خلال الفترة القليلة الماضية، تبنت الحكومة السعودية، سواء من خلال مجلس الوزراء رأسًا، أو من خلال بعض الوزارات، سلسلة من القرارات في حق العمل الخيري والمنابر والمكتبات المدرسية، أعادت إلى أذهان الكثيرين ما أخذته الحكومة السعودية من قرارات خلال مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، في حق التعليم الديني ومؤسسات العمل الخيري، ضمن إجراءات ما يُطلق عليه “مكافحة الإرهاب، وتجفيف منابع الفكر المتطرف”.
فكان من اللافت أن أعلنت وزارة التعليم السعودية عن تنفيذ قرار قديم صدر قبل سبعة سنوات، بسحب كتب لعدد من رموز الإخوان المسلمين والتيار الصحوي من مكتبات المدارس ومراكز التعلُّم في المملكة، من بينها كتب لحسن البنا وسيد قطب، وعدد آخر من رموز الإخوان المسلمين؛ حيث وسَّعت الوزارة قائمة الكتب المحظورة في المدارس، فشملت كتبًا ثقافية
وضمت القائمة الجديدة، بحسب صحيفة “عكاظ” التي كانت أول من نشر تفاصيل الأمر، كتبًا ثقافية لثلاثة مؤلفين من تيار الإخوان المسلمين، وهي: كتاب “الرفيق الخائن للمفكر عبد الكريم الجهيمان، وكتاب “ذو القرنين”، وهو مجموعة قصص لللكاتب محمد أحمد براق، وكتاب “قصة الملك ميداس”، للاديب الإسلامي المصري، كامل كيلاني، فيما أعلنت الوزارة أن هناك مجموعة كتب جديدة ذات توجه جديد سيتم توزيعها على المدارس، في المجالات الأدبية والاجتماعية وتطوير الذات.
تزامن هذا القرار مع سلسلة من القرارات الأخرى بشأن ما وصفته الحكومة السعودية بـ”ضبط المنابر والعمل الخيري في الخارج”، وهذه القرارات بدورها، كان من المفترض أن تصدر منذ سنوات، ولكنها تأخرت وصدرت هذه الآونة أيضًا، مما أثار الكثير من التساؤلات حول السياق والأسباب التي صدرت في إطارها تلك القرارات، والتي تزامنت مع بعضها البعض، ومع قرارات أخرى مماثلة بدأت السلطات السعودية في تبنيها منذ نهاية أكتوبر الماضي.
فموافقة مجلس الوزراء السعودي على نظام الجمعيات والمؤسسات الخيرية الجديد، هي خطوة تتم مناقشتها منذ العام 2006م، وطرحت الحكومة السعودية مبررًا لا يحمل أية دلالة في صدد توقيت أخذ هذه الخطوة الآن، فقالت إن إقرار القانون “يهدف إلى تنظيم العمل الأهلي الخيري في السعودية وتطويره وحمايته”، في إشارة إلى موضوع محاصرة تمويل الأنشطة والتنظيمات المصنَّفة “إرهابية” أو “متطرفة”.
وأقر النظام الجديد إنشاء جهة جديدة باسم “صندوق دعم الجمعيات” وبحسب القانون؛ فإن مهمة الصندوق “دعم برامج الجمعيات وبحث سبل تطويرها بما يضمن استمرار أعمالها، والسماح للشخصيات الاعتبارية من شركات ومؤسسات وبنوك بتأسيس مؤسسات وجمعيات خيرية”، وجعل وزارة الشؤون الاجتماعية، الجهة الوحيدة المشرفة على جميع الجمعيات والمؤسسات الخيرية في المملكة.
تزامن ذلك أيضًا مع توزيع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، أكثر من 15 ألف نسخة من موسوعة خطب جمعة تحتوي على 77 خطبة “تهدف إلى ترشيد مليونين وأربعمائة ألف خطبة جمعة سنوية تلقى في أكثر من 50 ألف جامع في المملكة” بحسب الوزارة التي اختارت عددًا من خطب المسجد الحرام والمسجد النبوي، وخطب مفتي عام المملكة “القائمة على الاختصار والبُعد عن تسييس المنبر والثرثرة المفضية إلى إقحام منبر الجمعة في آراء شخصية وتعبيرات ذاتية يترتب عليها شحن المصلين بالطاقات السلبية وتوتيرهم بالطرح العاطفي المتشنج”، وقالت إن الهدف من ذلك “منع فتنة القول التي يترتب عليها فتن الفعل” و”تفعيل دور الخطيب في تحقيق الأمن الفكري لوطنه وتعزيز الوسطية والاعتدال”.
حمل قرار الوزارة كذلك عبارات لافتة مثل أن الخطباء “يتحملون مسؤولية الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في اختصار الخطبة والبعد عن الثرثرة والتسييس لمنبر الجمعة الذي اختاره الله ليكون منبر هداية وإرشاد وتأليف قلوب وجمع كلمة وتوحيد صف وانتماء للوطن وولاء لمن ولاه الله أمرنا في هذه البلاد المباركة من خلال منهج السمع والطاعة”.
