ترجمة وتحرير نون بوست
محاطًا بالأسواق الصاخبة وبصياح بائعي المواد الغذائية، يقبع ستوديو سافدار في دلهي، المسرح الهندي الرائد، ومستضيف مشروع فريد من نوعه يوحد الهند وفلسطين معًا.
جانا ناتيا مانش (جانام)، هي مجموعة مسرح شارع من دلهي، ابتدرت جهودًا للتعاون مع مسرح الحرية من جنين في الضفة الغربية بفلسطين، ليصبح هذا التعاون أول تعاون مسرحي بين الهند وفلسطين تحت عنوان “جاثا الحرية”.
التعاون القائم ما بين المسرحين يعوّل على المأساة المشتركة ما بين الفريقين، فكلاهما يستخدم الفن كسلاح للمقاومة، كما أن مؤسس مسرح الحرية، جوليانو مير خميس، قُتل بقسوة في عام 2011، وكذلك مؤسس جانام المشارك، سافدار الهاشمي، الذي قُتل قبل 22 عامًا.
خارج الاستوديو، التقت الميدل إيست آي مع فيصل أبو الهيجا، أحد ممثلي مسرح الحرية، ومدير الإنتاج المشارك مع نظيره الهندي، سودهنفا ديشباندي.
فيصل أبو الهيجا (يمين)، يجلس خارج استوديو سافدار مباشرة.
بشخصيته التي تنضح بالكاريزما، تحدث إلينا فيصل حول الحياة في مخيم جنين للاجئين، مخاطر الاحتلال الإسرائيلي، العيش ضمن الانتفاضة، واليأس من هدم المنازل المدنية في المخيمات.
“أنت تتحدث عن مكان يعج بالغضب، وينضح بخيبة الأمل، ويفيض بالخوف، الناس متألمون للغاية، ولنكون صادقين، أنا كذلك أشعر بالألم”، قال فيصل.
ربما من المستغرب، بالنظر إلى الظروف غير المستقرة التي ترعرع بها، أن يجد فيصل نفسه منخرطًا اليوم في مهنة المسرح، ولكنه كان يتوق ويحلم بأن يكون ممثلًا منذ كان طفلًا صغيرًا، وفي الواقع، بدأت رحلته إلى مسرح الحرية قبل تأسيس مسرح الحرية ذاته.
“لقد بدأت عندما رأيت فيلم أولاد آرنا لأول مرة”، يتذكر فيصل، ويتابع: “لقد حفزتني رؤية الأطفال فعلًا، لأنني أعرف هؤلاء الأشخاص ضمن الفيلم، أعرفهم جيدًا، إنهم أهلنا وجيراننا”.
فيلم أولاد آرنا هو فيلم وثائقي مؤثر، يصور الرحلة المروعة لمجموعة من الأطفال الصغار في جنين خلال الانتفاضة الأولى، كما يوثق محاولات والدة جوليانو، آرنا، لإقامة نظام تعليمي بديل ومسرح في جنين.
بالصدفة المحضة، اكتشف فيصل عندما شاهد الفيلم بأن أحد أبناء عمومته قد شارك ضمنه؛ ففي مشهد لا ينسى، سأل أحد الشبان الطفل الصغير: “أشرف، ما هو حلمك؟”، فيجيب الأخير مبتسمًا: “حلمي أن أصبح روميو فلسطيني”، ولكن الغزو الوحشي للجيش الإسرائيلي لمخيم جنين للاجئين في عام 2002، قتل أشرف طاردًا حلمه الصغير بعيدًا.
رغم هذه المأساة، تشجع فيصل للقائه فردًا من عائلته يشاطره ذات المشاعر والطموحات، حيث يقول: “أنا أيضًا كنت أريد أن أصبح روميو فلسطيني، ولكنني لم أكن أريد أن ينتهي بي المطاف كأشرف”.
بعد استراحة قصيرة، تحدث فيها فيصل في مكالمة هاتفية قصيرة، تحولنا في حديثنا إلى التعاون مع جانام، والإثارة التي تطغى على الجولة في الهند، “أنا رجل فضولي”، يقول فيصل، ويتابع بحماس: “أحب اكتشاف الأشياء الجديدة، لذلك أنا أستمتع هنا كثيرًا، وكأن الأمر مغامرة كبيرة”، علمًا بأن هذه المغامرة تتضمن تأدية العروض في 10 مدن مختلفة في أنحاء الهند خلال الثلاثة أشهر القادمة، قبل أن يتم نقل العرض لشوارع فلسطين.
