لو علمت “إسرائيل” أن السكين سيغدو يومًا السلاح الأول في عام 2015، لما ادخرت جهدًا في منع استيراد السكاكين إلى قلب أراضي فلسطين المحتلة، وسعت إلى فرض رقابتها على مصانع إنتاج السكاكين محليا، وربما حظرت توزيعها على محال الأدوات المنزلية إلا بشروط الكم والنوع الذي يريده الاحتلال ظنًا أنها بذلك تحفظ سلامة أرواح أبناء جلدتها!
ومن المحتمل جدًا أن يُفرز جُبْن “إسرائيل” أفكارًا لا كانت على البال ولا الخاطر؛ فمثلًا تشرع قانون يَنُص على طلب الإذن في امتلاك سكين يُشابه إجراءات امتلاك السلاح الحي، لا أدري كيف ستُشرع “إسرائيل” وهي دون شرعية قانونية ولا أخلاقية ولا إنسانية ولا حتى شرعية دولية، وإن نادى المصفقون لها بشرعية كل ما سبق، بقى أن يجرد شرعية “الاحتلال الإسرائيلي” من فهم الحق فهمًا حقيقيًا بحكم المنطق والتاريخ والدين، وأنا أجردها عندما أضع علامتي تنصيص حيث أذكرها لفظًا وكتابةً وشعورًا وفعلًا فهي نكرة في خريطة الأحرار.
ليس غريبًا أن تعلن “إسرائيل” حَجْرَ تداول السكين؛ فمن يُطْلق على راشقي الحجارة نعت “إرهابيين” ثم يتخبط بإصدار أحكام “إسرائيلية” تصل إلى اعتقالهم لمدة 3 سنوات، لن نعجب في ابتكارهم قيودًا على الشعب الفلسطيني.
لو علم الفلسطينيون أن السكين سيغدو السلاح الأول؛ لهَرَعوا إلى شراء مجموعات سكاكين بكميات هائلة، ولو علمت أمهات فلسطين ما يُخَطط له الشباب؛ لخبأت ربة المنزل سكينة كُل شهر في الحد الأدنى، كما تُخفي مبلغ مالي شهري فاض من مصروف البيت ولو كان ذو قيمة بسيطة للاستفادة منه في وقت العوزة، تخيل كم سيحصد ادخار السكاكين في خزينة النساء، وكم سيُؤتي أكُل الطعنات من أرواح المحتل!
سألت نفسي؛ هل تفكر “إسرائيل” منع استيراد السكاكين؟ وهل سنسمع عن شح السوق من السكاكين؟ وهل سيقوم التجار باحتكار “سوق السكاكين” ليصل سعر الواحدة منها ما يوازي سعر البندقية؟! بالتوازي مع هذه المعادلة كم عدد الصهاينة سيتلقى الطعنات، هل بعدد سكاكين فلسطين؟! لم لا.
عندها يُمنع الاستيراد، فيصنع الفلسطيني سكين من مواد أرضه التي نطقت الحجر، وليست غزة عنا ببعيد؛ فرغم الحصار والفقر اتقنت الاكتفاء الذاتي وتفجرت اختراعات عديدة.
الحجر، تلك الأسطورة التي تفتحت أزهار طفولتنا في كنف قصته وبطولته في دحر “الأعداء” و”الأشرار”، هكذا عرف لي “الأخيار” من هم “بني صهيون” بمصطلحات برامج الأطفال الكرتون.
كثيرًا ما ساقني خيالي وأنا أشاهد الانتفاضة عبر التلفاز لأسئلة بسيطة تملأ عقلي: كيف يملك الطفل الجرأة على رمي الحجر يواجه به رجالًا كبارًا ولا يهاب؟ ما سر القوة التي تجعله كذلك؟ لا أخفيكم كنت أتمنى أن أكون مكان الطفل وسؤال حائر هل سيقتنع والدي بذلك؟
خيالي جاوز المكان والزمان، واخترق صعوبات الحدود والجواز والقوانين البشرية، ولا أُبرئ غرقي قراءتي (سلسلة أطفال الحجارة) في خلق فضاءات من أفكاري لا تنتهي، ويوقظني حُلم الطفولة وأنا جاثية على ركبتي في المسجد الأقصى، فقد قال لي والدي يومًا إن جدي زار المسجد الأقصى مُسافرًا من مدينة حلب إلى القدس، فلِمَ لا أحلم أن أكون هناك أيضًا مثل جدي؟!
لم تتمكن الآلة الصهيونية الغاصبة أن تنتزع “الحجر” من كف الفلسطيني يومًا رغم إجرام الصهاينة، فالحجر السلاح السلمي بوجود كينونته حازت الانتفاضة الأولى لقب “انتفاضة الحجارة” في عام 1987م.
قال المؤرخان الإسرائيليان شيف ويآري: “فتح الفلسطينيون من خلال انتفاضتهم (يقصدون الانتفاضة الأولى) جبهة ثالثة، معركةً من نوع جديد لم يكن الإسرائيليون يملكون القدرة على ردعها، لم تكن الأدوات المعتادة للجهاز العسكري الإسرائيلي معدةً للتعامل مع تحد من هذا النوع، لم يكن الجيش الإسرائيلي مستعدًا للتصدي للانتفاضة سواء من حيث طبيعة انتشاره أو عقيدته القتالية أو حتى مخازنه المليئة بالأسلحة، خلال ليلة وضحاها بدأت نقاط الضعف الإسرائيلية تتكشف للجميع”.
يقول المثل “من فمك أدينك” فقد أكد أحد الصحفيين الإسرائيليين أن ما حققته المظاهرات الشبابية والنشاطات المنظمة للفلسطينيين أكثر مما حققته ثلاثة عقود من الكفاح المسلح خلال بضعة أسابيع فقط من اندلاع الانتفاضة الأولى.
ولحق به تخبط الاحتلال “الإسرائيلي” الذي دفع إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أن يقول: “سنكسر أيديهم وأرجلهم لو توجب ذلك”.
يبدو أن عزيمة الشعب الفلسطيني والانتقام تجاوزت بعد عقود ما قاله رابين حينها؛ من تكسير الأيدي والأرجل الفلسطيني إلى تكسير أوردة وشرايين قلب المستوطنين!
“ثورة السكاكين” أقلقت سبات الاحتلال، فلم تكن حوادث الطعن الأولى بل سُجل التاريخ قصة فلسطيني طعن الصحفي اليهودي “أشر لازار” حتى الموت في القدس عام 1947.
تستقبل “إسرائيل” في الصباح يوميًا صفعة وجود الملايين من البشر المؤازرين للشباب الفلسطيني المُناضل، فلم تدخر شبكات التواصل الاجتماعي هبة إلكترونية نصرة لانتفاضة السكاكين، وتوالى دعاء المحبين ودعمهم للقضية من شتى الجنسيات والمنابت، يؤمنون بما قاله مهند الحلبي (المنفذ الأول لعملية الطعن التي فجرت الانتفاضة الثالثة): “نحن لا نعرف قدس شرقية ولا غربية، فقط نعرف أن لنا قدسًا واحدة غير مقسمة، وكل بقعة فيها مقدسة”.
لعل الشاعر الأردني الدكتور أيمن العتوم أجزل الوصف حين قال:
“كل الوسائل في الجهاد مُباحةٌ
ما دامَ تؤتَى نُصرةً للدينِ
بالسيف أو بالنسف أو برصاصةٍ
وأجلهن الطعنُ بالسكينِ”.