بسبب نجاح التجربة التركية – تجربة حزب العدالة والتنمية الحزبية – واحتلالها لمكانة مهمة في العالم من الناحية السياسية والاقتصادية والإستراتيجية، أصبحت هذه التجربة مسار انبهار وإعجاب من قِبل الشعوب العربية قبل الباحثين العرب، تجربة رائدة في مجال حقوق الإنسان والحريات والتقدم الاقتصادي في منطقتنا الشرق الأوسطية الإسلامية، خصوصًا مع هجمات الثورة المضادة على ربيعنا العربي.
عوامل نجاح هذه التجربة كانت مسار أبحاث ودراسات كثيرة من قِبل كتاب وباحثين متخصصين في المجالات الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية، طالت كل جوانب التجربة وغطت أغلب نقاط قوتها، وشهدت هذه الأبحاث نموًا متزايدًا بعد قيام الثورات العربية لكي تستفيد منها دول الربيع العربي، خصوصًا مع تشابه الظروف والأحوال والأوضاع بين تركيا ودول الربيع العربي.
عوامل نجاح التجربة التركية تحمل أيضًا في طياتها عوامل فشل للتجربة، وليس الفشل معناه الفشل الاقتصادي وانهيار الوضع السياسي والإستراتيجي، فمثلًا لو هُزم حزب العدالة والتنمية في الانتخابات ليس هذا معناه سقوط الاقتصاد التركي وانهيار قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وإلقاء قادة الحزب في السجون كما حدث في مصر، لأن هذه القيم أصبحت مترسخة في وجدان الشعب التركي قبل السياسيين الأتراك، وأصبحت تركيا دولة ديمقراطية حرة متمسكة بحقوق الإنسان.
والخلاف السياسي لا يتعدى مجرد الخلاف ليدخل في مرحلة عداء سياسي تتمنى معه قتل المنافس ورميه في السجون والمعتقلات، وهذا ما قصده رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي عندما وجه كلامه لقادة حزب العدالة والتنمية في إحدى مؤتمراته قائلًا: لا تخافوا لو هزمتم في الانتخابات لن نرمي بكم في السجون والمعتقلات كما فعل غيرنا – يقصد مصر -.
عوامل نجاح التجربة التركية لو تم إهمالها أو التهاون فيها فسوف تنهار هذه التجربة، أو يحدث لها كبوة تعيق تقدمها للأمام واحتلالها لمقاعد متقدمة في المشاركة في صنع القرار العالمي.
من أهم عوامل نجاح التجربة التركية التركيز على الوضع الاقتصادي الذي يؤدي مباشرة إلى رفع مستوى دخل المواطن التركي وتحسن وضعه الاقتصادي، وهذه النقطة جعلت حتى بعض المخالفين لحزب العدالة والتنمية سياسيًا عند التصويت يختارونه لأنه الأفضل اقتصاديًا لهم، إهمال هذا العامل أو حتى مجرد عدم التقدم فيه يضر بتجربة الحزب وقد تؤدي لنهاية تجربته وفشله.
ويرى بعض المتخصصين في الشأن التركي أن أحد أهم أسباب تراجع الحزب في الانتخابات قبل الأخيرة أن التصويت لم يكن فقط على تطوير المشروع الاقتصادي التركي وإنما تداخل معه موضوع تعديل الدستور وتحويل البلاد للنظام الرئاسي والذي بالغ بعض مرشحي الحزب والرئيس أردوغان في الحديث عنه، فأصبح الناخب لا يصوت لمشروع اقتصادي فقط، ولكن دخل فيه قضية سياسية مختلف عليها حتى داخل الحزب نفسه، فالعامل الاقتصادي من أهم عوامل نجاح وفشل التجربة التركية.
ومن عوامل نجاح التجربة التركية مخاطبتها لكل جماهير الشعب التركي، والقدرة على التواصل مع الجميع حتى المختلفين معهم ومع توجهاتهم؛ فالحزب استطاع حصد أصوات الأكراد والقوميين والإسلاميبن والصوفيين واليساريين والليبراليين، حتى أن الحزب كانت دائمًا قوائمه تشمل كل التيارات والاتجاهات، فالحزب لم يطرح نفسه كحزب مؤدلج بل كحزب صاحب مشروع تنموي اجتماعي لنهضة تركيا؛ فالحزب تواصل مع أصحاب الخمارات ونوادي القمار وبيوت الدعارة ، وفي نفس الوقت تواصل مع الإسلاميين بجميع توجهاتهم السلفية والصوفية والحركية، فالحزب لا يفصل بين هؤلاء فكلهم أبناء الجمهورية التركية.
وكان قادة التجربة الحاليين في خلاف مع أستاذهم أربكان وأصدقائه في هذه النقطة؛ فقادة حزب العدالة والتنمية حاليًا كانوا أول من دفع المرأة للتقدم في أدوارها الحزبية والسياسية داخل أحزاب أربكان المتعددة على عكس أفكار أربكان وقادة حركة الفكر الوطني.