ولكن ماذا تعني كلمة “جاثا الحرية”؟
“جاثا كلمة مثيرة للاهتمام”، يوضح ديشباندي، وهو ناشط يساري من جانام، وأحد الممثلين المخضرمين في مشاهد مسرح الشارع في الهند، ويتابع: “الكلمة مفهومة تمامًا من الشمال إلى الجنوب، في جميع أنحاء البلاد”.
كلمة “جاثا” تعني الرحلة، أو الموكب المتنقل عبر المدن، وتحمل هذه الكلمة دلالات تقدمية، حيث يقول ديشباندي بأنها تستثير ذكريات كفاح الهند ضد الاستعمار في ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم، حين كانت رحلة رجال الجاثا “لمكافحة النبذ” شائعة للغاية، ويشرح ديشباندي ذلك بقوله: “الجاثا كانوا يمشون حرفيًا من قرية إلى أخرى، ويكسرون الحواجز بين الطبقات الاجتماعية”.
ومن خلال الاعتماد على الخبرات الهندية المترسخة في الأذهان حول معاداة الاستعمار، يأمل المنتجون برفع مستوى الوعي حول قضية احتلال فلسطين.
فيصل يعطي النصائح لممثلي مسرح الحرية وجانا ناتيا مانش في حصة تدريب مسائية
التضامن: طريق ذو اتجاهين
“هذه هي مقاومتنا، وبهذه الطريقة نخوض حربنا، وهكذا نطلق رصاصتنا، فنحن نطلق النار من خلال الإنتاج، ومن خلال المسرحيات، ومن خلال الفن”، يقول فيصل باقتضاب، ويتابع موضحًا حماسه وتفاؤله لنقل رسالة المقاومة الثقافية التي تبناها مسرح الحرية منذ تأسيسه؛ فالمقاومة الثقافية تظهر في وقتنا الحالي كعنصر هام للغاية لدحض الطروحات الخاطئة السائدة لدى وسائل الإعلام الغربية.
بالنسبة فيصل، استخدام الفن لإبراز الصورة الحقيقية للفلسطينيين، وخاصة جيل الشباب منهم، هي جزء لا يتجزأ من مغامرته الإنتاجية، “رفع مستوى الوعي لبناء المزيد من التضامن في جميع أنحاء فلسطين هو أمر ضروري”، يقول فيصل، خاصة في الوقت الذي تتجه فيه الهند لتوثيق علاقاتها مع إسرائيل.
تحوّل حكومة ناريندرا مودي باتجاه محاباة إسرائيل، هو أمر يقلق ديشباندي أيضًا، حيث يقول: “نحن نعتقد بأن أيديولوجيات الهندوتفا، (الأيديولوجية القومية الهندوسية التي اعتمدها حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم)، وأيديولوجيات الصهيونية تتطابق بشكل وثيق للغاية”.
ويتابع ديشباندي قائلًا: “تبعًا لذلك، فإننا نرى بأنه من المهم حقًا في خضم كفاحنا ضد الهندوتفا، أن نتضامن مع الفلسطينيين، إنه أمر مهم لأننا مجتمع متعدد الثقافات واللغات والأديان، ولكن تعددية الهند تخضع اليوم لتهديد خطير ووشيك”، وأضاف: “غالبًا أجد الناس يعبرون عن تضامنهم مع فلسطين كما لو أن هذا التضامن طريق باتجاه واحد، فهم يتضامنون مع فلسطين لأن الفلسطينين يحتاجون للتضامن، ولكنني أعتقد بأننا نحن أيضًا بحاجة للتضامن، وأعتقد بأن بقية العالم بحاجة لأن يتعلم من فلسطين”.
الهدف الكبير الآخر الذي تسعى هذه الجولة الفنية لتحقيقه يتمثل بتأسيس اتصالات ليست قائمة من خلال وساطة من المنظمات الفنية أو وكالات التمويل، حيث يقول فيصل: “ما يجعل المشروع فريدًا من نوعه، هو أن معظم التمويل لم يأتِ من منظمة معينة”؛ فالمشروع يتم تمويله بالكامل تقريبًا من خلال التبرعات الفردية، ومسرح الحرية وجانام يجمعان الأموال بشكل مستقل لتغطية نفقات هذه الجولة، وهذا الأمر يعد بغاية الأهمية بالنسبة لكلا الفريقين، لأنه يُظهر للآخرين بأن المبادرات غير الممولة من المؤسسات الكبرى ممكنة التحقق.
يشير ديشباندي بأن جولة الهند ستكون فرصة رائعة لطلاب مسرح الحرية، فسيتعلمون من خلالها المهارات، وسينفتحون على ثقافات جديدة، ولكن بالمقابل هذه الجولة ستفسح الفرصة أمام الهنود للتعلم أيضًا، حيث خطط ديشباندي لسلسلة من الزيارات للمدارس والكليات والجماعات الناشطة لتعزيز التفاعلات مع القضية الفلسطينية، وهذا النوع من التعلم المتبادل، هو أساس المشروع المشترك لمسرح الحرية وجانام، كما يقول ديشباندي.
