سلطات تشيلي تعترف ضمنيًا باغتيال بابلو نيرودا
قبل شهر تقريبًا، صدر تقرير عن وزارة الداخلية التشيلية، يؤكد فرضية اغتيال الشاعر المعروف بابلو نيرودا، صاحب نوبل للآداب سنة 1971، وكانت صحيفة إلباييس الإسبانية الواسعة الانتشار سباقة إلى نشر مقاطع من نص التقرير، الذي يشير بوضوح تام إلى أن وفاة نيرودا لم يكن سببها سرطان البروستاتا الذي كان يعاني منه، بل كانت ناتجة عن تدخل طرف ثالث في الواقعة.
نيرودا الذي توفي ليلة 23 من سبتمبر عام 1973 بإحدى مصحات العاصمة التشيلية سانتياغو، كان قد خضع في نفس يوم وفاته لعلاج حُقن على إثره بجُرعة عجلت بوفاته بعد ست ساعات ونصف، أي قبيل سفره إلى المكسيك حيث كان من المرتقب أن يتزعم حكومة مؤقتة في المنفى للتنديد بالانقلاب الذي قاده الديكتاتور أوغوستو بينوشي في 11 من سبتمبر من نفس العام ضد الرئيس الاشتراكي المنتخب سالبادور أييندي الذي كان نيرودا من أصدقائه المقربين وأشد المدافعين عنه.
من جهتها أكدت وزارة الداخلية التشيلية ما نشرته الصحيفة الإسبانية في بلاغ تعترف فيه بصحة المعطيات والوثائق، التي كانت قد وجهتها للقاضي المكلف بالتحقيق، ماريو كاروثا، وتعد الوثيقة المؤرخة في 25 من مارس الماضي، جزءًا من بيان التحقيق السري الذي يحمل الرقم 1038-2011، وهي الشهادة الرسمية التي تضمنها كتاب جديد يتناول سيرة بابلو نيرودا، أعاد كتابتها المؤرخ الإسباني ماريو أموروس في كتاب بعنوان “نيرودا: أمير الشعراء“، الذي صدر أواسط الشهر الماضي.
في انتظار انتهاء التحقيق
القاضي المكلف بالتحقيق، ماريو كاروثا إسبينوسا، الذي رغم توصله وإقراره بما جاء في وثائق وزارة الداخلية التي تؤيد فرضية الاغتيال، لا يزال مترددًا في ظل عدم توفر دلائل علمية قاطعة، وقد صرح لصحيفة “إلباييس” الإسبانية: “تحدثنا منذ البداية عن وجود مادة غريبة، نيرودا كان مريضًا بالسرطان، لكنه لم يدخل مرحلة الاحتضار الأخيرة، رغم أن حالته تدهورت في 23 سبتمبر ومات في ظرف ست ساعات”.
لكن لا يزال هناك خيط قد يقود إلى فك عقدة الوفاة المحيرة لصاحب “النشيد الشامل” وهو كما جاء على لسان القاضي في حديثه لنفس الصحيفة: “أنا في انتظار تحليل دليل أخير هو بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية (Staphylococcus aureus) التي وُجدت في بقايا جثة الشاعر، ولا زلت في مرحلة تجميع المعطيات”، ويقول الخبراء إن هذه البكتيريا لا تدخل بتاتًا في علاج سرطان البروستاتا، ومتى حصل تعديل في تركيبتها فهي تؤدي حتمًا إلى الوفاة السريعة.
الشاهد الوحيد
وتعود فصول إعادة فتح قضية وفاة الشاعر بابلو نيرودا إلى العام 2011 بعد شكاية وضعها مانويل ديل كارمن أرايا (69 سنة)، السائق والسكرتير الخاص للشاعر آنذاك، يتهم فيها زبانية الديكتاتور أوغوستو بينوشي باغتيال الشاعر والدبلوماسي وصاحب ثاني جائزة للآداب في تشيلي، وقد تبنى الحزب الشيوعي القضية وطالب بإخراج رفات الشاعر وفحصها من جديد، وهو ما تم في 8 من أبريل عام 2013 تحت إشراف فريق من المختصين من الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وكندا والتشيلي، الذين خلصوا عند نهاية مهمتهم في مرحلة أولى، إلى عدم اكتشافهم لأي دليل يثبت حدوث تسمم في جسد الشاعر.
