رياضة الآباء والأجداد
البشر والخيول، علاقة حب عمرها آلاف السنين، فمنذ فجر البشرية سخر الله “سبحانه وتعالى” تلك الحيوانات القوية الكبيرة الجميلة الشكل، لتكون وسيلة يستعملها البشر في تنقلاتهم وصيدهم، ونتيجة لرقة طبع الخيول وذكائها وإخلاصها، تعدت علاقة البشر بها علاقتهم ببقية الحيوانات التي يستعملونها، فنشأت علاقة ألفة وتعلق عنوانها الوفاء المتبادل بين الخيل والخيال، لدرجة جعلت بعض الشعوب تحرم أكل لحم الخيول، وبعضها الآخر يخلد رسم فرسانه على خيلهم بلوحات فنية محفورة في الصخر، كبعض نقوش الحثيين والفراعنة والإغريق والهنود الحمر، وغيرها من النقوش التي لم تندثر باندثار تلك الحضارات، فبقيت شاهدة على عمق علاقة الخيل بالبشر.
ولأجدادنا العرب مع الخيول حكايات تُحكى ومآثر تروى، ومادام الشعر ديوان العرب فلا بأس أن نستقي منه، فهذا أشعر شعراء العرب في الجاهلية امرؤ القيس يفرد حيزًا مرموقًا من معلقته الشهيرة لوصف جواده فيقول عنه في أجمل أبيات وصفه:
مِكر مِفر مقبل مدبر معًا — كجلمود صخر حطه السيل من علِ
وهذا فارس فرسان الجاهلية عنترة بن شداد يلتحم بجواده التحامًا جعله يشاركه ألمه ويتمنى محادثته، بقوله:
فازور من وقع القنا بلبانه — وشكا إليّ بعَبرةٍ وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى — ولكان لو علم الكلام مكلمي
وبعد الإسلام، بقي اهتمام العرب بالخيل بل زاد، إذ دعا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) سائر المسلمين إلى تعليم أولادهم ركوب الخيل، لما له من أهمية وأثر في النفس، فشهد تاريخ الفتوحات الإسلامية أسماء العديد من الفرسان المسلمين البارعين، منهم من الصحابة الكرام كعلي بن أبي طالب، سعد بن أبي وقاص، خالد بن الوليد، والقعقاع بن عمرو (رضي الله عنهم أجمعين)، ومنهم بعد ذلك من القادة البارزين، كقتيبة بن مسلم، مسلمة بن عبد الملك، الخليفة المعتصم، يوسف بن تاشفين، وغيرهم.
وبدورهم، أولى الأوروبيون عناية خاصة بالفروسية منذ القدم، فارتبطت الخيول بطبقات القادة والنبلاء منهم، واستعملوها في أغلب حروبهم خلال القرون الوسطى، قبل أن يشهد القرنين الـ17 والـ18 ازدهارًا ملموسًا للفروسية في أغلب دول غرب أوروبا، لتفتتح مدارس تعليم الفروسية في كل من النمسا وإسبانيا وبريطانيا، وتنتقل إلى القارة الأمريكية أيضًا عبر الفرسان الأوروبيين، قبل أن تنظم أول بطولة تنافسية بالفروسية في دبلن بأيرلندا أواسط القرن الـ19، ومن ثم يتم اعتماد الفروسية ضمن دورات الألعاب الأولمبية العالمية اعتبارًا من عام 1900.
الفروسية في عصرنا الحالي
جانب من منافسات بطولة العالم الأخيرة للفروسية في نورماندي بفرنسا
عام 1921 اجتمع أبرز أبطال الفروسية الأولمبيين في مدينة لوزان بسويسرا، وقرروا تأسيس الاتحاد الدولي للفروسية الذي ضم 8 أعضاء حينها هم: (بلجيكا – الدانمارك – فرنسا – إيطاليا – اليابان – النروج – السويد – الولايات المتحدة)، ليصبح منذ ذلك الحين الجهة المنظمة لجميع مسابقات الفروسية حول العالم، وقد قرر الأعضاء في ذلك الحين اعتماد مسابقات الفروسية الـ3 الرئيسية الموجودة ضمن المنهاج الأولمبي وهي:
– مسابقة الترويض (دريساج): وفيها يتوجب على الفارس التعاون مع فرسه لتأدية مجموعة من الخطوات والوقفات والاستدارات المحددة ضمن مضمار معين (طوله 60 وعرضه 20 مترًا)، وكلما زاد الانسجام بين الخيل والخيال كان التقييم أفضل.
