تتفاعل معظم الأزمات والقضايا الدولية وتتأثر بمحيطها والظروف التي تمر بها، والقضية الفلسطينية التي تشكل مركز الصراع العربي الإسلامي -الإسرائيلي، تدخل ضمن هذا السياق، فعلى مر التاريخ والقضية الفلسطينية رهينةً للتفاعلات والتطورات الإقليمية والدولية، والأحداث تثبت ذلك، حيث بدا واضحًا التأثير الذي تشهده القضية مع كل حدث جديد على مسرح العلاقات الدولية في مختلف الساحات، حتى لو كان ذلك الحدث بعيدًا كل البعد ظاهريًا عن كل ما يجري على ساحة الصراع، لكن ارتباط هذه التفاعلات والتطورات الدولية والإقليمية بمراكز القوى في العالم يلقي بظلاله دائمًا على القضية الفلسطينية.
لذا، فكل دول المنطقة الطامحة لدور إقليمي ودولي فعال، تعمل على أن يكون لها أثر في مسار القضية الفلسطينية، لما للقضية من مكانة دينية وسياسية وإستراتيجية لدى شعوب المنطقة والأنظمة والقوى العالمية، وكونها قضية لها أبعاد متعددة؛ ولذلك تعتبر مفتاحًا لقياس دور أي دولة في الإقليم.
ومن الواضح أن مواقف الدول الرسمية وتعاملها مع القضية الفلسطينية تتغير وتتباين وفق الظروف الدولية والإقليمية، وحسب تطور مراحل الصراع، ويعود ذلك إلى عدة عوامل أبرزها: المصالح والأولويات التي تحكم الأنظمة، الأيديولوجيات التي تتبناها الأنظمة الحاكمة، العامل الجيوإستراتيجي والأيديولوجي للقضية الفلسطينية، 4طبيعة العلاقات والولاءات والتحالفات، درجات قوة النظام من حيث وزنه البشري والاقتصادي والسياسي، ومدى تأثيره في المعادلات الإقليمية، وقدرة المنظمات والأحزاب الشعبية والإسلامية في تلك الدول على تفعيل الاهتمام بالقضية الفلسطينية.
وعند طرح القضية الفلسطينية للنقاش، يتبادر للأذهان عدة لاعبين إقليميين، لهم أدوار حيوية في تطور مسار الصراع، ومن أهم هؤلاء اللاعبين (إيران وتركيا).
إذ تعتبر إيران وتركيا قوتين سياسيتين وازنتين، لكل منهما مشروع إقليمي طموح، يعمل على التمدد وفرض مكانة كبيرة في الإقليم؛ سعيًا لدورٍ مؤثرٍ في السياسة العالمية، وبالتالي من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى حدوث تنافس كبير بينهما في كثير من الملفات والقضايا الإقليمية، وخصوصًا القضية الفلسطينية.
ويتبادر للأذهان مباشرة عند طرح سياسة إيران تجاه القضية الفلسطينية، ما قدمته من دعم كبير للمقاومة الفلسطينية بمختلف أطيافها، منذ أن استطاعت الثورة الإيرانية إزالة حكم الشاه وتغيير نظام الحكم، وكيف أن هذا الدعم عزز صمود المقاومة في مختلف الفترات الحرجة.
وبالنسبة لتاريخ تركيا مع قضية فلسطين، فقد بقي الموقف التركي محصورًا في تأييد القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، كما تميزت السياسة التركية تجاه القضية الفلسطينية بأنها داعمة للفلسطينيين بصورة ملحوظة مع الاحتفاظ بعلاقات وطيدة مع كيان الاحتلال، أي أنها اتسمت بالتوازن مع جميع الأطراف الإقليمية ضمن سياسة تصفير المشاكل مع دول الجوار – حتى وقت قريب -، حتى انتقلت لمرحلة انتقاد السياسات الإسرائيلية بصورة رسمية وتوطيد علاقاتها بحركة حماس، ثم سعيها المتواصل لفك الحصار عن قطاع غزة، وصولًا للتراجع الكبير في العلاقة مع إسرائيل إلى حد التضاد، وانتظام وتيرة العلاقة ضمن سياسة متوازنة تتعامل مع جميع الطيف السياسي الفلسطيني.
وبرغم التباين الواضح في السلوك السياسي لكلا البلدين تجاه القضية الفلسطينية، وحجم ما قدمته إيران مقارنةً بتركيا، إلا أن هناك ارتياح فلسطيني كبير لعلاقة تركيا بالقضية، في مقابل الريبة تجاه أهداف إيران، ويكمن ذلك في أن إيران تسعى للحفاظ على نفوذها في المنطقة، وفرض إرادتها كطرف رئيسي في معادلة توازن القوى، وإيجادِ مكانٍ مركزي ضمن النظام الإقليمي، ومن أهم ما يحقق ذلك هو الثبات على سياساتها تجاه إسرائيل، المتمثلة في الاستمرار بدعم حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين، أي استخدام القضية الفلسطينية كورقة ضغط على المجتمع الدولي لتحقيق مكاسب إقليمية.
لكن الموقف الإيراني بدأ يواجه بعض الإشكاليات، التي أوقفته عند حد معين وهددت تقدمه المستقبلي، نتيجة للتنافر المذهبي المُختلق بين السنة والشيعة، أضف إلى ذلك التطور الكبير في السلوك التركي تجاه فلسطين وقضيتها، وطبيعة التوجه التركي نحو بناء تحالف إقليمي جديد يصفه البعض بالمحور السني المقابل لإيران.
فالمشروع التركي الإقليمي بصورة عامة، يقوم على إستراتيجيتين، الأولى: إستراتيجية التنافس في إطار التعاون لضمان الاستقرار الإقليمي، والثانية: إستراتيجية تعميق الروابط الاقتصادية بين دول المنطقة على اعتبار أهمية الاقتصاد في العلاقات الدولية، وهذا ما أدى لصعود أسهم المشروع التركي لدى الفلسطينيين.
ويقابل ذلك، مشروع إيران الإحلالي، الذي يقوم على استغلال التحولات التي طرأت في المنطقة لتحقيق مكاسب سياسية، ويرتكز على إضعاف الخصوم والسيطرة عليهم، والتوتير المضبوط في بعض الملفات الإقليمية؛ لتجيير نتائج هذا التوتر لصالح الضغط على خصومها؛ سعيًا لإيجادِ مكانٍ على طاولة المفاوضات الدولية.
أي أن إيران تخوض لعبة الصراع مع إسرائيل للحصول على مكاسب ذاتية، ولإضعاف مكانة لاعبين إقليميين مهمين مثل المملكة العربية السعودية، بينما تخوض تركيا الصراع بمواجهة مباشرة دون التسبب بإضعاف أي لاعب إقليمي، وهذا ما أدى إلى الاطمئنان الفلسطيني تجاه المشروع التركي، وتراجع مساحة التأثير للنفوذ الإيراني في القضية الفلسطينية.
بالتالي، وبسبب البعد الإسلامي والقومي للقضية الفلسطينية، والقناعة التامة أن القضية بحاجة لمشروع يتأسس على التعاون، تفوقت تركيا على إيران في مكانتها لدى الفلسطينيين، برغم الوعي التام باحتياجنا لكلا البلدين.