ترجمة وتحرير نون بوست
مع وصول الصواريخ المضادة للدبابات أمريكية الصنع إلى الجماعات السورية المعارضة المسلحة، ومع قصف المقاتلات الروسية لهؤلاء المسلحين أنفسهم بالتوزاي مع تزويدها لنظام بشار الأسد بأنظمة صواريخ مضادة للطائرات، يبدو من السهل للغاية أن نصف المعركة في سورية على أنها حرب بالوكالة، ولكن هذه العبارة تُرمى أحيانًا بلا مبالاة، وتترافق مع بعض الخرافات والأساطير الخطيرة.
أولًا، وصف المستنقع السوري بحرب الوكالة يعني أن الصراع يتركز أساسًا حول خطوط الصدع والانشقاقات الكبيرة في المنطقة، خاصة الخلاف بين السنة والشيعة، والمملكة العربية السعودية وإيران، ثانيًا، تشير عبارة حرب الوكالة إلى أن حل الصراع يقبع بصورة رئيسية بأيدي الأطراف الخارجية الذين يجب عليهم طرح ومناقشة خلافاتهم على الطاولة، وثالثًا، تشير هذه العبارة إلى أن الصراع هو عبارة عن مراهنة عالية المخاطر تنطوي على مسائل وجودية مما يجعل التنازل عن الصراع أمرًا شبه مستحيل.
وفقًا للدروس المستفادة من تاريخ حروب الوكالة الماضية، الافتراضات الثلاثة السابقة هي خاطئة، وبغية وضع حد للقتال والاقتتال في سورية، ينبغي على جميع الأطراف المعنية فهم حقيقة حرب الوكالة؛ فهذه الحروب لا تخمد بأعجوبة من تلقاء ذاتها دون طرح مبادرات تعتمد نهج التوجه من القاعدة نحو الأعلى، بهدف تحقيق سلام بين المقاتلين المحليين، أو قد يساعد التحول الجوهري في ميزان الصراع على السلطة على أرض الواقع على إيجاد نهاية لهذه الحروب.
حروب الوكالة والحرب الباردة
مصطلح “حرب الوكالة” يستحضر إلى الأذهان صورًا من الحرب الباردة، عندما كانت القوى الخارجية، وبالتحديد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وأيضًا القوى الإقليمية، يعاملون المقاتلين المحليين كبيادق على رقعة الشطرنج الجيوسياسية، وفي سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، أصبحت عدة من حروب العصابات في أمريكا اللاتينية صراعات بحكم الأمر الواقع ما بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وذات الأمر ينطبق على الحروب في أنغولا وتشاد وفيتنام.
في ذاك الوقت، لم يكن من المتصور أن تنخرط واشنطن وموسكو بحرب تقليدية، وكذلك اليوم من الصعب أن نتصور أن تدخل الولايات المتحدة وروسيا بحرب بينهما، وعلى أرض الواقع، حروب الوكالة هي الحل الأنسب عندما تكون تكاليف الحرب التقليدية ما بين الدول مرتفعة للغاية؛ لذلك، فإن قوات الجيش السوري المدعومة من حزب الله ومسلحي تنظيم الدولة الإسلامية، يمكنهم أن ينحروا رقاب بعضهم البعض كما شاؤوا بدون أن يخاطروا بإحداث موجة من التصعيد الإقليمي.
تميل صراعات الوكالة أيضًا لأن تنشب في الدول الضعيفة أو الفاشلة التي تتميز بحدودها سهلة الاختراق، حيث تفتقر هذه الدول الهشة إلى القوة اللازمة لإخماد التمرد من دون دعم خارجي، وبالمقابل لا يستطيع المتمردون مجابهة الأنظمة الضعيفة بدون إمداد بالأسلحة من الخارج أو ملاذات آمنة يتم تأسيسها عبر الحدود، والحروب الأهلية في نيكاراغوا وأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي تعد مثالًا واضحًا على ذلك.
