنية كانوا على تواصل مع البغدادي منذ إقامته في الطوبجي في بغداد حتى دراساته العليا في الشريعة.
بعض المصادر قالت إن البغدادي اُعتقل على خلفية مساهمته في تأسيس جيش أهل السنة والجماعة، في حين زعم آخرون أنه التحق بجيش المجاهدين تحت قيادة محمد حردان، الذي كان أحد القياديين المعروفين في تنظيم الإخوان المسلمين العراقي، قبل أن يغادر إلى أفغانستان للقتال مع الجهاديين ثم العودة في بداية التسعينيات بميول سلفية واضحة أعقبها خروج من التنظيم الإخواني في العراق.
انتماء البغدادي للإخوان المسلمين أكده البعض ونفاه آخرون، فبحسب ما جاء في تحقيق الصحفي وائل عصام، فإن قياديًا بارزصا من الإخوان المسلمين في الفلوجة نفى أن يكون البغدادي قد انتمى لتنظيم الإخوان العراقي لأنه كان سلفيًا متشددًا ولم يكن لينسجم مع فكر الجماعة المعتدل بل كان مقربًا من الإخوان المسلمين بفضل علاقته بمحمد حردان، الذي ترك الإخوان لاحقًا بسبب رفضهم لذهابه إلى أفغانستان للقتال.
لقد كان أبو بكر البغدادي شخصية معروفة في أوساط الإسلاميين السنة من الإخوان والسلفيين، ولم يكن مجهولًا كما روج البعض، فعمه إسماعيل البدري عضو في هيئة علماء المسلمين في العراق كما أن والده عواد البدري كان نشطًا في الحياة الدينية للمجتمع؛ حيث كان إمامًا يقوم بالتدريس في أحد مساجد مدينة سامراء.
بعد خروجه من سجن بوكا بدا البغدادي أكثر تشددًا والتحق بالفرع العراقي لتنظيم القاعدة تحت إمرة الأردني أبو مصعب الزرقاوي وقد كانت مهمته آنذاك الإمرة على بعض المجموعات التابعة للقاعدة في بلاد الرافدين ثم سرعان ما تدرج في المناصب، فتولى منصب المسؤول الشرعي لتنظيم القاعدة في قضاء الكرمة شرق الفلوجة، ثم المسؤول الشرعي لمحافظة صلاح الدين، ثم الشرعي العام لدولة العراق الإسلامية، وفي تلك الفترة اعتمد عليه أمير الدولة السابق أبو عمر البغدادي ووزيره أبو حمزة المهاجر المصري بسبب عدم معرفة شخصيته للأجهزة الأمنية والقوات الأمريكية، ثم سرعان ما تولى قيادة دولة العراق الإسلامية سنة 2010 بعد مقتلهما.
لم يسلم تاريخ حصول البغدادي على درجة الدكتوراه هو الآخر من التشكيك، فوفق سبق صحفي لصحيفة زويد دويتشه تسايتونج والقناة التلفزيونية الحكومية الألمانية عن حياة أبو بكر البغدادي بعنوان “رأس الخلافة”، نال الرجل الأخطر في العالم درجة الدكتوراه بتقدير “جيد جدًا” في مارس 2007، وزعمت جامعة بغداد أمام الصحفيين الألمان أنها لم تعثر على أي نسخة من أطروحة الدكتوراه الخاصة به، كما اكتشف الصحفيون في تقصيهم وثيقة تعود إلى تاريخ 30 يونيه 2004 كتب فيها عضو هيئة التدريس الجامعي والمشرف على بحث الدكتوراه الخاص بالبغدادي ما معناه التالي”لم يتواصل معي لأنه مسجون”، لكن مصادر أخرى قالت إن البغدادي تحصل على درجة الدكتوراه قبل 2007، و شذ آخرون من المناوئين له مدعين أنه لم يحصل على الدكتوراه بتاتًا.
خطأ شائع
بعض الشغوفين بالشهرة أرادوا أن يُدلو بدلوهم في نسج قصة حياة البغدادي فقد كشفت صحيفة دايلي بيست الأمريكية أن أبا بكر البغدادي كان معتقلًا في قاعدة أمريكية بالعراق لسنوات طويلة، وقال لسجانيه لحظة وداعهم وإطلاق سراحه في العام 2009 “نراكم في نيويورك”، ونقلت الصحيفة عن الجنرال كينيث كينج أنه يتذكر ما قاله أبو بكر البغدادي لحظة مغادرته السجن “أراكم في نيويورك يا شباب” وحينها لم يأخذ الجنرال كينج هاتين الكلمتين على محمل الجد ليكتشف الآن بأن البغدادي كان يعني ما يقول، وأنه كان خارجًا من السجن لمواصلة القتال.
ويقول كينج إنه لم يكن يتخيل أنه خلال أقل من 5 سنوات فقط سيجد أن البغدادي يتصدر وسائل الإعلام وتقارير الأخبار، ويتابع “أنا لست متفاجئًا أن يكون هذا الرجل أمضى الكثير من وقته في مخيم اعتقال بوكا، لكنني متفاجئ أنه ذاته الذي كنت أراه”، ويؤكد أن “أسوأ السيئين كانوا محتجزين في مكان واحد، لكن أبو بكر البغدادي لم يكن من بينهم”.
هذه القصة التي تناقلتها وسائل إعلام عربية وأجنبية لا تمت للواقع بصلة، فقد أصبح الأمر محسومًا وانعقد الإجماع على أن البغدادي لم يبق في السجن إلا 10 أشهر ثم سرعان ما خرج ملتحقًا بتنظيم القاعدة، بل إن البغدادي سنة 2009 كان في مجلس شورى دولة العراق الإسلامية وكان الخليفة المحتمل لأبي عمر البغدادي وفق ما نقله موالون لتنظيم الدولة.
سنة 2010 تولى أبو بكر البغدادي قيادة دولة العراق الإسلامية في أعقاب مقتل أميرها أبو عمر البغدادي ووزير حربه أبو حمزة المهاجرخلال تنفيذ عملية أمريكية – عراقية مشتركة بالقرب من مدينة تكريت في شهر أبريل من نفس العام، وأعلن بعدها نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، أنهم وجهوا “ضربة مدمرة” لتنظيم القاعدة في العراق.
في الختام أقتبس ما قاله ويليام ماكانتس في ختام تحقيقه متحدثًا عن البغدادي بعد أن سرد تفاصيل حياته ومراحلها “لكن الحقائق المجردة في سيرة البغدادي تكشف عن رجل ذي إمكانيات غير عادية، فقد ساعد البغدادي في تأسيس جماعة من المتمردين، وحصل على شهادة الدكتوراه حين كان يتولى إدارة الشؤون الدينية للدولة الإسلامية، واستطاع أن يظل صامدًا وسط سياساتها الدموية، بسبب مهارته في بناء التحالفات وقدرته على ردع منافسيه وترهيبهم.،وجاء توطيد المكاسب الإقليمية للدولة الإسلامية في سوريا وتوسعها السريع في العراق بعد وفاة “أمير الظل” الذي كان معه. ورغم أن صحيفة نيويورك تايمز ذكرت مؤخرًا أنه يقوم بنفسه بالترتيبات اللازمة للخلافة في حال وفاته من خلال تفويض العديد من صلاحياته العسكرية لمرؤوسيه، إلا أن معرفته الدينية ومكره السياسي لن يتم استبدالهما بسهولة، فلا يوجد بين خلفائه المحتملين شخص يجمع بين النسب النبوي، المعرفة الدينية، والمهارة لكسب أصدقاء أقوياء والتمكن من تهدئة المعارضة”.