في الدفاع عن حياتنا وأنفسنا أولًا؛ لأن خياراتنا صارت تبعًا لها ولم تعد خيارات يمكن اتخاذها بمعزل عن تكاليفها الخاصة على أشخاصنا وحياتنا وأنفسنا، خياراتنا التي حددت إنسانيتنا وملامحنا ووجهتنا تستحق الدفاع عنها ليس فقط لأنها دفاعًا عن أنفسنا التي تتعرض للاستباحة ولكن حرصًا على ألا تحرّم خياراتنا في المستقبل مثلما جرّمت في الماضي والواقع، خياراتنا أخلاقية وإنسانية دفعنا ثمنها راضين ولو عاد بي الزمن ألف مرة لما ترددت في اتخاذ نفس الخيارات رغم تكاليفها وأتعابها الباهظة لأنها انتصار لإنسانيتي ووجودي وروحي في عالم متوحش يجرّم الانتماء ويحرّم الاختيار.
كانت المواقف تبعًا للخيارات كاجتهاد ثوري وإنساني وأخلاقي وليس تبعًا للانتماء الذي لم يكن يومًا حزبيًا، لأني اعتبرت أن الأحزاب والائتلافات والانتماءات المغلقة خصمًا من الانتماء للثورة المفتوحة لا زيادة عليها، كانت المواقف الخاصة أصعب من الخيارات المكلفة: حضرت اعتصام محمد محمود كاملًا في الميدان من الجمعة للجمعة وما قبله وما تلاه من مظاهرات ضد الوصاية العسكرية، ويوم الاتحادية اتصلت بأصدقائي من الناحيتين طالبًا منهم التراجع والانسحاب وتفويت الفرصة على الطرف الثالث الذي يتلاعب بهما لأجل استعادة الحكم العسكري بعد إفشال التجربتين الثورية والسياسية، وشهدت العباسية الأولى والثانية وماسبيرو حينما تعرض لاعتداء العسكر، وشاركت في اعتصام الثمانية والأربعين يومًا في رابعة كمشاركتي في الثمانية عشر يومًا الأولى في التحرير ضد حكم العسكر لبلدنا ومصادرتهم لحق الناس في الاختيار الحر والعيش الكريم.
أنا متمسك باختياراتي بشدة وليس لدي ما أخجل منه ولا أعتذر عنه ومتمسك أيضًا بالانتماء الإسلامي العام واعتبر أن تجريمه وتحريمه ووصمه هو طائفية وعنصرية وإرهاب تمارسها نخب السلطة لاستبدادها وفسادها ورغبتها في استبعاد أكبر تيار في الأمة والمنطقة، وتمارسها النخب الثقافية التي تحالف السلطة طمعًا في موائدها وتدعي المعارضة طمعًا في مكاسبها، وتمارسها بعض النخب المحسوبة على الثورة خوفًا من تبعات الحقيقة وجبنًا من مواجهة العسكر بفسادهم وخيانتهم واستبدادهم.
هذه كانت خياراتي ومواقفي في السنوات الماضية في مصر، وهي ما شكلت جزءًا مهمًا من تكويني قبل أن تكون عهدًا وواجبًا يقتضي الإتمام والاستئناف رغم انكسارات وانتصارات واقعنا المؤلم.
التضامن واجب عليّ وحق لكل مظلوم وليس محكومًا بأي خيارات أو مواقف مما سبق، واجب التضامن هو ما نريده من شركاء 25 يناير والتيارات التي تنسب نفسها للثورة، تضامن أخلاقي حقوقي عدلي لكل المظلومين والمعتقلين وغير مشروط بالانتماء وغير انتقائي، أما واجب التغيير فصار أكبر من تيارات يناير بكثير وبالتأكيد لن يكون بأيدي نخب تضييع الثورة بمختلف توجهاتها، وعلى أحسن التقييمات فقد أدت هذه النخب نصيبًا منه ولكن استمرار التغيير وانتصار الثورة مرهون بتحولها لثورة المظلومين والمقهورين جميعًا لا ثورة التيارات السياسية المعارضة ولا نخب يناير التي صارت أيضًا للأسف نخبًا سياسية تقليدية، وإذ لا يمكن إنكار دور موجات مقاومة العسكر ومساهمة الحراك طوال الخمس سنوات الماضية في الحفاظ على الوعي وإبقاء جذوة الثورة باقية رغم الانكسارات، لكن التغيير مرهون بالتجديد والاجتهاد الثوري الذي يمكن أن يستفيد من هذه الموجات ويبني عليها مسارًا شعبيًا مقاومًا لحكم العسكر من خلال اصطفاف كل فئات المظلومين في مصر وخلق مساحات البدائل لفشل دولة العسكر وانهيارها الخدمي الشامل والتواصل مع قطاعات المظلومين وخرائط المقهورين وهي فئات ضخمة ومظالم هائلة لا يمكن الاستهانة بأهميتها وخطورتها وتمتد على كامل رقعة البلاد من أقصاها لأقصاها.
