الكويت: عجز مالي أم عجز في العقول

8654c3d4-d5a7-4945-836d-8ab268af75ad_16x9_788x442

15 عامًا والكويت تحقق فائضًا في الميزانية بسبب ارتفاع أسعار النفط العالمية، 15 عامًا والأموال تُكدس في صناديق الاحتياط بدون استثمارات تدر على الدولة تنوعًا في الدخل، 15 عامًا والاقتصاديون يوصون المسؤولين بضرورة تقليل اعتمادية الموازنة على إيرادات النفط، ولكن أسمعت لو ناديت حيًا، ولكن لا حياة لمن تنادي.

“نحن أمام وضع صعب من الناحية المالية في الوقت الحالي يُحتم علينا ضرورة التفكير جديًا في بدء عمليات الإصلاح المالي للسيطرة على إنفاقنا العام الجاري، وأن نعمل على تنويع مصادر إيرادات الدولة حتى لا تستمر الميزانية تحت رحمة تطورات الأوضاع في سوق النفط العالمي” هكذا قال وزير المالية الكويتي أنس الصالح بعد موافقة البرلمان الكويتي على موازنة عامة للدولة 2015/ 2016 والتي تُظهر عجزًا بسبعة مليارات دينار (23.2 مليار دولار) بسبب الانخفاض الحاد في أسعار النفط، حيث يُعد هذا العجز الأول منذ 16 عامًا حققت فيه الكويت فوائض مالية. 

من هو الذي غدر بالآخر: سعر النفط الذي يتحدد وفق آلية العرض والطلب في سوق عالمية لا يستطيع أحد السيطرة عليها أم المسؤول عن ثروة البلاد النفطية وإدارتها الذي لم يأبه بأحادية مصدر إيرادات الدولة، وأبقى تلك الإيرادات تحت رحمة أسعار تتقلب دون إذن أحد، حتى خسرت أسعار النفط 60% من قيمتها بين يونيو 2014 ويناير 2015. واليوم يزداد الأمر سوءًا بعد فشل منظمة أوبك في اجتماعها الأخير من إصدار قرار بخفض الإنتاج فهبط سعر برميل النفط الخام إلى 37 دولارًا ومن المتوقع أن يهبط السعر أكثر في المستقبل. 

في نهاية كل سنة مالية تقوم الحكومة بإعداد موازنة السنة القادمة، وفي البلدان التي تعتمد موازناتها على إيرادات النفط في جزء كبير من ناتجها المحلي تقوم الجهات المعنية بتحديد سعر لبرميل النفط لمعادلة موازنتها، الكويت في عام 2014 رسم مشروع الميزانية 18.8 مليار دينار (67 مليار دولار) مُشكلةً 94% من إجمالي الإيرادات على أساس سعر 75 دولارًا لبرميل النفط وبمعدل إنتاج 2.7 مليون برميل يوميًا. 

استطاعت الكويت تحقيق فوائض في الميزانية في الأعوام الـ 15 الماضية ولكن لم يكن ذلك بذكاء المسؤولين ولا بقوة الاقتصاد الوطني بل بسبب ارتفاع أسعار النفط العالمية التي لامست مستويات 140 دولارًا للبرميل في تلك السنوات، حتى جمعت الكويت مدخرات ضخمة كدستها في صندوق الثروة السيادي الذي تقدر أصوله بـ 548 مليار دولار بحسب تقديرات معهد صناديق الثروة السيادية.

