مدخل:
تمر الساحة الفلسطينية بحالة من الركود السياسي , يتخللها هجمة شرسة يشنها العدو الإسرائيلي ضد المسجد الأقصى ومدينة القدس , ترافقها شهية مفتوحة على الاستيطان بصورة غير مسبوقة , وتصاعد لحالة الغليان الشعبي في الضفة الغربية كردة فعل طبيعية على ممارسات الاحتلال المرتفعة الوتيرة , كما يجتاح غزة موجة جديدة من التضييق والخناق بعد الانقلاب العسكري في مصر , الذي لم يتمكن حتى اللحظة من إحكام السيطرة على الأرض في ظل تزايد التظاهرات الشعبية الرافضة له , كذلك يرتبك المشهد على الساحة السورية في ظل صراعات إقليمية ودولية على آلية الحل ، وتنشغل دول عربية أخرى في البحث عن مصالحها السياسية في إقصاء الحركات الإسلامية عن المشهد .
أولويات دولة الاحتلال الإسرائيلي :
تنصب أولويات الاحتلال في هذه المرحلة اتجاه المخاطر الخارجية , في الوقت الذي تعيش فيه الجبهة الداخلية حالة من الاستقرار نتيجة استمرار المفاوضات مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وسريان اتفاق التهدئة مع حماس في قطاع غزة , وأخطر هذه الملفات على الترتيب التالي :
أ. الملف الإيراني : ويتصدر أولويات الكيان الإسرائيلي بالرغم من الاتصالات الأمريكية الإيرانية العالية المستوى , ويتربع الخيار العسكري على أجندة إسرائيل في التعامل مع إيران , وهو خيار غير مجمع عليه لكنه يحظى بتأييد واسع ,الجانب الإسرائيلي مضطر للتعاطي مع الطروحات الأمريكية بالتعويل على سلاح العقوبات إلا أن هذا لا يعني تراجع ترتيب الملف الإيراني على سلم الأولويات، ويبقى الكيان الإسرائيلي عمود الارتكاز لسياسات أمريكا في المنطقة .
ب. الأوضاع في مصر وسيناء : استفادت إسرائيل من الحملة الأمنية في سيناء بعد الانقلاب العسكري وأصبح جزءاً من المنظومة الأمنية , كما كان هدم الأنفاق سبباً في وقف إمداد المقاومة بالسلاح خدمةً له , ومع ذلك يبقى الحراك الجماهيري وهاجس فشل الانقلاب يشكلان قلقاً يراود إسرائيل, لذا يسعى لدعم الانقلاب والاعتراف به في المحافل الدولية فهو الضامن لاستمرار اتفاقية السلام , لأن تجربة الرئيس مرسي في مساندة المقاومة كانت مؤلمة بالنسبة له .
ت. الجبهة الشمالية : مازال الاحتلال يبحث عن حالة أكثر استقراراً على الجبهة السورية على الرغم من نجاح اتفاق نزع السلاح الكيماوي , كما يلعب حزب الله دوراً في زعزعة هذا الاستقرار رغم انشغاله بالصراع الدائر في سوريا , فهو يمثل تهديداً أمنياً للاحتلال , انهيار النظام في سوريا أو توجيه أية ضربة عسكرية لسوريا أو إيران تمنح حزب الله فرصة وإن كانت ضئيلة باستهداف الكيان الإسرائيلي .
ث. الضفة الغربية وقطاع غزة : تعتبر أكثر الجبهات استقراراً في الفترة الحالية بيد أن انفجارها في أي وقت سيجعلها تتصدر الأولوية لدى الطرف الإسرائيلي , فالحراك الشبابي وإن كان ضعيفاً وعمليات المقاومة التي فاجأت أجهزة الأمن الإسرائيلية تُبقي على محدودية الأداء مع توفر عوامل الانفجار في الضفة الغربية , كاعتداء المستوطنين وتهويد القدس ومصادرة الأراضي و الوضع الاقتصادي المتردي , وعلى جبهة غزة فاتفاق التهدئة ساري المفعول , وإن كانت استعدادات المقاومة مستمرة , والمقاومة تحاصر من الجانب المصري , مما يدفعها للتمهل في اتخاذ قرار المواجهة مع الكيان الإسرائيلي .