ومنذ فترة تتفاعل قرارات مماثلة تشير إلى أن السلطات السعودية تنفذ خطة مرحلية في مجال ضبط الأنشطة الدعوية والخيرية، وأنشطة المنابر، وكل ما يتعلق بالمحتوى الديني، سواء على مستوى المضمون المقدَّم أو المؤسسات العاملة.
فمنذ أسابيع قليلة، نشرت “الحياة” اللندنية، توصيات قالت إنها حكومية، ولكنها لم تحدد بالضبط جهة الإصدار، تتعلق بمراجعة أوضاع “المكاتب التعاونية للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات، المنتشرة في كل مناطق ومحافظات المملكة.
التوصيات تضمنت قيام وزارة الشؤون الإسلامية، بالتنسيق مع إمارات المناطق، بمراجعة مواقع وأعداد مكاتب الدعوة بحسب حاجة كل منطقة، والقيام إما بدمج أو إغلاق المكاتب أو الفروع الزائدة على الحاجة، وتكثيف الرقابة عليها من النواحي المالية والإدارية والتنظيمية، من خلال مؤسسة النقد العربي السعودي “ساما”، ومكتب محاسبي متخصص.
ونصت التوصيات على أن يتم التنسيق بين وزارتَيْ الداخلية والشؤون الإسلامية لإقامة دورات تدريبية للقائمين على المكاتب الدعوية في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتكثيف الرقابة على الاستثمارات التي تقوم بها تلك المكاتب.
وفي الخلفية، تم يوم 11 نوفمبر الماضي، إغلاق جميع المعارض التابعة للندوة العالمية للشباب الإسلامي، والخاصة بتلقي التبرعات في منطقة الرياض، بعد تشكيل لجنة حكومية من جهات مختصة لتطبيق ومتابعة إتفاقية المقر الموقعة بين الحكومة السعودية والندوة العالمية للشباب الإسلامي، باعتبارها منظمة دولية.
وفي يوم 26 نوفمبر، صدر قرار عن وزارة الداخلية السعودية بوضع 12 من قيادات “حزب الله” اللبناني، على قائمة الإرهاب السعودية، وشمل القرار كذلك، إقرار 11 محظورًا أمنيًّا على المواطنين والمقيمين، ومن بين أهمها خلع البيعة التي في عنقه لولاة الأمر، أو مبايعة أي حزب، أو تنظيم، أو تيار، أو جماعة، أو فرد في الداخل أو الخارج، أو المشاركة أو الدعوة أو التحريض على القتال في أماكن الصراعات بالدول الأخرى، أو الإفتاء بذلك.
كما شملت هذه “المحظورات” تأييد التنظيمات أو الجماعات أو التيارات أو التجمعات أو الأحزاب أو إظهار الانتماء لها أو التعاطف معها، أو الترويج لها أو عقد اجتماعات تحت مظلتها، سواء داخل المملكة أو خارجها، وأيضًا التبرع أو الدعم أو الاتصال مع المنظمات، أو التيارات، أو الجماعات المصنَّفة إرهابية أو متطرفة، أو إيواء من ينتمي إليها.
وكلها أمور تندرج تحتها أنشطة الإخوان المسلمين وتيارات أخرى صحوية، موضوعة في قائمة الإرهاب السعودية، أو حتى غير موضوعة؛ حيث لم تذكر بعض البنود المتعلقة بهذه “المحظورات”، ما إذا كانت الأنشطة المرتبطة بها، لصالح تنظيمات إرهابية أو غير مصنَّفة إرهابية.
يربط البعض بين هذه السلسلة من القرارات تلى أغلبها أحداث باريس، في الثالث عشر من نوفمبر الماضي، وبين إجراءات متصاعدة بدأت الحكومة السعودية في التفكير فيها منذ أشهر، بعد تصعيد ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، لعملياته داخل المملكة، والتي استهدفت بالأساس طرفَيْن؛ رجال الأمن ومساجد الشيعة، من أجل إحداث سلسلة من الأزمات السياسية ذات الطابع الأمني داخل البلاد، على غرار ما تم في العراق في الفترة من 2006م إلى 2008م، بتكتيكات مشابهة، قام بها أبو مصعب الزرقاوي في ذلك الحين.
تفاعل مع ذلك، حملة منظمة بدأتها الصحف ووسائل الإعلام السعودية من أجل تفنيد الفكر التكفيري الذي يرتكن إليه تنظيم “داعش”، وتركز الحملة في الغالب على غياب الفهم الصحيح للدين الإسلامي لدى عناصر “داعش” باعتبار أن كشف حقيقة التنظيم أمام الشباب السعودي والمسلم بشكل عام، يمنع انضمام المزيد من العناصر التي ترتكب جرائم التفجير وترويع المواطنين.
