ترجمة وتحرير نون بوست
كتبت حسينة ميتشاي وإميلي دينتري:
مع توضح نتائج الاقتراع الأول، أصبح من الواضح بأن الحزب المعادي للاتحاد الأوروبي، والمعادي للمهاجرين، حزب الجبهة الوطنية الفرنسي، استطاع الفوز بست مناطق من أصل 13 منطقة في فرنسا.
كانت استجابة أعضاء الحزب الاشتراكي سريعة للرد على تلك النتائج، فعلى شاشة التلفزيون كثرت الأحاديث التي تشير إلى ضرورة العودة إلى الخطوط القديمة للـ”الجبهة الجمهورية”، التي تنطوي على دمج أجنحة أحزاب اليسار واليمين بغية الحيلولة دون توسع حزب اليمين المتطرف، الذي يُعتبر تهديدًا للجمهورية.
وأمام الكاميرات، وبتعابير تفيض بالجدية والخطورة، دعا جان كريستوف كامباديليس، زعيم الحزب الاشتراكي، المرشحين الاشتراكيين، الذين احتلوا المركز الثالث في بعض المناطق، لسحب قوائم ترشيحهم لصالح تشكيل “جبهة الجمهوريين”، على أمل أن ترد الأحزاب الأخرى هذا المعروف قبل بداية الجولة الثانية من الاقتراع المقررة في يوم الأحد القادم.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن الليبراليين الاجتماعيين، كحزب اتحاد الديمقراطيين والمستقلين وحزب الحركة الديمقراطية، اللذين رحبا بالمبادرة، تلاشت فكرة “الجبهة الجمهورية” بقيادة الحزب الاشتراكي بسرعة كبيرة؛ فمن جهته، عبّر نيكولا ساركوزي زعيم الحزب الجمهوري بأنه سيتمسك بشعار “لا ولا”، وهذا يعني لا للاندماج مع الجبهة الوطنية، ولا مع الحزب الاشتراكي.
كما أنه ووفقًا لتييري سولير، أوت دو سين، وفاليري بيكريس من الحزب الجمهوري، فإن فكرة الجبهة الجمهورية “ستشكل أفضل وقود لدعم حزب الجبهة الوطنية”.
“الأمر يبدو كما لو كنا نرغب بالتلاعب بأصوات الشعب الفرنسي، أو كأننا نمارس حيلًا ما بعد انتخابية” قال سولير لصحيفة الميدل إيست آي، وتابع: “الانتخابات الإقليمية تقوم على مبدأ تصويت الاقتراع من القوائم النسبية، فإذا حصلت على 10% من الأصوات، ستنجح وستحظى بممثلين في التجمع الإقليمي، وهذا الأمر حاسم بالنسبة لأحزاب المعارضة”.
من جهتها، صرّحت ماري آن كرافت، المستشارة الوطنية لحزب الحركة الديمقراطية، وإحدى مؤيدي الجبهة الجمهورية، بأن شعار ساركوزي “لا ولا” هو لعبة محفوفة بالمخاطر، ويمكن أيضًا أن يؤثر سلبًا على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2017، حيث قالت: “خطوة الانسحاب من التصويت الثاني يجب أن تكون متوازنة، فإذا انسحب الحزب الاشتراكي، يتعين على الأحزاب اليمينية أن تفعل الأمر عينه”، وتابعت موضحة: “ولكن مع ذلك، فإن هذه ليست وجهة نظر نيكولا ساركوزي حول هذه المسألة، فالفرنسيون يجب أن يكونوا ممتنين لرئيس الوزراء، مانويل فالس، والحزب الاشتراكي للموقف الذي اختاروا أن يتخذوه”.
ذات هذا الرأي يعتنقه حزب اليسار، ولكن رئيس الحزب، جان لوك ميلانشان، رفض التصريح بأية تعليمات حول عملية التصويت، قائلًا في حديثه للوموند: “أنا لست مستغربًا، وأعرف أن صعود الجبهة الوطنية هو أمر مناسب للكثير من الأشخاص”.
موقف الحزب الاشتراكي الداعي لتشكيل الجبهة الوطنية بمواجهة اليمين المتطرف، يفسره دانييل سيمونيه، عضو مستشارية باريس عن حزب اليسار، حيث يقول: “الحزب الاشتراكي يستبقي صبغة معادة الجبهة الوطنية في خطاباته، حتى يظهر في عام 2017، كحزب اشتراكي ديمقراطي على الغرار الأمريكي، معارضًا للتطرف اليميني البالي الذي يمثله حزب الجبهة الوطنية، وحينها فقط سيحظى الحزب بفرصة للفوز في الانتخابات”.
بعد التصويت الأول، استبشر أغلبية كبار رجالات الحزب الاشتراكي بالنتائج الطيبة، إلا أن الأمر لم يستغرق الكثير من الوقت حتى تصاعدت تباينات الآراء؛ فعلى سبيل المثال، ألقى بوريا أميرشاهي، النائب الاشتراكي، اللوم بالخسارة الانتخابية على الحكومة الفرنسية، حيث أوضح ذلك بحديثه لصحيفة الميدل إيست آي قائلًا: “إنه فشل سياسي، فالكثير من الاشتراكيين في مناطق نور با دو كاليه و باكا تلقوا خسارة فادحة بالانتخابات، جرّاء أمور ليسوا مسؤولين عنها”.
