لازلت أتحدث عن السينما هنا، ولازلت أحاول أن أحدثكم عن تجاربي مع أفلام هذا الموسم الجديد، لكن يبدو أنه من العسير التوقف عند فيلم “ابن شاؤول” Saul Fia دون أن يأخذنا الحديث إلى المقارنات المحبطة، لكن لعل تلك المقارنات هي ما نحتاج إليه لنفهم أخطاءنا، وننقذ ثقافتنا.
حين ذهبت لمشاهدة الفيلم المجري “ابن شاؤول”، كانت فكرتي المحدودة عنه تنقل لي انطباعًا سلبيًا، فهو فيلم حائز على جائزة النقاد في Cannes، وتجري أحداثه أساسًا في قلب إحدى المحارق النازية، أي أنه احتفاء آخر بالهولوكوست وتذكير بحرمة الطوطم اليهودي، أخذت أعدد الأفلام التي شاهدتها عن المحرقة، هناك قائمة شندلر الأسطوري، وهناك عازف البيانو لرومان بولانسكي، والحياة جميلة لروبرتو بينيني، فضلاً عن عشرات الأفلام التي دارت أحداثها في سياق ألمانيا النازية، وتعرضت بشكل أو بآخر للمحارق وأفران الغاز وقمع اليهود، من “القارئ”، إلى “سارقة الكتب” إلى “ضارب الطبل”، حتى فيلم تارنتينو الشهير Inglorious Basterds يمكن أن يُعتبر من بين هؤلاء.
يبدو لي أنني شاهدت ما يكفي من مشاهد تصور المحرقة، ولم يبق إلا أن أحفظ أسماء الضحايا واحدًا واحدًا، ماذا سيضيفه فيلم جديد عن ذات المسألة؟ ما هي المشاهد التي سيستنبطها عدا تلك المألوفة جدًا والنمطية للبطل الألماني الذي أنقذ اليهود بدافع الإنسانية، والجندي النازي الذي بلغ به التعصب حد الوحشية اللامبالية، وعشرات الضحايا اليهود الذين يلقون مصيرهم القاسي بلا رحمة؟ ما هي الأفكار التي سيقدمها عدا تلك المحذرة من التعصب، والمحتفية بالحياة ووجوب التشبث بالأمل حتى النهاية؟
تتابعت حمى الأفكار في ذهني وأنا أجلس في مقعدي منتظرًا بداية الفيلم، أخذت الصور تتشكل في مخيلتي من قبل أن تطفأ الأنوار، هناك حتمًا شخص يصارع من أجل البقاء حيًا، هناك مخبأ ما، ومشهد يحبس الأنفاس يفصل فيه المخرج بين اليهودي والنازي بجدار رقيق، أو سقف مهترئ، أو ظلام غير متقن، ثم مشهد الحرق أو أفران الغاز، ربما يركز المخرج على حالة اجتماعية مزرية من بين الضحايا لزيادة استمالة المشاهد، وربما يركز على نازي متوحش للتدليل على قسوة الجريمة النازية.
أفكار كثيرة تراجعت كلها بمجرد أن بدأ الفيلم، تاركة إياي في حالة انغماس مزمنة مع أحداثه المتواترة وحواراته النادرة، لم يكن ذلك لاختلاف سياقه عن نظرائه، وإنما لأسلوب الصورة الغريب والمميز تتبع القمرة (الكاميرا) بطل الفيلم في توتر واضح، تاركة خلفه صورة شابحة ضبابية لأشباح تتحرك، تضيق عيناك وتتسعان بنفس التوتر في محاولة لفك عناصر الخلفية، لكن البطل يحملك بسرعته وعصبيته إلى فضاءات أخرى، تضطر إلى تأمل وجهه وقسماته، تفاجأ بالموت يطل من عينيه، هو الموت بكل تفاصيله، متشكلاً في عينيه وحاجبيه وفمه ووجنتيه وتجاعيد أنفه، هو الموت متهيئًا لإنجاز عمله، لم يكن وجه بطلنا خاليًا من المشاعر، لكنه كان خاليًا من الحياة، وجه شخص حي لكنه مستغرق في الموت حتى أخمص قدميه.