إلا أن هذه الحملة بدأت في الآونة الأخيرة تعود إلى ذكر الإخوان المسلمين صراحة، بعد فترة من الإخلاد إلى الهدوء، منذ مقدم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، إلى سُدَّة الحكم في البلاد، بشكل توقع معه الكثيرون، حدوث مصالحة بين الإخوان والدولة السعودية، تُرفع بموجبها الجماعة من قائمة الإرهاب السعودية.
وغير بعيد كذلك، وضح في الإعلام السعودي، تصعيد في الصراع بين التيار السلفي الوهابي التقليدي، والتيار الليبرالي؛ حيث استعمل بعض الكتاب والإعلاميين السعوديين المنتمين للتيار الليبرالي، ممن يكتبون في صحف مثل “الوطن”، عبارات صريحة حول الفكر الوهابي، ودوره في خلق الحالة التكفيرية.
وتشير تفاعلات الحدث، وتزامنه مع أحداث أخرى، إلى أن الأمر يرتبط ببعض الإملاءات والضغوط الخارجية، من مصر والإمارات، ومن غيرها من الأطراف التي ترغب في محاصرة الإخوان المسلمين، خصوصًا وأن غالبية الأنشطة الخيرية التي تتم خارج المملكة من خلال أطر مثل الندوة العالمية للشباب الإسلامي، تتم من خلال قنوات ذات صلة بالإخوان المسلمين، ولاسيما في أفريقيا.
ولعل هنا، وفق تقارير هذه المؤسسات، فإن قطاعًا كبيرًا من أنشطة العمل الخيري التي تشرف عليها الندوة ومؤسسات أخرى خيرية سعودية، في مناطق أفريقيا جنوب الصحراء، سوف تتضرر بشدة، وخصوصًا في تشاد والنيجر ومناطق أخرى غرب القارة الأفريقية، وهو ما سوف يكون له بدوره مردودًا سيئًا في جانب آخر، وهو ذلك المتعلق بمحاولات احتواء انتشار جماعات مرتبطة بالقاعدة وتنظيم “داعش” في هذه المناطق، مثل “بوكو حرام”، و”جماعة المرابطين”.
أي أن هذه الإجراءات السعودية، سوف تقود إلى نتائج معاكسة فيما تهدف إليه في صدد مكافحة الفكر المتطرف، الذي هو أساس ظاهرة الإرهاب.
ويمكن في الإطار، ربط هذه القرارات بالهجمات الإرهابية الأخيرة في أوروبا والولايات المتحدة، والحملة المتنامية لموسكو ضد تركيا، وكذلك بانعقاد مجلس التنسيق المصري – السعودي، والتقارير التي أشارت إلى أن الإمارات قد بدأت في التهديد بالانسحاب من الحرب في اليمن، بعد التقارب الأخير بين العاهل السعودي، الملك سلمان وبين كل من تركيا وقطر، في الملف السوري، وبينه وبين الإخوان المسلمين كذلك، ضمن محور سُنِّي كان ينوي بنائه لمواجهة إيران والسياسة الأمريكية التي لا توافق عليها الرياض، في المنطقة.
يرتبط بذلك، بعض التطورات التي جرت خلال القمة العربية – اللاتينية الرابعة التي عقدت في العاصمة السعودية، الرياض، في العاشر من نوفمبر، عندما التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مع العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز.
ففي حينه قال وزير الخارجية المصري، سامح شكري، إن اللقاء أسفر عن “أمور ونتائج مهمة”، وأن “العلاقات مع السعودية قوية ويصعب اختراقها من أصحاب المصالح المغرضة”، فيما فسره مراقبون في حينه، بأنه سوف يكون له انعكاسات على الموقف السعودي الرسمي من الإخوان المسلمين، وهو ما تحقق بالفعل.
كما يمكن الربط كذلك بين هذه التطورات، وبين تصعيد بعض الأوساط السعودية للهجة خطابها ضد تركيا، وعدم خروج موقف سعودي رسمي إزاء الإعلان التركي أن أنقرة بصدد شن حملة عسكرية في سوريا مع السعودية ودولة ثالثة، هي قطر في الغالب، والتي زارها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل نحو أسبوعين، ضمن مساعي بناء تحالف إقليمي جديد في مواجهة التحالفات الروسية، سواء في الملف السوري، أو في الأزمة الراهنة بين أنقرة وموسكو على خلفية حادثة الطائرة السوخوي.
هذه الصورة تطرح أولويات للعمل من جانب الإخوان المسلمين، ومن جانب الأطراف التي شملتها الإجراءات السعودية الأخيرة، لعمل إعلامي ودعوي مشترك، يشمل مواقف واضحة من جانب الجهات والهيئات العلمانية داخل وخارج المملكة للتعامل مع الموقف الجديد للحكومة السعودية من الإخوان المسلمين، ومن العمل الخيري، والذي سوف يكون له بكل تأكيد تبعاته على علماء الدعوة، وقدرتهم على أداء دورهم بالكفاءة المطلوبة، في مرحلة تشهد الكثير من التشويش والضلالات!