بسبب هذه الديناميات، تميل الأفكار لتصوير حروب الوكالة على أنها صراعات طويلة الأمد، لا تلاقي زخمها المستمر جرّاء المظالم المحلية بل تبعًا لرغبات القوى التكتونية الكبرى، ولكن هذا الافتراض قد ينعكس تمامًا؛ ففي الواقع، الجهات الفاعلة المحلية في العديد من حروب الوكالة هي التي تتلاعب بالقوى الخارجية الداعمة لها، وليس العكس، حيث يعدّل الثوار رسائلهم لتتماشى مع الثقل الإقليمي، مما يؤدي لخلق نوع من حرب المزايدة بين الفصائل المتمردة.
حتى خلال الحرب الباردة، بالكاد استطاعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي فك طلاسم الميول الأيديولوجية المختلفة لعملائهما في دول العالم الثالث، لأن تلك الميول تتحول وتتغير بسرعة وسهولة؛ فعندما حجبت واشنطن المساعدات عن نيكاراغوا وكوبا، على سبيل المثال، عززت ماناغوا وهافانا علاقتهما مع الاتحاد السوفييتي، وبعد أن أوقفت موسكو المساعدات الممنوحة للصومال، باشرت مقديشو بتبني المعتقدات الرأسمالية الغربية، وكما يقول منظّر العلاقات الدولية جون لويس جاديس في كتابه “الآن نعرف” الصادر في عام 1997، “الجماعات المتمردة والأنظمة في تلك الحقبة، تعلمت كيفية التعامل مع الأمريكيين والروس من خلال استعمال أساليب المداهنة والإطراء، التعهد بالتضامن، التظاهر باللامبالاة، التهديد بالانشقاق، أو حتى إثارة شبح الانهيار وتصوير النتائج الكارثية التي قد تنجم عن ذلك”.
الشيء ذاته ينطبق على الصراع السوري اليوم، فالأسد، من الجانب الأول، عمد إلى تصوير النظام السوري باعتباره حصنًا علمانيًا ضد التعصب السني، مما ساعده على استقطاب الدعم العسكري من روسيا وإيران، وبعد إصابة جيشه بسلسلة من النكسات العسكرية في عام 2012، عمد الأسد، على سبيل المثال لا الحصر، إلى تضخيم التهديد الجهادي لتحفيز روسيا وإيران لإرسال المزيد من الأسلحة والأموال وجنود المشاة، ولكن في الواقع، هذه الأسلحة كانت في طريقها أيضًا لقتل المسيحيين، الأكراد، والجهات الفاعلة المحلية الأخرى.
بالمثل، فإن الثوار السوريين، استطاعوا تأمين التدفق المستمر للأموال والأسلحة وغيرها من المساعدات من دول الخليج، من خلال إعادة تركيب صراعهم ليتناسب مع الطروحات الأكبر للصراعات الطائفية في المنطقة؛ فالأعضاء السابقين لحزب البعث والمتمردين العلمانيين الآخرين أطلقوا لحاهم، وأظهروا حسن نواياهم الإسلامية على مقاطع اليوتيوب، بغية المزايدة على أقرانهم من الثوار الآخرين.
سواء أطلقنا عليها اسم حرب بالوكالة أم لا، لا بد لنا من الاعتراف بأن الجزء الأكبر من الحرب في سورية لا يتعلق بتوازن القوى في المنطقة، فمعظم المقاتلين، عدا أعضاء تنظيم داعش، يحاربون لتحقيق أهداف شخصية وضيقة؛ فعلى سبيل المثال، ووفقًا لدراسة حديثة، أجراها الباحثان فيرا ميرونوفا وسام ويت، المتمردون مدفوعون أساسًا بدافع الانتقام وتغيير النظام، ولا يأبهون لقضايا الدين أو القضايا الإقليمية الكبرى.
المقاتلون السابقون الذين التقيتهم سابقًا في مخيمات اللاجئين السوريين عبّروا لي عن ذات الأمر في عام 2013؛ فبالنسبة لأحمد حسن، على سبيل المثال، وهو سائق سيارة أجرة من حلب، زيارات عناصر المخابرات الليلية وتفشي ظاهرة الرشوة هي ما دفعه للانضمام للمعارضة المسلحة، فبعد أشهر من بقائه محايدًا، “أصبح الأمر لا يطاق”، كما يقول حسن، وتابع: “الفساد كان مستشريًا، والجميع كان على وشك الانفجار، لم يكن بإمكاننا أن نثق بأحد”.