سريعًا ما نفهم السياق، فنحن في قلب المأساة، هذه الأجساد التي يخفي عورتها المشهد الضبابي، ستفقد حركتها بدخولها إلى هذه القاعة الضخمة الموصدة، أما بطلنا “شاؤول” فهو أحد أعضاء “الوحدات الخاصة” Sonderkommando، وهي تلك الفرق التي كونها النازيون من اليهود للتخلص من جثث أفران الغاز، ومن قلب فرن الغاز، تنبت حكاية شاؤول مع جثة الطفل اليهودي، تطرأ على قلبه رغبة عارمة في دفنه وفق الطقوس اليهودية عوض رميه للمحرقة مع عشرات الأجساد الأخرى، تتعاظم الرغبة لتصبح هاجس الرجل الأول، تتوالى الأحداث لتختفي قسمات الموت المرتسمة على الرجل رويدًا رويدًا، وتعوضها قسمات رجل مشرف على الغرق، يجاهد من أجل البقاء حيًا، يركض هنا وهنا، يخاطر، يشعر بالخوف، يختبئ، يخفي غرضًا أو يجري مبادلة سرية، يكذب، يبتلع ريقه بصعوبة، يرجو المساعدة من هذا، ويصنع أعداءً هنا وهناك، يجد نفسه أمام حفرة الموت بدون علامة انتمائه للـ sonderkommando… إنه يعود حيًا!
ثم إنك تذكر أن الرجل لا يخاطر بحياته من أجل إنقاذ طفل حي، بل من أجل دفن طفل ميت! تذكر أن كل هذا الذي يفعله، إنما هو من أجل تغيير طريقة تلاشي جسد الطفل البائس تحت الأرض، تنتابك الأفكار تباعًا، تتساءل ماذا ستغير صلوات “الربي” (الحاخام) في جسد الطفل؟ قد لا تغير تلك الطقوس كثيرًا في الجسد الفاقد للحياة، لكن يبدو أنها تغير كثيرًا في جسد شاؤول.
يحيلنا الفيلم إلى الدفن كقيمة أنثروبولوجية، إن الدفن هو أقدم الطقوس الدينية المعروفة، وهو متعلق بالثقافة البشرية بشكل ملفت، وربما يمكن القول إنه أحد أشكال تعبير الإنسان عن نفسه، وأحد أهم السلوكات التي تميزه ككائن حي، يحتفي الفيلم بهذه المفارقة الغريبة، التي تجعل من الدفن رمزًا للحياة، ففي مشهد الحرب والقتل والحرق والجثث واللامبالاة، لا يمكن لشخص مثل شاؤول إلا أن يبحث في أفق رؤيته الضيق على ما يمكن أن يبقيه إنسانًا، ولقد وجد ذلك في فكرة دفن طفل صغير على الطريقة اليهودية؛ لذلك حين اتسع الأفق قليلاً، أمكن لشاؤول أن يجد “ابنه” في حالة أفضل من الموت، وأن يبتسم أخيرًا كآخر مراحل تخلصه من صورة الموت التي كانت جاثمة على وجهه.