– مسابقة قفز الحواجز: يقوم الفارس على فرسه بالوثب فوق عدة حواجز (عددها بين 6 و8، وارتفاعها لا يقل عن 140 سم)، موضوعة ضمن مسار معين، وتحسم نقاط معينة من الفارس عند إسقاط أي حاجز، ويلجأ لعامل الوقت عند التعادل في النقاط، كما يستبعد الفارس إذا حرن جواده مرتين عند الحاجز ذاته.
– مسابقة الأيام الـ3: وتسمى كذلك بمسابقة (الحدث) أو (المسابقة المتكاملة)، وتتضمن 3 مسابقات على الفارس إكمالها على الجواد ذاته، هي: الترويض، قفز الحواجز، والجري (ضمن مسارات صعبة)، وتقام المسابقات على مدى 3 أيام على أن يكون الفارس الذي يحصل العلامة الأعلى في مجموع المسابقات الثلاث هو الفائز.
وقد بقيت المسابقات الأولمبية هي البطولة العالمية الوحيدة المعتمدة حتى عام 1990، حين قرر الاتحاد الدولي تنظيم بطولة العالم لألعاب الفروسية، وفق نفس المسابقات الـ3 المعتمدة أولمبيًا، فاستضافت العاصمة السويدية ستوكهولم النسخة الأولى منها عام 1990، وبقيت البطولة تقام كل 4 سنوات منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، مع إضافة بعض المسابقات الجديدة في النسخ التالية، كمسابقات: القدرة (التحمل)، القيادة (السرعة)، الكبح، التعرج وغيرها، وقد أقيمت العام الماضي فعاليات البطولة السابعة التي استضافتها نورماندي بفرنسا، واتُفق على إقامة البطولة الثامنة في كيوبيك بكندا عام 2018.
الجدير بالذكر أن سباقات الخيول المرتبطة بالرهانات والقمار، التي تُقام في أنحاء متفرقة من العالم، غير مرتبطة إطلاقًا بالمسابقات التي ينظمها الاتحاد الدولي للفروسية، والذي وضع ضمن أهم شعاراته محاربة المقامرة والمنشطات.
الفروسية في الألعاب الأولمبية
صورة توضح طبيعة مسابقة الأيام الـ3 في أولمبياد لندن 2012
عام 1900 تم اعتماد الفروسية كأحد الألعاب الأولمبية في الدورة الثانية من الألعاب الأولمبية الصيفية التي استضافتها باريس، ومن ثم غابت عن الدورتين التاليتين، لتعود في أولمبياد ستوكهولم عام 1912 وتستمر حتى يومنا هذا.
كانت مسابقتا الفروسية المعتمدتان في دورة عام 1900 هما: الوثب العالي والوثب الطويل للخيول، وبدءًا من دورة عام 1912، أصبحت المسابقات الثلاث المعتمدة هي: الترويض، قفز الحواجز، ومسابقة الـ3 أيام، وهي المسابقة التي كانت تدعى بـ”مسابقة سلاح الفرسان”، وكانت المشاركة فيها تقتصر على ضباط الجيش فحسب، حتى دورة عام 1948 حيث سُمح للفرسان المدنيين بالاشتراك فيها.
في دورة عام 1952، سُمح للفارسات بالاشتراك في مسابقة الترويض، بعد أن كانت مسابقات الفروسية الأولمبية مقتصرة على الفرسان الرجال فحسب، قبل أن يُسمح لهن بالاشتراك في مسابقة قفز الحواجز إضافة إلى الترويض في الدورة التالية عام 1956، ولينلن المساواة الكاملة مع الفرسان الرجال بالاشتراك في جميع مسابقات الفروسية الأولمبية اعتبارًا من دورة عام 1964.