نهاية اللعبة
الأسطورة الأخرى المتداولة حول حروب الوكالة تتعلق بطريقة انتهائها، حيث جاء في مقال لرامي خوري، مدير معهد عصام فارس للشؤون السياسة العامة والدولية في الجامعة الأميركية ببيروت، نشره في صحيفة نيويورك تايمز: “لن يتوقف القتال إلا عندما تشعر الولايات المتحدة وروسيا وإيران والمملكة العربية السعودية بالعواقب السلبية للحرب، وينتهوا إلى أن مصلحتهم تتمثل بأن تضع الحرب أوزارها”.
مثل هذه الآراء تفترض بأن المقاتلين المحليين يعتمدون كليًا على الدعم الخارجي، وأن تفضيلات اللاعبين الخارجيين هي أكثر أهمية من أولويات المقاتلين الفعليين على الأرض.
يمكن لبعض الحروب أن تستمر إلى أجل غير مسمى، حتى في ظل عدم وجود أي أسلحة متطورة أو تمويل خارجي في خزائن جوانب الصراع؛ فعلى سبيل المثال، رفضت الحرب الأهلية في الصومال أن تخمد نفسها بنفسها، رغم عدم وجود رعاة من القوى الكبرى، ورغم الوجود المتقطع لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وبالمثل، فمن الصعب أن نتصور أن تضع مختلف الفصائل في سورية أسلحتهم حتى في ظل تدخل طرف ثالث أو إبرام صفقة سلام كبرى.
لذا، فإن التزلف للاعبين الخارجين للحد من دعمهم لمختلف العملاء أو الوكلاء الذين يتعاملون معهم على الأرض، لن يؤتي أكله؛ فالحرب الأهلية الدامية في أنغولا لم تنتهِ مع انهيار الاتحاد السوفييتي أو انسحاب القوات الكوبية والجنوب أفريقية، بل بدلًا من ذلك، امتدت الحرب لعقد آخر من الزمان، وعلى نحو مماثل، وبعد أكثر من 20 عامًا من إبرام اتفاق الطائف لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، ما زالت البلاد على شفا حريق طائفي قادم.
الوضع مماثل في سورية أيضًا، فواشنطن تصر على إجراء محادثات السلام في جنيف وفيينا اليوم، رغم أن هذه المحادثات تعتبر مشهدًا جانبيًا بالنسبة لمعظم الفصائل المتحاربة في سورية، وببساطة، فإن الحرب لن تنتهي مع جلوس هؤلاء اللاعبين الدوليين والإقليميين معًا على الطاولة، بل في الواقع، توضح لنا بيانات المسح الصغيرة المتوفرة حول الوضع السوري، بأن الصراع سينتهي بنوع من “الاستقرار القبيح” مع انتصار أحد جوانب الصراع، لأن الثوار يريدون تغيير النظام ومعظم المدنيين يريدون تحصيل حقوقهم الضائعة والعودة إلى ما يشبه الحياة الطبيعية.
إذن، حتى لو استطاع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري التوصل لاتفاق يقنع من خلاله السعوديين، القطريين، الإيرانيين، والروس على التخلي عن دعم وكلائهم في المستقبل ضمن الداخل السوري، فإن العنف قد ينخفض بشكل أو بأخر، ولكن الحرب لن تهمد بين عشية وضحاها، لأن جذور الحرب المشتعلة، كالفساد المحلي وانعدام الحريات السياسية، على سبيل المثال لا الحصر، هي ببساطة معقدة للغاية.
رهانات خطيرة
بعض المغالطات الأخرى المنتشرة، تؤطر حرب الوكالة ضمن رهان القوى الخارجية الباهظ للغاية عليها، لدرجة لا يمكن معها لهذه القوى أن تتحمل خسارتها لهذه الحرب؛ فلماذا إذن نحاول زحزحة المواقف، طالما أن سورية، كما يراها العديد من المحللين، هي الجبهة المركزية في الحرب الأكبر بين السنة والشيعة؟ أو لماذا نتوقع أي شيء سوى حرب مستدامة وطويلة طالما، كما يقول الخوري، “روسيا وأمريكا تتقاتلان في سورية، بمعركتهما الأخيرة من الحرب الباردة”؟
هذا النوع من التفكير يبالغ في تصوير الرهانات التي تضعها أمريكا وروسيا على النزاع؛ فالدافع خلف انخراط روسيا بالنزاع السوري يتمثل جزئيًا بمكافحة الإرهاب، كونها تخشى من تدفق الإسلاميين المتطرفين عبر حدودها في جنوب القوقاز، كما أنها تسعى من خلال مواقفها بالصراع السوري إلى حماية حليفها القديم في المنطقة، ولكن إذا سقط نظام الأسد غدًا، فإن الأمن الروسي القومي والموقف الروسي العالمي لن يتأثرا إلى حد كبير.