موازنة 2015/ 2016 بتقديرات سعر 45 دولارًا لبرميل النفط قُدرت المصروفات فيها بنحو 19.17 مليار دينار والإيرادات بنحو 12.2 مليار دينار من بينها 10.7 مليار إيرادات نفطية، وقوفًا عند هذه النقطة لتحليلها ليس من العيب على دولة أن تسجل عجزًا في ميزانها التجاري فليس لدولة أن تُحقق اكتفاءً ذاتيًا خصوصًا ونحن نتكلم عن دولة مثل الكويت التي تعاني من مناخ صحراوي يُشكل عائقًا للتنمية الزراعية يجعلها تعتمد على استيراد الأغذية بشكل كامل باستثناء الأسماك، كما أنّ 75% من مياه الشرب يتم تحليتها أو استيرادها وأمورًا أخرى، لذلك من الطبيعي أن يشهد الميزان التجاري الكويتي عجزًا، وليس صعبًا عليها أن تغطي العجز من المدخرات أو بإصدار سندات أو صكوك إما بالسوق المحلي أو العالمي على حد سواء فحسب كلام وزير المالية أنس الصالح “خيار الذهاب للسوق عبر إصدار سندات أمر محتمل ومجرب وناجح، وهناك الاحتياطي العام للدولة، وسوف نذهب لما يحقق أعلى عائد للكويت”، ولكن الكلام هنا عن خطأ في مخ الاقتصاد وهي هيكلية إيرادات الموازنة فالسبب الرئيسي وراء العجز هو أن الكويت تعتمد بنسبة تفوق 90% على إيرادات النفط لتغطية الرواتب والكوادر والزيادات المستمرة بصرف النظر عن إنتاجية الموظف، فالتقارير الدولية تؤكد أنّ غالب ميزانية الكويت تذهب للأجور والدعم وغيرها من النفقات العامة والمصروفات غير الإنتاجية.

تُسمى إيرادات النفط بـ “الريع” فكل كسب يتحقق بدون عمل هو ريع بالمعنى الاقتصادي للكلمة، فالأساس أن يكون العمل محصلًا للكسب، هذا الكلام ليس اقتصادًا حديثًا ولا وليد ظاهرة نعمة النفط بل هو لبُّ دراسة الاقتصاد السياسي عبر العصور في الإنتاج والعمل والاستهلاك وطرق توزيع الثروة،ابن خلدون كان رائدًا في هذا المجال في القرن الثالث عشر كتب في مقدمته يقول ” ثم اعلم أنّ الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد في التحصيل، فلا بد في الرزق من سعي وعمل ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه”، وفسر أن بعض الأموال تزيد قيمتها لأسباب لا ترجع إلى عمل حائزها إنما فقط لزيادة العمران في المجتمع عامة وأنّ ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز لا يعد من الأعمال الطبيعية حيث يقول في ذلك: “اعلم أنّ كثيرًا من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ويبتغون الكسب من ذلك، إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة والفلح والصناعة، فيطلبونه بالوجوه المنحرفة وعلى غير المجرى الطبيعي من هذا وأمثاله”.

إذًا القول في الإنتاج والعمل أن كسب الرزق الطبيعي وإنمائه يكون بالتجارة والزراعة والصناعة، وليس الناجم عن الريع كما في حالة الكويت التي لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تنسج ولا تنتج شيئًا من حاجياتها وإنما تتفوق في مؤشرات الاستهلاك العالمي، ولتشخيص مرض اقتصاد الكويت نتطرق إلى الهيكلية التي تقوم عليها الموازنة في الكويت؛ صدّر الكويت في عام 2013 ما قيمته 108 مليار دولار واستورد 29.8 مليار دولار بناتج ميزان تجاري إيجابي للغاية قدره 78.8 مليار دولار تكدَّست في صندوق الثروة السيادي وصندوق الأجيال القادمة، الناتج المحلي للكويت بلغ في ذلك العام 175 مليار دولار والناتج المحلي لكل مواطن بلغ 52.2 ألف دولار.