ملف المفاوضات :
أ. موقف الولايات المتحدة الأمريكية : صممت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1948 , مقارباتها الخاصة لتسوية الصراع في الشرق الأوسط , وتميزت السياسة الأمريكية تجاه الصراع بالانحياز المطلق والالتزام الثابت تجاه إسرائيل , فضلاً عن كونها الحليف الأمريكي الأول في المنطقة , ولم يكن بمقدور أية إدارة أمريكية كانت ، ديمقراطية أو جمهورية ، ممارسة ضغوط مؤثرة على الجانب الإسرائيلي , وتمكنت الولايات المتحدة خلال الفترة الزمنية من 1991 حتى الآن , من دفع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي للدخول في مفاوضات ضمن عملية شاملة للتسوية السياسية , لكنها وعلى مدار سنوات العملية التفاوضية أخفقت في التوصل إلى حل نهائي للصراع , يرتكز على رؤية حل الدولتين ويقود إلى قيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967 .
ب. موقف إسرائيل : نقلت اتفاقات أوسلو الصراع على إقامة الدولة الفلسطينية إلى صراع على ما هية الدولة , من حيث مضمونها , والمطلوب فلسطينياً مقابل المواقفة الإسرائيلية على قيامها , وفي الوقت الذي أراد فيه الفلسطينيون التقيد بإطار زمني للمفاوضات , اعتمد الطرف الإسرائيلي نهج التسويف والمماطلة , وذهبت لإدارة الصراع دون حله , وتنصلت من التزاماتها , وراحت تطلب اتفاقيات تنفيذية تتعلق بقضايا جزئية و تؤجل الحل النهائي , وتسعى إسرائيل إلى فرض أمر واقع على الأرض يصعب التعامل معه عن طريق المفاوضات , وتدلل ممارساتها على أنها لا تزال ترفض إقامة دولة فلسطينية إلى جوارها , وحتى وإن قبلت , فإن رؤيتها للحل تقوم على ضم الكتل الاستيطانية , و السيطرة على المصادر المائية , والحفاظ على الطابع الديموغرافي لها , من خلال إقرار الفلسطينيين بيهوديتها , وهو ما يُسقط ضمنياً حق عودة اللاجئين الفلسطينيين , ويهدد وجود العرب داخل إسرائيل .
وضع حركة فتح :
لقد وضعت حركة فتح كافة بيضها في سلة المفاوضات , وجعلت كافة خياراتها محدودة بالتعاطي مع الاحتلال , فبالرغم من أن الرئيس عباس وضع شروطاً للعودة إلى المفاوضات إلا أنه سرعان ما تنازل عنها أمام الضغط الأمريكي , بالإضافة إلى حالة الرفض الفصائلي والشعبي للعودة للمفاوضات , وحالات الفشل المتكررة للعملية التفاوضية منذ بداية مسيرة السلام وتوقيع اتفاق أوسلو , وغيبت فتح خيار حل السلطة عن برامجها , فانعكست الأولوية من وجود السلطة , فبدلاً من أن تكون وسيلة لتحرير فلسطين , أصبحت غاية يجب المحافظة عليها تحت أي ظرف , كما تحولت السلطة إلى مؤسسة استهلاكية أنفقت ما يقارب 23 مليار دولار دون تحقيق أية تنمية حقيقية .
أبرز ما تعانيه حركة فتح في هذه المرحلة هو غياب الزعيم , فبالرغم من سيطرة عباس على مفاصل الحركة , إلا أنه يفتقر إلى القرار الشجاع الذي يتمرد على الواقع الحالي , في ظل غياب البدائل الحقيقية لمشروع التفاوض , والمراهنة على محور الاعتدال الذي لم يغير واقعاً على الأرض .
وضع حركة حماس :
لا أحد ينكر بأن حماس تعرضت لضربة مؤثرة بالانقلاب على الرئيس مرسي في مصر , واستعدائها من قبل السلطة الحاكمة هناك وتكرار الحديث عن الارتباط العضوي بين حماس والإخوان المسلمين في مصر , وهذا ليس بالجديد , فالعلاقة مع مصر تشهد حالة من الفتور بين الطرفين لكن في نهاية المطاف مصر مجبرة على التعامل مع حماس والعكس صحيح , وقطاع غزة جزء من الأمن القومي المصري , ومصر تمثل البوابة الخارجية الوحيدة لحماس , والاتصالات مع المخابرات المصرية التي تدير العلاقة مع حماس مستمرة , لذلك ستبقى حلقة الاتصالات فاعلة بينهم .
حماس مازالت تحتفظ بعلاقاتها مع الأطراف الإقليمية كتركيا , كما تتمتع بعلاقة قوية مع قطر مقر إقامة رئيس المكتب السياسي للحركة ، وعودة المياه إلى مجاريها مع إيران , والدلالات تشير إلى عودة قوية للاتصالات والتواصل , نتج عنها زيارات عديدة لطهران من قبل قيادات في حماس , ويعود تحسن العلاقة بينهم إلى ما بعد عدوان نوفمبر 2012 على قطاع غزة , فأداء المقاومة كان من أهم عوامل تفكير إيران في التعاون مع حماس , وتقديم الدعم المالي والعسكري لها , وتناسي الخلاف السابق حول سورية , والذي مازال قائماً .