ذات الشيء يمكن أن يُقال عن الولايات المتحدة، حيث إن رهانها على النزاع السوري يتمثل بإضعاف إيران، حماية إسرائيل، ومنع سورية من أن تصبح نقطة انطلاق لشن هجمات جهادية دولية، ولكن إذا انتصر الأسد وروسيا في الحرب، فإن موقف الولايات المتحدة في المنطقة، سواء الجيوإستراتيجي أو الاقتصادي، لن يتزعزع، ولن يبدو مختلفًا للغاية عمّا كان عليه في عام 2010، أما في حال انتصر الثوار بالحرب السورية، فقد تصبح البلاد أقل جاذبية لإيران وأكثر إغراءً للجهاديين، ولكن الدول الضعيفة الأخرى في المنطقة، كاليمن والعراق، تتمتعان بذات الطابع أيضًا.
في هذا السياق، يمكن لجانبي الحرب السورية أن يستفيدوا من نتائج الحرب الأهلية في غواتيمالا، عندما رفضت الولايات المتحدة والنظام العسكري الذي يعمل بالوكالة عنها في الداخل، التراجع وتسليم الحرب، حتى بعد عقود من القتال وآلاف الأشخاص “المختفين”، رغم أن رهانات واشنطن كانت واهية للغاية ضمن هذا الصراع.
غلبة كفة القوى
تستطيع القوى الخارجية السيطرة على زخم الصراع من خلال اختيار التدخل العسكري في النزاع السوري، ولكن طالما لا يوجد أي طرف يتحدث بجدية عن حملة برية أو مهمة لحفظ السلام في البلاد، سيبقى مصير الحرب معلقًا بالمقام الأول بيد السوريين أنفسهم، وليس بيد كيري أو وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في جنيف، كما أن مصالح معظم السوريين لا ترتبط بخطوط الصدع الطائفية الأكبر نطاقًا في المنطقة.
إذن كيف تنتهي حروب الوكالة؟ تصل هذه الحروب إلى نهايتها عندما يستطيع أحد الجانبين اغتنام الغالبية الساحقة من السلطة مما يمكّنه من هزيمة الطرف الآخر عسكريًا، أو عندما يتفق الجانبان على أن إنهاء الحرب يصب في مصلحتهما سويًا؛ فمثلًا الحرب في فيتنام لم تضع أوزارها بسبب هدنة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بل جرّاء انسحاب القوات الأميركية والسقوط اللاحق لسايغون، وذات الأمر ينطبق على الحرب الأهلية في أنغولا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
بذات الطريقة، لن تصل الحرب السورية إلى نهايتها إلا من خلال حصول تحول هائل في ميزان القوى على السلطة، مما يسفر عن تحقيق نصر من قِبل أحد الجوانب، وهو سيناريو يبدو مستبعدًا، أو عن طريق الوصل إلى اتفاق حقيقي بين الفصائل المتحاربة على الأرض السورية.
من هذا المنطلق، بداية حل الأزمة السورية يجب أن يبدأ باتفاقات حول سلسلة من عمليات إيقاف إطلاق النار المحلية بغية بناء الثقة بين الجانبين، وهو أمر سبق وأن حدث في بعض المدن الريفية القريبة من الحدود اللبنانية وكذلك في محافظة إدلب.
جميع ما تقدم، لا يعني بأن الدول الكبرى يجب أن تبقى على هامش الأزمة، فهذا التحليل لا يمكن أن يكون واقعيًا، بل يجب على واشنطن مواجهة واقع هذه الحرب متعددة الأبعاد، والابتعاد عن السقوط كأسرى لأساطير حرب الوكالة القديمة، لأن ذلك لن يعمل سوى على إطالة أمد الحرب إلى أجل غير مسمى.
المصدر: فورين أفيرز