إننا أمام دستور دولة الخلافة المزعومة، الدليل الذي يُدير به تنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميًا باسم “داعش” الولايات التي تقع تحت سيطرته، تمكنت صحيفة الجارديان البريطانية من نشر هذه الوثيقة الإدارية الخطيرة التي حصل عليه الباحث العراقي أيمن التميمي، والتي تبرز كيف فكر التنظيم منذ عام كامل لتأسيس دولته الشمولية الحالية.
كتب أبو عبدالله المصري أحد المقربين من قيادات التنظيم الذي قُتل في معارك الأنبار بحسب مصادر داخلية تنظيمية، وثيقة من 24 صفحة كمبادئ مقترحة ليدير بها التنظيم وكوادره دولتهم في العراق والشام وعلاقتها بالولايات الأخرى، وذلك عقب الأشهر الأولى بعد إعلان زعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي دولة “الخلافة”، في العراق وسوريا يوم 28 يونيو 2014.
خطورة هذه الوثيقة ليست فيما تحمله من إجراءات إدارية معلومة لكل من يعيش تحت سلطان داعش سواء في العراق أو سوريا، ولكن مكمن خطورتها هو تقديم صورة ذهنية متكاملة بعض الشيء وليست مبتورة عن تصور التنظيم لدولته؟ وكيف يُخطط لإدارتها؟
لا شك وأن هذه الإجراءات الواردة في الوثيقة قد وردت عليها تعديلات طوال عام مضى مع التجربة والخطأ لدى تنظيم الدولة، لكن الأبواب العامة لشؤون الحكم الواردة في الوثيقة توضح كيف يرى التنظيم “الدولة” ونمطها، بعدما أخذ يُردد في إصداراته المكتوبة والمرئية أنه ثار على الدولة الحديثة بكافة منتجاتها وأدواتها، ليؤسس نموذج الدولة “الإسلامية” أو دولة الخلافة المزعومة.
هذه الدولة التي تتحصل على دخل شهري يصل إلى ثمانين مليون دولار شهريًا من تهريب النفط والضرائب ومصادرة الممتلكات بحسب ما أورد معهد لمراقبة النزاعات في لندن في تقرير صدر هذا الشهر، والتي يدخل خزائنها قرابة 1.5 مليون دولار يوميًا بحسب تقديرات صحيفة فاينناشيال اللندنية، يجب أن يعنى الباحثون بتوجهاتها الاقتصادية، خاصة وأن هذا التنظيم يُروج أنه يريد الخروج من عباءة الاقتصاد العالمي بإجراءات اقتصادية شكلية، كإصدار عملة ذهبية خاصة بولاياته.
الحقيقة أننا أمام برنامج عمل لكوادر تنظيم الدولة موضوع وفق تصورات مشوهة وسطحية عن المنطقة التي يحكمها التنظيم، وإن حاول كاتب هذا البرنامج الإداري إظهار درايته التاريخية بدهاليز منطقة العراق والشام عبر ذكر بعض المصطلحات كـ “سايكس- بيكو” وغيرها من التصنيفات العرقية والجهوية والدينية، إلا أن ديباجته تظهر تأثره الواضح والشديد بخلفية ظهور تنظيمه عقب الغزو الأمريكي للعراق والمشكلات التي عانت منها الطائفة السنية في العراق، وأصبح هذا منطلقه الوحيد في الحكم على الصراعات والأشياء في المنطقة دون الرجوع لأي عامل آخر في الصراع داخل منطقة الهلال الخصيب، وعلى هذا الأساس فقط قرر تقسيم ولاياته بدون أي إستراتيجية أخرى سوى تفريق مخالفيه وعدم جمعهم في منطقة واحدة، وهو ربما ما أحدثوه مع الطائفة الأيزيدية بشكل واضح.
أما عن مجتمع دولة الخلافة في دستورها فقد تم تقسيمه بشكل إسلامي راديكالي إلى مهاجرين وأنصار من المنضوين تحت لوائه ولم يذكر أي هامش لخارجهم، حيث يعمل التنظيم على تقوية جبهته الداخلية عن طريق دمج المقاتلين الأجانب باختلاف تنويعاتهم مع أصحاب الأرض من أعضائه، حتى يحصل على جبهة داخلية متماسكة يكون ولائها الأول للتنظيم بعيدًا عن عصبية العرقيات والقوميات، بحيث يتحاشى أخطاء المجاهدين الأوائل في أفغانستان والشيشان بحسب وصف الوثيقة.