حين ينتهي الفيلم، تجد نفسك قد شاهدت فيلمًا آخر عن المحرقة، لكنك لم تشعر بأي تكرار، ولم يبد أنك مررت بالكليشيهات التي كنت تنتظرها، تمر العناوين نفسها بذهنك مرة أخرى، وتكتشف حقيقة أنها رغم تشابهها الظاهري، متباينة جدًا، لو أنك عوضت سياق المحرقة، بأية محنة إنسانية أخرى، وحافظت على نفس السيناريو والأسلوب والمشاهد، لوجدت نفسك أمام مجموعة من الأفلام التي لا يربط بينها أي شيء! إنها أفلام مختلفة تمامًا، بعضها ساخر (Inglorious Basterds) وبعضها سوداوي (قائمة شندلر) وبعضها شديد التشويق كأفلام الإثارة (The pianist)، بل أنها تقدم أفكارًا مختلفة، وتستخرج من نفس المأساة، معانٍ عميقة ولا يشبه بعضها بعضًا، تبتعد كثيرًا عن المباشرتية، رغم طابعها التوثيقي في الكثير من الأحيان، لتلمس الإنسان، وتحتفي بالدراما قبل التاريخ، من الطبيعي أن هذه الأعمال الملفتة، تجد لها صدى في العالم، ويحتفي بها الغرب ويرصد لها الجوائز، ومن الطبيعي أن تحقق هذه الأعمال أغراضًا موازية كتدعيم التطبيع مع اليهود، والتذكير بحرمة المحرقة، ودعم عقد الذنب تجاه اليهود، بل أنها أحيانًا تذهب إلى خلق علاقة شرعية بين المحرقة والكيان الصهيوني، مثل ذلك الانتقال السينمائي المذهل والعبقري الذي أنجزه الأمريكي اليهودي سبيلبرغ في نهاية فيلم قائمة شندلر، إنه طبيعي لأن ذلك ما ينبغي أن يفعله أي شخص يحاول الترويج لقضيته، أما ما هو غير طبيعي، فهو ما يفعله السينمائيون العرب.
كم عدد الأفلام العربية التي خاضت في أيام الاحتلال ووثقت لجرائم الاحتلال؟ إن أهم هذه الأعمال إما غير عربي (معركة الجزائر إيطالي) وإما مغرق في التوثيق والتمجيد والمباشرتية (أسد الصحراء) وفي الحالتين، فهي أعمال كبيرة من حيث الميزانية واختفت موضتها مع التسعينات، ولم يبق غير أفلام النكبة الفلسطينية التي تعتبر استثناءً لأنها ليست تاريخًا بقدر ما هي واقع يومي.
كم عدد الأفلام العربية التي احتفت بالميراث الثقافي العربي؟ وكم عدد الأفلام التي خاضت في تاريخ الإسلام؟ لا، ليست كثيرة، بل هي فيلم واحد يتكرر دائما، في أشكال مختلفة، إنها العناصر ذاتها سوف نجدها مرارًا وتكرارًا، خالية من كل بعد إنساني، مفعمة بالتمجيد، وبالحذر من ارتكاب الحماقة التي ستحتج عليها كل الملل والنحل والمذاهب المختلفة، حينما حاول مصطفى العقاد كتابة سيناريو فيلم الرسالة، وجد نفسه أمام آلاف الألغام المرصودة من الهيئات الحكومية والدينية، هذا ممنوع، لا تتحدث عن هذا، لا تجسد ذاك، في النهاية قدم لنا فيلمًا عن حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، بطله (شخصية حمزة رضي الله عنه) قتل في وسط الفيلم!
والمشكلة أن كل أفلام السيرة وحتى الأعمال الدرامية تحافظ على ذات الحبكة التي قدمها العقاد، ربما درءًا لوجع الدماغ، فلا بد من وجود هندٍ ووحشي وأحد، ولا بد من بلال وآل ياسر رضي الله عنهم، وحين الحديث عن صلاح الدين، أو خالد بن الوليد أو غيرهم من القادة العسكريين، نجد أنفسنا أمام ذات العناصر، كأننا أمام تقرير إخباري، فمن منا يريد الاستماع إلى ذات الخبر مرتين؟ أليس حريًا بنا اليوم، أن نتعلم من اليهود صنعة السينما، وأن ندرك أخيرًا، قيمة السينما ومدى تأثيرها في العالم؟
رشح الفيلم إلى جوائز كثيرة، وفاز بالجائزة الكبرى للنقاد في مهرجان كان الفارط، وهو أول الأعمال الطويلة للمخرج المجري لاشلو نيميس László Nemes ولن نستغرب ترشيحه لأوسكار أفضل فيلم أجنبي في السنة القادمة.
اسم الفيلم: Saul Fia
البلد: المجر
المخرج: László Nemes
المدة: 107 دقيقة
السنة: 2015