صدّرت الكويت في عام 2013 النفط  (وهنا مكمن المشكلة ) بقيمة 71.6 مليار دولار ما يشكل نسبة 66% من الموازنة وصادرات نفط مكرر بقيمة 24 مليار دولار بنسبة 22% وغاز بقيمة 3.68 مليار دولار بنسبة 3.4% وهيدروكربونات 1.73 مليار دولار بنسبة 1.6% ومادة الإثيلين بقيمة 1.37 مليار دولار بنسبة 1.3%، واستوردت سيارات 3.96 مليار دولار وذهب 795 مليون دولار وتجهيزات إذاعية وتلفزيونية 677 مليون وأدوية بقيمة 594 مليون ومجوهرات بقيمة 542 مليون دولار.

وهذا ما يشكل أكثر من 90% من هيكل الموازنة العامة ما يجعلها عُرضة للانتكاسات المباشرة من سعر برميل النفط بسبب التقلبات التي تشهدها الأسعار في سوق النفط العالمي.

إن استشرافًا علميًا مطروحًا من علماء الجيولوجيا لنضوب النفط ومن ثم نفاذ الاحتياطيات النقدية التي تملكها الكويت يجعلنا نتساءل من أين ستؤمّن البلاد حاجاتها من الغذاء والماء والعلاج والملابس، كيف ستبني المنازل والمدارس والجامعات وغيرها من قطاعات أخرى ضرورية، ستظهر البلاد مشهرة إفلاسها لأنّها لم تكترث بالتخطيط لذلك اليوم سوى بتكديس الأموال دون بناء قاعدة إنتاجية قائمة على موارد بشرية وطنية تفعّل سياسات التنمية المستدامة في كل أطرها، بينما جُل اعتمادها اليوم يتركز على مادة تستخرجها وتزيد من ضخها في السوق لجلب المزيد من المال، وبناء أجيال تعلمت على الاستهلاك المفرط ولعب ألعاب الفديو أكثر من العمل الإنتاجي الحقيقي.

تُقدر احتياطيات الكويت من النفط بمئة مليار برميل علمًا أنّ هذا الرقم يشوبه الجدل في أوساط الجيولوجيين الذين يؤكدون أنّ الرقم أقل من ذلك بكثير وأن استشرافًا يقدر أن عمر النفط في الكويت أقل مما صرّحت به الحكومة التي قدرته مئة سنة تقريبًا، وتنتج الكويت في اليوم 2.7 مليون برميل نفط وستقوم برفع الإنتاج إلى 4 مليون برميل في عام 2020 وهذا يؤشر على استمرار نفس السياسات غير الحكيمة وغير المسؤولة  في إدارة هذه النعمة، ما سيزيد الطين بلّة. 

لعلّ تكرار المعلومات بما فيها المعوقات والحلول لهيكلية الاقتصاد الكويتي يُسمع من كان حيًا، المعوقات التي ييواجهها الاقتصاد الكويتي هي: النفط هو المصدر الوحيد لإيرادات الميزانية، وارتفاع مصروفات الدولة العامة بما فيها الأجور والزيادات والدعم الحكومي، والحلول هي تنويع مصادر الدخل وترشيد الإنفاق الاستهلاكي وتوجيه الدعم نحو المشروعات المنتجة، ومحاولة ربط الزيادة في الراتب بإنتاجية الموظف، والأهم هو دعم جميع مجالات الاقتصاد الحيوية عبر خطة تنموية مستدامة تضمن للدولة تحويل اقتصادها الريعي إلى اقتصاد إنتاجي، كما أنّ زيادة إنتاج النفط في ظل انخفاض الأسعار ليس حلًا مستدامًا بالمطلق بل يدل بحسب تفسير ابن خلدون على سوء إدارة وعلى “عجز في العقول” للذين يديرون هذا المورد.

تنويع مصادر دخل الكويت اليوم ليس أمرًا يمر عليه مرور الكرام بل هو حاجة ضرورية يجب معالجتها لتدارك الأمر وتلافي الوقوع في عجوزات أضخم في المستقبل وتلافي مسألة أعظم وأدهى هي نضوب النفط من الآبار كما تؤكد الكثير من الدراسات في المستقبل المنظور.