وقد كشف مانويل أرايا في لقاء مع جريدة الباييس الإسبانية، قبل أربع سنوات، أن نيرودا كان قد اختار الرحيل إلى منفاه الاختياري في المكسيك رفقة زوجته ماتيلدي، بعد الدعوة التي تلقاها من الرئيس لويس اتشفريا الفاريس، وفي نيته حشد الدعم من الخارج للإطاحة بنظام بينوشي في أقل من 3 أشهر، لكن قبيل سفره، الذي تقرر في 24 من سبتمبر برغبة من الشاعر، كان قد أُدخل إلى إحدى المصحات بالعاصمة سانتياغو.
يضيف السائق، أن نيرودا قد طلب منه مرافقة زوجته ماتيلدي إلى مدينة لا إيسلا نيغرا حيث كان يقيم، قصد استعادة بعض الأشياء الخاصة به وفي مقدمتها مخطوطة كتابه “أعترف أنني قد عشت” الذي يروي فيه سيرته الذاتية، لكن اتصالاً هاتفيًا عجل بعودتهما إلى العاصمة: “كان نيرودا، وقد طلب منا العودة فورًا، لأن حالته ليست على ما يرام، قال بأن أحد الأطباء قد دخل إلى غرفته، وقد أعطاه حقنة، لا يدري طبيعتها، بينما كان نائمًا، عدنا للتو إلى المصحة، فوجدناه محمومًا وقد ساءت حالته”.
وكان ذلك آخر عهد أرايا بالشاعر نيرودا، بعدما خرج لاقتناء دواء بطلب من الطبيب المعالج، لكنه لم يعد، إذ تعرض للاعتقال وهو على متن سيارته من طرف مجموعة من المسلحين، حيث تم اقتياده إلى مخفر للشرطة وتم استنطاقه وتعذيبه قصد التبليغ عن قادة المعارضة الشيوعية الذين يلتقيهم نيرودا، ليتم بعد ذلك إبعاده إلى “الملعب الوطني” حيث يتم تجميع المعتقلين، وهناك علم بخبر وفاة نيرودا.
في انتظار الحسم
في شهر مارس الماضي قامت الحكومة التشيلية بتسليم تقريرها السري للقاضي كارُّوثا، بعدها قامت اللجنة العلمية في مهمتها الثانية، بإبلاغ قاضي التحقيق بعثورها على آثار بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية في بقايا جثة الشاعر، على أن يتم تقديم نتائج التحليل كاملة في شهر مارس 2016.
وبخصوص هذا الدليل، يقول الخبير الإسباني والأستاذ الجامعي بكلية الطب بجامعة إقليم الباسك فرانسيسكو اتشبريا:”نسعى إلى فك شفرة الحمض النووي DNA الخاص بهذه البكتيريا، ومعرفة إذا ما كان هو السائد حينذاك داخل البلاد أم تم تعديله، وقد سبق العثور على مثيل له تم تعديل تركيبته داخل مصانع السلاح، فالبحث الذي نقوم به صعب جدًا ويتمثل فيما إذا كان الأمر يتعلق بفيروس معدّل، فسنحاول تحديد المصنع والبلد الذي ورد منه”، وهو ما أكده القاضي كارُّوثا:” كان نظام بينوشي يعمل على المواد الكيمائية داخل مختبراته قصد استعمالها في تنحية خصومه، وقد كان الرئيس إدواردو فري (سلف أيّيندي) واحدًا من ضحاياه، وهو ما يفترض أن ما وقع قد تم بمجرد أن بدأ الانقلاب العسكري لأنه بعد أيام قليلة مات نيرودا، وربما كان السبب في ذلك هو تلك البكتيريا”.
وفي انتظار ما ستسفر عنه النتائج الرسمية النهائية للتحقيق، هناك سؤال يطرح نفسه، في حالة كانت نتائج تحليل الجرثومة سلبية هل سيُوجه القاضي كارُّوثا أصابع الاتهام لنظام بينوشي البائد بناء على شهادات من عايشوا الشاعر في آخر أيامه وتقارير وزارة الداخلية؟