تنفرد ألمانيا بصدارة الدول الأكثر نجاحًا في مسابقات الفروسية الأولمبية، إذ أحرز فرسانها 39 ميدالية ذهبية و85 ميدالية في المجموع، تليها السويد برصيد 17 ذهبية و42 في المجموع، ثم فرنسا بـ12 ذهبية و34 في المجموع.
يحمل الفارس الألماني رينيه كليمك الرقم القياسي في عدد مرات التتويج بمسابقات الفروسية الأولمبية، برصيد 6 ميداليات ذهبية وبرونزيتين أحرزها بين عامي 1960 و1988، تليه مواطنته إيزابيل ويرث التي شاركت بين عامي 1992 و2008 وأحرزت 5 ذهبيات و3 فضيات، وفي المركز الثالث يأتي ألماني آخر هو هانز غونتر وينكلر برصيد 5 ذهبيات وفضية وبرونزية أحرزها بين عامي 1956 و1976.
دورة الألعاب الأولمبية الأخيرة التي جرت في لندن عام 2012، شهدت تتويج الفارسة البريطانية تشارلوت دوغاردين بذهبية مسابقة الترويض في الفردي، كما قادت بلادها إلى الفوز بذهبية الفرق للمسابقة ذاتها، وفي مسابقة قفز الحواجز، توج الفارس السويسري ستيف جويردات بذهبية الفردي، فيما ذهبت ذهبية الفرق لبريطانيا، أما في مسابقة الأيام الـ3، فتوج الألماني مايكل يونج بذهبية الفردي، وقاد بلاده للفوز بذهبية الفرق.
الفرسان العرب
الفارس الإماراتي حمدان آل مكتوم بطل العالم لسباقات القدرة
رغم العلاقة التاريخية التي تربط العرب بركوب الخيل، وانحدار معظم الخيول العالمية الممتازة من سلالات عربية أصيلة، إلا أن ارتفاع تكاليف اقتناء الخيول والعناية بها، فضلًا عن ندرة انتشار أندية الفروسية العامة في معظم وطننا العربي، جعل ممارسة هذه الرياضة حكرًا على طبقة الأثرياء الذين يمتلكون الرفاهية والوقت الكافي لإتقان هذه الرياضة، ولذلك نجد معظم الفرسان العرب الذين بلغوا مستويات عالمية ينتمون إلى دول الخليج العربي، وتحديدًا إلى طبقة الأمراء المترفين، الذين عشقوا رياضة الآباء والأجداد فبلغوا في ميادينها درجات المجد.
وإذا استعرضنا أبرز إنجازات العرب على صعيد بطولات العالم لألعاب الفروسية، فنجد أن أول الغيث كان في البطولة الرابعة التي استضافتها مدينة خيريز الإسبانية عام 2002، حيث توج الفارس الإماراتي الأمير حمدان بن محمد آل مكتوم بذهبية مسابقة القدرة (التحمل).
و في بطولة عام 2010 في مدينة كينتوكي الأمريكية، تألق فرسان الإمارات في مسابقة القدرة فأحرزوا ذهبية الفرق، كما أحرز الأميران محمد بن راشد وحمدان بن محمد آل مكتوم فضية وبرونزية المسابقة ذاتها في الفردي، وفي نفس البطولة حقق الفارس السعودي عبد الله الشربتلي فضية مسابقة قفز الحواجز.
وفي بطولة العالم الأخيرة التي استضافتها نورماندي بفرنسا العام الماضي، عاد الأمير الإماراتي حمدان آل مكتوم للتألق بإحرازه ذهبية مسابقة القدرة، تاركًا برونزية المسابقة ذاتها للفارس القطري عبد الرحمن سليطين.
أما على صعيد دورات الألعاب الأولمبية، فنتيجة لغياب مسابقة القدرة عن المنهاج الأولمبي، اقتصرت إنجازات العرب على ميداليتين فقط، أولهما في أولمبياد سيدني عام 2000، حين أحرز الفارس السعودي خالد العيد فضية مسابقة قفز الحواجز، وثانيهما في أولمبياد لندن الأخيرة عام 2012، حين أحرز فرسان المنتخب السعودي برونزية مسابقة قفز الحواجز للفرق.