يصف ديشباندي الأسبوع الأول الذي قضاه طلاب مسرح الحرية بعين تومض فرحًا بقوله: “إنهم لطيفون، رائعون، جميلون، شباب يفيض بالطاقة، ويفيض بالإبداع، ويمتلك روح القتال، إنهم خير مثال على الجنس البشري”.
التحديات المقبلة
ما هو التحدي الأكبر الذي يقف في وجه هذه الجولة التاريخية؟ هل هو نقص الخدمات اللوجستية اللازمة للسفر في طول هذه البلاد الكبيرة وعرضها؟ أم مشكلة جمع أموال كثيرة بشكل مستقل؟ أم حاجز اللغة؟
عندما طرحنا هذا السؤال، أجابنا ديشباندي بشكل مؤكد ودون تردد، نافيًا كل ما تقدم، وموضحًا: “الغذاء، ليس لدي شك في أنه أكبر مشكلة تعترضنا!”
الذوق الرهيب لسكان دلهي في الطعام هو طاعون مستمر يعاني منه الزوار الأجانب إلى الهند منذ عدة قرون، فالتوابل القوية والطريقة غير الصحية التي يتم من خلالها إعداد الطعام في بعض الأحيان في الشارع، يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة على البطون غير المعتادة.
ولكن التأقلم مع الطعام الهندي لم يكن مشكلة بالنسبة لإيهاب التلاحمة، أحد الطلاب الستة من مسرح الحرية الذين سافروا إلى الهند، “عندما علمت والدتي بأنني ذاهب إلى الهند في العام الماضي، بدأت بإعدادي لذلك من خلال الطعام الحار، حيث كانت تضع التوابل في جميع أنواع الطعام الذي تطبخه”، قال إيهاب ضاحكًا، وتابع: “لذلك عندما جئت إلى هنا، لم أشعر بأن التوابل سيئة بالنسبة لي، لا، بل إنني أحببتها كثيرًا”.
إيهاب التلاحمة (يمين) يتدرب مع رنين
في سن الـ22، هذه هي المرة الأولى التي يغادر فيها إيهاب فلسطين، وهنا في الهند، يتمتع بقضاء الوقت وهو يستكشف أراضٍ مختلفة تمامًا عن تلك التي كان معتادًا عليها، “لقد أحببت كل شيء في الهند، الشوارع، الطبيعة، الناس، والحيوانات … إنها جميلة جدًا”، قال إيهاب.
ولكن الحياة لم تكن جميلة دائمًا بالنسبة لإيهاب، فخلال نشأته في بلدة دورا القديمة، جنوبي الخليل، تم استبعاده من المدرسة وباشر بالعمل في شركة كمبيوتر، بعد أن عانى من “مشاكل كبيرة” مع المعلمين والأساتذة، وفي السنوات التي تلت ذلك قرر إيهاب افتتاح شركتين تابعتين له، ولكن عواطفه كانت ترقد في مكان آخر.
إيهاب كان يتوق لاستبدال شاشات الكمبيوتر التي يعمل بها بشاشات السينما، حيث يقول: “منذ أن كنت طفلًا صغيرًا، كنت أشاهد الأفلام دائمًا، وأشاهد البرامج التلفزيونية، وأحلم بأن أكون أحد الممثلين بها”.
في أكتوبر 2013، وبعد تشجيع من أحد الأصدقاء، اتخذ إيهاب القرار السعيد بالذهاب لاختبارات مسرح الحرية، “لقد غيروا أفكاري، وغيروا حياتي”، قال إيهاب، مشيرًا إلى الدروس التي تعلمها في تلك الأسابيع القليلة الأولى.
لم يكن إيهاب يفهم حقًا معنى الاحتلال قبل انضمامه لمسرح الحرية، حيث أوضح بأنه لم يكن يدرك وجود العديد من أشكال القمع، “أحد تلك الأشكال هي احتلال العقل، وهي الحالة التي كنت أعاني منها قبل انضمامي للمسرح”.
بعد أسبوع أول ملئ بالأعمال، شهد زيارة للسفارة الفلسطينية، وحضور عدد من ورش العمل المتخصصة والبروفات المكثفة، يبدو إيهاب متحفزًا ومتحمسًا للغاية لإيصال رسالته إلى شوارع الهند، “سأعمل جاهدًا لتمثيل فلسطين، لتمثيل عائلتي، ولتمثيل شعبي”، قال إيهاب.
المصدر: ميدل إيست آي