هذا المجتمع الخاص ستكون محاضنه التربوية والتعليمية وفق الوثيقة موحدة بتعليم شمولي هدفه التخديم على التنظيم بحيث يُخرج كوادر فنية تغني دولة الخلافة عن الاستعانة بالغير، وسيعمل التنظيم على تشكيل هذا المجتمع من القواعد بداية من معسكرات الأطفال مرورًا بمعسكرات الإعداد الأوّلي للأعضاء المنضمين حديثًا للتنظيم، حتى معسكرات القادة والخبرات الجهادية المعروفة بالاستمرار بحسب الوثيقة.
هذه الجبهة الداخلية والمجتمع الداعشي الخاص سوف يستخدم مصطلحات كالجهاد وفرضيته الدينية في تشكيل مجتمع مسلح جاهز للقتال بجميع أفراده في أي وقت من الأوقات دون النظر إلى مؤهلات عسكرية أو سنية وإنما تعلم كيفية استخدام السلاح وفقط، بحيث لا توجد فيه علاقات مدنية وعلاقات عسكرية.
كما أن الحشد سيكون عن طريق جهاز معنوي يحمل اسم “إدارة التوجيه” ستستخدم الحشد الديني بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة لترسيخ طاعة الأمراء العسكريين والشرعيين داخل التنظيم.
ومن ثم الحشد للمعارك باستخدام آيات الجهاد قبل كل موقعة عسكرية، مع الحديث عن فضل الاستشهاد في سبيل الله لشحن أكبر عدد من الطاقات في المعركة، ناهيك عن وحدات “الانغماسيين والاستشهاديين” التي ميزت أداء التنظيم في معاركه والتي لا بد وأنها تخضع لكم هائل من الشحن المعنوي من هذه الإدارة حتى يخرج الفرد منهم بنفسية تؤهله للقيام بمهامه.
المبادئ المقترحة لإدراة دولة البغدادي في هذه الوثيقة لم تمانع أبدًا من الاستعانة بالقيادات القديمة التي كانت تُدير المشاريع الاقتصادية الكبرى في الولايات التي تدر دخلًا للتنظيم مثل مشاريع النفط، شريطة أن تخضع للرقابة الشديدة بحسب الوثيقة، وهو ما يظهر جليًا باستعانة التنظيم بكوادر وخبرات عسكرية بعثية عملت في جيش صدام حسين قبيل الغزو الأمريكي للعراق.
كما أنه يعتمد على التجارة الخارجية بشكل رئيسي كأهم مصادر الدخل، أهمها بالطبع تهريب النفط وهنا لا يحكم التنظيم أية عوامل أخلاقية مدعية لأنه لا يُمانع في بيع النفط لتركيا التي يصفها بالكافرة، أو لسماسرة روس يتوعد دولتهم ليل نهار، أو لنظام بشار الأسد الذي يصفه بالعلوي المرتد.
كذلك الأمر في تجارة الآثار والذهب التي نشطت تحت سلة التنظيم في العراق وسوريا، تليها أسواق السلاح التي ازدهرت وسمح التنظيم في العمل بها كتجارة شرعية، وذلك للتخلص من أعباء التسليح الخارجية بإنشاء مصانع سلاح خفيفة داخل أراضيه، وكذلك تجارة في غنائم المعارك التي يخوضها مع الجيش العراقي أو غيره من القوات ذات التسليح الحديث.
وفي هذه الأسواق الثلاثة لا تسمح الدولة بمنافس لها، ولكنها تُعطي حرية نسبية في المجالات الأخرى الحياتية لمساعدتها في تحمل الأعباء المعيشية للمواطنين القابعين تحت سيطرة التنظيم، ولكن كل هذا يتطلب تصريحات قانونية من إدارة الولاية.