فخسارة الحزب لهذا التنوع هو معول هدم في نجاح التجربة، وهذا ظهر أيضًا في الانتخابات قبل السابقة، فمع بعض التصريحات السياسية الخاطئة وظهور حزب الشعب الجمهوري الكردي خسر الحزب كثيرًا من أصوات الأكراد، بل وحتى الأكراد الإسلاميين بسبب إهمال قوائم حزب العدالة والتنمية قادة الأكراد الإسلاميين، أيضًا صراع الحزب مع حركة الخدمة بقيادة فتح الله كولن جعل الحزب يخسر أصوات بعض الإسلاميين المقربين والمتأثرين بالحركة وهم ليسوا بالعدد البسيط.
في الانتخابات الأخيرة تدارك الحزب هذه النقطة وخصوصًا مع قادة الأكراد الإسلاميين، وهم كانوا على طول الخط من الداعمين لأردوغان ومن قبله أربكان لطرحهم الجيد لحل المشكلة الكردية، وفي ناحية الإسلاميين نجح الحزب في استقطاب جناح من الإسلاميين كان قد خسره في فترة ما وهو جناح المؤيدين التقليديين لحركة الفكر الوطني وممثلها حزب السعادة، فاستطاع الحزب استقطاب عدد مهم من ناخبي هذا التيار محاولًا تعويض الفقدان الذي حدث في تيار حركة الخدمة ومناصريها.
ومن عوامل نجاح التجربة أيضًا تصدر الشباب لقيادة هذا المشروع وقيامهم بدور إصلاحي تطوري في فكر الحركة الأم، حركة الفكر الوطني منذ تأسيسها على يد المرحوم أربكان خصصت جهدًا كبيرًا للشباب متمثلًا في الاتحاد الوطني للطلبة الأتراك، وهو تنظيم شبابي ثقافي تنموي يعمل على بناء الشباب وثقافتهم وقدراتهم، يحتوي على لجان للفن والمسرح والأدب والقصة والسياسة والدين والإدارة والاقتصاد، يديره الشباب فقط ولا دخل للشيوخ في عمله وإدارته، يعمل فيه الشباب من كل الأطياف والتيارات والمشارب، يلتقون ويتناقشون ويتحاورون ويعملون مع بعضهم البعض، هذا الاتحاد كان من قادته الشاب رجب طيب أردوغان والشاب عبدالله جول والشاب أحمد داوود أوغلو والشاب بولنت إرينج.
شباب الأمس هو قادة هذه التجربة الآن، وعلى الرغم مما هو مشهور عن أربكان أنه كان يدير الحزب بمبدأ السلطان العثماني، إلا أنه سمح للشباب بالحركة بتولي مقاعد قيادية بالحزب، فهذا أردوغان وهو بعمر 22 عامًا كان رئيسًا لجناح الشباب بحزب السلامة الوطني لمحافظة إسطنبول ورئيس جناح الشباب بالحزب كله، 30 عامًا رئيس شعبة حي باي أوغلو في حزب الرفاة، 35 عامًا رئيس شعبة إسطنبول في حزب الرفاة وعضو اللجنة العليا للحزب، 44 عامًا مرشح حزب الرفاة لرئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، وأردوغان نفسه عندما كان رئيسًا لشعبة إسطنبول في حزب الرفاة أعطى مجالًا واسعًا للشباب وخصوصًا طلاب الجامعات، وسمح لهم بتحمل مسؤوليات وأعباء داخل الحزب، فأنشأ أردوغان في شعبة إسطنبول لجنة لاستطلاعات الرأي أعضائها من طلاب الجامعات ورئيسها طالب بكلية الاقتصاد.
الشباب لديهم الطاقة والحيوية للتحرك والانتقال والتجول، لديهم القدرة على ابتكار أفكار وحلول من خارج الصندوق، يستطيعون التعامل مع أقرانهم الذين يمثلون غالبية السكان في مناطقنا الشرق أوسطية، الشباب دماء جديدة تُضخ في هيكل أي مؤسسة فتعمل على إعادة إحيائها وتجديد أجسادها.
لو فقدت التجربة التركية هذه الفكرة ستتقهر سريعًا مع اختفاء القادة الكبار أو تقدمهم في العمر، وأخشى ما أخشاه ألا يكون لدى الحزب قيادات شابة في الصف الأول والثاني والثالث، قيادات ليست كأردوغان وأوغلو وجول، بل أقوى وأذكى وأفضل منهم، فما واجه معلميهم يختلف عما سيلاقوه هم، يحزنني ألا أجد شابًا صغير السن وزيرًا في حكومة السيد أوغلو، أو شابًا رئيسًا لبلدية كبرى، أو شابأ قياديًا داخل الحزب ينتقد سياسات أردغان وأوغلو ويرى أن هناك أخطاءً يجب تقويمها، لو فقد الحزب دماء الشباب فسقوطه سيكون أسرع مما نظن.
كل عوامل نجاح التجربة التركية لو تم إهمالها ستتحول إلى عوامل فشل، الأمور الصغيرة قبل الكبيرة، ويجب أن يتكون تيار داخل الحزب، تيار شبابي قوي ناقد وواعٍ، يكون العين البصيرة الناقدة المتحفزة للانقضاض على الأخطاء والتجاوزات لاقتناصها وتقويمها، حتى ولو كان مصدر هذه الأخطاء الزعيم أردوغان أو السيد أوغلو، فالتقدير والاحترام لا يلغيان التقويم والتعديل والتصحيح.