لا زلت أشعر كل صباح حين أتأمل يداي حرة الحركة بامتنان شديد وشكر بالغ لكل من تضامن معي حينما اعتقلت ليوم واحد في أواخر أغسطس 2013 بما في ذلك هؤلاء الذين اختلفت معهم بشدة قبل اعتقالي وبعده وبما فيهم هؤلاء الذين لم ينكروا جريمة الانقلاب وإن انكروا القتل والاعتقال والاختطاف والمصادرة وكافة جرائم السلطات العسكرية والأمنية بحق مواطنين مصريين، وأرجوا أن يتحول شعوري بالامتنان لهم لتضامن غير مشروط مع المعتقلين في سجون مصر وذوي الشهداء الأبرار طوال السنوات الخمس الدامية الماضية بلا تفرقة بينهم، والتعاطف مع المظالم الكبرى التي يعاني منها كل المصريين من التهميش والإفقار والتجويع والإهمال والتهجير والتضييق والنهب والاعتداء على الحقوق الإنسانية والأساسية ومصادرات الحريات العامة والحقوق الشخصية.
على قدر امتناني الشديد أشعر بالأسف الشديد لتقصيري تجاه المعتقلين من أصحابنا وأحبابنا ومن لا نعرفهم، أنا آسف لوالدي وأخي ولا أنعم بلحظة حرية دونهما أبدًا، وآسف لإسراء الطويل وعبد الله الفخراني وجعفر الزعفراني وعلاء عبد الفتاح ومحمد عادل ومحمد النمر وصهيب سعد وعمر مالك ومحمود سيف وحسام سعيد عيسى وأحمد سامي عبد الجواد ومحمود عيسوي وحسام أبو البخاري وحسن القباني وأحمد مولانا، والأساتذة الكبار الأفاضل مع حفظ ألقابهم جميعًا حازم أبو إسماعيل وعصام سلطان وحسن مالك وسعد فياض ومجدي قرقر والمستشار الخضيري ورفاعة الطهطاوي وعبد الله شحاتة وآخرهم العزيز إسماعيل، وهؤلاء الذين لا نعرفهم ولا ننساهم أبدًا، فـلا نعِمتْ نفوسٌ في صفاءٍ.. إذا نسيت نفوسًا في الصفاد ! آسف للأسرى الأبطال في سجون الاحتلالين في سوريا وفلسطين وآسف للمعتقلين في السجون الكبرى تحت ظل أنظمة قمع واستبداد حولت أوطاننا لسجون وسجوننا لأوطان، وآسف لمليوني إنسان في غزة يعانون الحصار من العدو والجار، آسف على تقصيري في واجبي تجاهكم، أنتم الكبار الأبطال سادة الناس على الحق المبين وغدًا يزول ظالمنا ونفرح بحريتكم وحريتنا التي لم ننعم بها دونكم، لا غرفة السجان باقية ولا زرد السلاسل وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل، اصبروا وصابروا ورابطوا وصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
كان إسماعيل الأسكندراني موفقًا بشدة حينما أصر على استبدال مصطلحات التوافق والاصطفاف بالإجماع على تجريم خطاب الكراهية الاجتماعية والسياسية وبناء تضامن حقوقي مفتوح وغير مشروط وغير انتقائي وإعطاء القيادة للقضايا الحقوقية لبناء إطار أخلاقي وإنساني يجعل التعاطف مع الإنسان لكونه إنسانًا يتعرض لبطش آلة الدولة القاتلة دون اشتراط للاتفاق معه حول مساحات السياسة وروايات الماضي ومسارات المستقبل، وإسماعيل الإسكندراني نفسه يجسد الآن فكرته بعد أن حول التضامن غير المشروط معه لنقطة اتفاق رغم كونه صاحب انحيازات وأفكار مثيرة للخلاف الحاد، ولكن يبقى اصطفافه مع مظالم المهمشين في سيناء والصعيد وضواحي الصحاري المصرية محل والمحافظات الحدودية المهمشة إجماع يُبنى عليه تشبيك وتنسيق وتعاون واتفاق حول مساحات الحركة الحقوقية المطلوبة وخرائط مقاومة الظلم ورفض المظالم، نحن نحتاج اصطفاف المظلومين على قاعدة الحقوق والإنسانية والحريات العامة أكثر من أي صيغ ثورية أو سياسية أخرى لم تعد ذات جدوى كما كانت من قبل، والطريق بين ميادين الجيزة والنهضة والدقي والتحرير ورمسيس والعباسية ورابعة العدوية لا يمر عبر الاتحادية ولا عبر الفسطاط ومصر القديمة.