سبل الخروج من المأزق :
المشهد الفلسطيني الحالي يحتاج إلى مبادرة من الأطراف الفلسطينية , لتغيير الواقع الراهن من تراجع الملف الفلسطيني , وحماية الجماهير الفلسطينية من الاعتداءات المتواصلة من قبل الجيش الإسرائيلي ومستوطنيه , وتغيير قواعد اللعبة من تفرد الجانب الإسرائيلي بكل طرف فلسطيني على حدة: يضرب ويحاصر غزة ويفاوض في الضفة الغربية ويلتهم أراضيها , مستفيداً من حالة التشتت الفلسطيني , باعتقادي إن الخروج من هذه الأزمة يتطلب :
أ. إعداد برنامج فلسطيني توافقي مرحلي تُجمع عليه كافة الأطراف الفلسطينية , خلاصته هدم الجدار , تفكيك المستوطنات , إنقاذ القدس ودحر الاحتلال إلى حدود 67 مع الاحتفاظ بحق العودة , وتحديد أشكال المقاومة المناسبة فلسطينياً , وعربياً , وإسلامياًً , ومقبولة دولياً .
ب. نقل مقر إقامة السلطة الفلسطينية من الضفة الغربية إلى قطاع غزة وتحويل الضفة إلى إدارات محلية تدير شئون المواطنين وتقوم السلطة بدعم المقاومة فيها , بعيداً عن ضغوط الطرف الإسرائيلي , وتمتلك حرية الحركة , وبذلك تحافظ على كينونة السلطة وفي ذات الوقت تدير معركة المقاومة والتحرير .
ت. اتخاذ قرار جريء بالتوجه من قبل الرئيس عباس نحو مصالحة حقيقية مع حركة حماس , مبنية على أسس فلسطينية خالصة , متمردة على الضغوط الأمريكية , التي كانت دائمة التدخل لإفشالها كما فعلت في رفضها اتفاق القاهرة عام 2009 , واشتراط كيري الأخير بالعودة إلى المفاوضات بدون مصالحة , مع أهمية ربط المصالحة بإعادة صياغة البرنامج السياسي , وصياغة العلاقة ما بين السلطة ومنظمة التحرير .
أما في حالة إصرار الرئيس عباس على برنامج المفاوضات وعدم الالتفات للرغبة الفصائلية والشعبية فأعتقد بأن المطلوب من حماس هو تغيير طريقة إدارة الحكم في قطاع غزة عبر :
أ. تحويل قطاع غزة إلى منطقة محررة تدار من قبل مجالس محلية منتخبة , تشكل الإدارة المدنية للقطاع , وتتواصل مع الجهات الخارجية بمعزل عن العمل المقاوم , وتتفرغ حركات المقاومة لإدارة الصراع مع الاحتلال .
ب. تشكيل قيادة موحدة تضم فصائل المقاومة وكافة مكونات المجتمع , والمحافظة على إجراء انتخابات محلية تدير الشئون الخدماتية للمواطن الفلسطيني .
الخلاصة :
خيارات الخروج من المأزق وإن كانت معقدة قد لا تلقى ترحيباً عربياً و لا دولياً , لكن حالة الترهل في القضية الفلسطينية تحتاج إلى خطوات تقلب الطاولة وتغير قواعد الاشتباك مع الاحتلال .
إن الشعب الفلسطيني أمام مفترق طرق : إما المضي في عملية إصلاح البيت الفلسطيني واستغلال كافة الطاقات في كافة الاتجاهات لتحقيق تعبئة وطنية حقيقية في مواجهة مشروع الاحتلال , وإلا فإن الوضع الفلسطيني سيقع في المزيد من التدهور والتراجع يستفيد منه الطرف الإسرائيلي في فرض شروطه وبناء حقائق جديدة على الأرض , ولا بد أن تعود فلسطين وقضية فلسطين لتأخذ بعدها العربي و الإسلامي , ويجب ألا تترك قضية فلسطين رهن الواقع العربي الذي يتشكل وخارطة التحالفات الجديدة , فالصراع في المنطقة مشتعل بين القوى المؤثرة في الإقليم , ورهان كل من حركتي فتح وحماس على الواقع أن ينتصر لأي منهم , هذه حسابات خاطئة , أعتقد أنه لا فائدة من الانتظار وتعليق الآمال , فالقيادة العربية الرسمية تركت القضية لأهل فلسطين , والشباب الثائر في الوطن العربي يحتاج إلى وقت لترتيب أوراقه .
المياه راكدة بالفعل و تحريكها مهمة غير مستحيلة فمتى يتحرك من يحركونها؟