علاقات الدولة الخارجية لا تختلف كثيرًا عن أسس تجارتها الخارجية، فالمكتوب في هذه المبادئ الإدارية لا علاقة له بالممارسة وإنما سيطرة البراجماتية الحاكمة، ويظهر ذلك في تعامل تنظيم الدولة مع الطرف التركي تارة بالهجوم في عقر داره، وتارة بالتفاوض معه والإفراج عن دبلوماسييه، إذن لا ثابت في السياسة الخارجية لتنظيم الدولة بحسب الواقع لا بحسب دستورهم.
أما عن جانب الإعلام فربما يُحسب لهذه الدولة المزعومة اهتمامها به على عكس طبيعة رواد الأيديولوجية الجهادية، ويبدو بالفعل أنهم لديهم رغبة في تطوير التجارب الجهادية السابقة، فديوان الخلافة يُشرف بنفسه على المؤسسة الإعلامية الكبرى لتنظيم الدولة، مع ارتباطها بعلاقات وثيقة مع جناح التنظيم العسكري لتسويق المعارك بهذه الطريقة الهوليودية المعروفة عن التنفيذ.
كما يعمل هذا الإعلام الدولتي الذي تشرف عليه قيادة التنظيم بنفسها على الترويج لإنجازاتها على صعيد الجبهة الداخلية بالإضافة إلى كسب المزيد من الأنصار خارجيًا بتسويق إنجازات دولة الخلافة بطريقة مبهرة تستطيع إقناع المزيد من العناصر الإلكترونية لتفعليها كأفراد واقعيين فاعلين تحت سيطرة التنظيم إما في دولهم، أو بالسفر والالتحاق بركب التنظيم في معقله الأم.
يبدو بهذا الاستطلاع البسيط لهذه الوريقات أننا أمام تنظيم طموح منذ نشأته قالت عنه صحيفة الجارديان إنه أكبر بكثير من مجموع مقاتليه، لكن على صعيد الآخر كشفت هذه الوثائق أن تنظيم الدولة لم يعط أي تصور جديد لكيفية قيام الدولة، فنحن أمام دولة حديثة بكل إمكانياتها ولكنها دولة شمولية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
فهذه الوثيقة هي الأقرب لتعريف الدولة الشمولية بأدواتها الحديثة مع محاولة أسلمة ركيكة من جانب التنظيم، فالتنظيم يحاول فرض سلطته على المجتمع بكافة جوانبه الشخصية والعامة في كافة المناحي الاقتصادية والاجتماعية، وبهذا ظهرت دولة خلافة البغدادي وكأنها امتداد للدول الشيوعية على سبيل المثال في منهجها الاقتصادي السياسي.
لم يأت البغدادي بجديد كما يُروج أنصاره فيما يخص النظام العالمي، فتجارته الخارجية مرتبطة بأسعار النفط العالمية وأسعار الدولار صعودًا وهبوطًا، وعلاقاته الخارجية تحكمها المصلحة البراجماتية البحتة، ولم نر أي بُعد أخلاقي في معاملات التنظيم كما يردد مناصروه.
فقد تكون هذه هي أول تجربة حكم حقيقية للتيار الجهادي حول العالم لمعرفة ما يمكن أن يُنتجه، والنتيجة ربما جاءت مخيبة لآمال الكثيرين من أتباعه، من حيث التعايش مع هذا النظام العالمي وأدواته ومفردات دولته الحديثة، ولا مانع من إضافة مسحة المصطلحات الإسلامية على هذه الأدوات التي تقوم عليها دولة ضعيفة في تاريخ المنطقة التي تحكمها.
وبهذه الدولة من نقاط الضعف الإدارية أكثر من نقاط قوتها بكثير، ناهيك عن السلطوية المطلقة للدرجة التي لم تتحدث فيها الوثيقة عن كيفية تدوال السلطة بالأساس في دولة الخلافة المزعومة، وهو ما يجعلنا نفكر في إعادة التموضع من هذا التنظيم أثناء المواجهة، بحيث يمكن تصنيفه على أنه تنظيم شمولي بمسحة جهادية إسلامية لا أكثر، دون إعطاء مزيد من التضخيم لتجربته التقليدية في منتجها النهائي بالحكم طبقًا لتصورات القائمين عليه في الإدارة والسياسية والاقتصاد بحسب هذه الوثيقة.