علاوة على ما تقدم، من الملاحظ بأن نتائج الجولة الأولى من الانتخابات أقحمت فرنسا ضمن منطقة سياسية جديدة، فالمعركة السياسة اليوم لم تعد دائرة ما بين حزبين رئيسيين، بل بين ثلاثة أحزاب.
إيقاع الأحزاب الثلاثة: الاشتراكيين والجمهوريين والجبهة الوطنية
لم يكن من الصعب على المطلعين على الشأن السياسي الفرنسي أن يخمنوا بزوغ إيقاع حزبي ثلاثي جديد، فرغم أن الحديث في وسائل الإعلام لا يزال مقتصرًا على مناقشة دلالات كيفية إدارة العلاقة الثلاثية ضمن الحياة السياسية الفرنسية، تنبع الحقيقة من واقع أنه بعد أكثر من ثلاثين عامًا من تطبيق نظام الحزبين، وهي السنوات التي تميزت بتناوب اليسار الديمقراطي واليمين الليبرالي على حكم الدولة، تخطو فرنسا قدمًا للخروج من هذا النظام ثنائي القطبية، الذي كان يضمن التناوب المنتظم على حكم الجمهورية.
لا مندوحة من القول بأن فرنسا شهدت في الماضي ديناميكية الأحزاب الثلاثة؛ ففي ستينات القرن المنصرم شهدت سيطرة أحزاب الاشتراكيين والشيوعيين والدي غوليين (نسبة لشارل دي غول) على المشهد السياسي، وفي سبعينات القرن سيطرت أحزاب الوسط والدي غوليين والاشتراكيين، ولكن عندما اُنتخب فاليري جيسكار ديستان من الوسط السياسي في عام 1974 بفضل تحالفه مع الدي غوليين من حزب التجمع من أجل الجمهورية، وكذلك عندما انتخب فرانسوا ميتران في عام 1981 بفضل حملته المشتركة مع الحزب الشيوعي، تم التأسيس للنظام ثنائي القطب كما تعرفه فرنسا اليوم، حيث تم حينها إدماج الوسطيين والشيوعيين في ظل أحزاب اليمين واليسار.
ولكن مع فوز حزب اليمين المتطرف في الانتخابات الإقليمية، يقول الباحث الديموغرافي إيرفي لو برا، الذي نشر مؤخرًا كتابًا حول حزب الجبهة الوطنية، بأن فرنسا ستعاني ببساطة من تغيير جدي وجذري في المشهد السياسي، “نحن نتحول نحو نظام الأحزاب الثلاثة الذي لا نتمتع بدراية كافية عن ماهيته، وهذا النظام سيخلق مشاكلًا جمة لأنه سيغير من إعدادات الانتخابات، وسيخلط الطريقة التي ستتم من خلالها إعادة توزيع أصوات الناخبين بين الجولة الأولى والثانية من الانتخابات؛ ففي الأساس، النظام الديمقراطي يعمل بشكل متكامل بوجود حزبين رئيسيين فقط، ولكن عندما يدخل حزب ثالث إلى المشهد، فإن الأمور ستصبح أشد صعوبة”، قال لو برا لصحيفة الميدل إيست آي.
في الواقع، المؤسسات الفرنسية بحد ذاتها تتبع بنية وهيكلية النظام الثنائي الحزبي، فاستنادًا لنظام تعددية الاقتراع الثنائي الحاكم في فرنسا، لا يسمح إلا للمرشحين اللذين فازا في الاقتراع الأول بالدخول إلى الاقتراع الثاني، وهذا النظام كان يدرّ بفوائده على “الأحزاب الكبيرة” فقط، مانعًا الأحزاب الأصغر من فرصتها للحصول على المقاعد.
ولكن اليوم، هذا النظام بالذات، والذي كان حزب الجبهة الوطنية ينتقده ويحمله مسؤولية ضعف تمثيل الحزب في الدورات الانتخابية كونه يلعب لصالح الأحزاب الكبيرة فقط، يلعب الآن لصالح حزب الجبهة الوطنية ذاته؛ فلفترة طويلة كانت طريقة التصويت تمنع حزب الجبهة الوطنية من الوصول إلى الاقتراع الثاني، حيث كان مجمل عدد الأصوات التي يحصل عليها الحزب لا تتجاوز الـ15%، ولكن الآن، وبعد حصوله على حوالي 30% من الأصوات، أصبح حزب الجبهة الوطنية قادرًا على الاستفادة من النظام الانتخابي الفرنسي الذي لطالما انتقده.
وفقًا لماري آن كرافت: “إذا لم نقم بتغيير نظام التصويت بحلول عام 2017، فنحن نخاطر برؤية حزب الجبهة الوطنية يحصل على المزيد من الأصوات، المزيد من النواب، وتنامي قوته وشعبيته، وهذا لن يحصل في حال اعتمدنا على نظام التمثيل النسبي”.
بالنسبة للأحزاب الصغيرة، والتي لا يمكنها المشاركة في التمثيل، تحت حكم النظام الثنائي، إلا من خلال الاندماج في فلك الأحزاب الكبيرة، فيمكنها توسيع نفوذها في نهاية المطاف من خلال نظام الأحزاب الثلاثي، وهذا هو السبب الذي حذا بحزب الحركة الديمقراطية لدعم فكرة نظام التمثيل النسبي.
حزب الجبهة الوطنية يشكل تهديدًا على الاقتصاد، ولكن هل نسينا أيديولوجيته المنحرفة؟
أكثر الأمور الصادمة في المشهد السياسي الفرنسي الحالي والمتناقل على لسان وسائل الإعلام، هو التحول في الاتهامات التي يتم توجيهها ضد حزب الجبهة الوطنية؛ فسابقًا، كان الحزب يُتهم بشكل مستمر لعنصريته وآرائه المعادية للسامية، ولكن بعد الاقتراع الأول، ركزت الصحف الإقليمية، كتاب الأعمدة، المفكرون، والسياسيون على شجب برنامج الحزب الاقتصادي، ووصفه بغيرال واقعي أو المتخلف، حيث يدعو حزب الجبهة الوطنية إلى أفكار اقتصادية تتمثل بمغادرة منطقة اليورو، زيادة الضرائب على الشركات، وزيادة الإنفاق الحكومي بالترافق مع زيادة المرتبات والمزايا الاجتماعية.
هذه الخطة الاقتصادية التي ينتهجها حزب الجبهة الوطنية، تم انتقادها بشدة من قِبل رئيس منظمة أرباب العمل الفرنسيين (ميديف)، بيار غاتاز، الذي نعت خطة حزب الجبهة الوطنية بأنها “تؤدي تمامًا إلى عكس المأمول منها من حيث استعادة النمو الاقتصادي في فرنسا”.
من وجهة نظر إيرفي لو برا، ما من شك في أن التصويت لصالح الجبهة الوطنية هو رهان لا يمكن لفرنسا تحمله في الوقت الحاضر، حيث يقول: “الخطة الاقتصادية للجبهة الوطنية خطيرة للغاية، وهو الأمر الذي يتفق عليه جميع الاقتصاديين، فالحزب يستخدم شعارات سياسية تتناقض مع بعضها البعض في كثير من الأحيان، كما أنه يتبنى آراءً اقتصادية عالمية قد تسفر عن نتائج كارثية؛ فنحن لا يمكننا أن نعود إلى اقتصاد عام 1960، وهو الطرح الاقتصادي لبرنامج الجبهة الوطنية، لأن العالم اليوم لا يشبه العالم آنذاك البتة، سواء من حيث رأس المال أو من حيث تدفقات السلع”.
وتابع موضحًا: “بغض النظر عن أن الأشخاص الذين يصوتون للجبهة الوطنية يتخذون رهانًا خاسرًا، إلا أن الجزء الأسوأ من القضية هو أن هؤلاء الأشخاص يدركون ذلك، فبعضهم يدرك بأن التصويت للحزب قد يكون رهانًا خطيرًا للغاية، ولكن مع ذلك فإنهم يرون بأن التصويت للحزب هو الطريقة الوحيدة لتغيير الواقع، بمعنى آخر، هؤلاء الأشخاص يأملون أن تتحول الأمور نحو الأفضل، ولكنهم في قرارة أنفسهم يعرفون بأنها ستتحول للأسوأ”.
هذا يقودنا إلى السؤال الحقيقي، فقد يقول قائل، بأن حصر النقاشات حول حزب الجبهة الوطنية بانتقاد برنامجه الاقتصادي، يعني بأن الرأي العام أصبح يتقبل وجهات النظر المتطرفة التي يعتنقها الحزب، كموقفه من الأقليات في المجتمع، آرائه العنصرية، واتهاماته ضد الإسلام، علمًا أن برتران ديلانوي، العمدة الاشتراكي السابق لباريس، كان أحد الأصوات السياسية النادرة التي تجرأت على إدانة أيديولوجية الجبهة الوطنية المتطرفة، حيث وصف الحزب بأنه “حزب شمولي وديكتاتوري” على راديو فرانس إنتر.
وفي ذات السياق، كان نيكولا ساركوزي واضحًا للغاية في إدانة الخطة الاقتصادية للجبهة الوطنية، في الوقت الذي تغاضى به تمامًا عن انتقاد أيدلويوجيات الحزب المتطرفة؛ فمثلًا خلال الاجتماع الأخير، صرّح ساركوزي بأن: “التصويت لصالح الجبهة الوطنية ليس أمرًا غير أخلاقي”، وأضاف: “قضية الهجرة ليست وسيلة يستعملها حزب الجبهة الوطنية لاكتساب الأصوات، بل أنها قلق حقيقي لجميع أطياف الشعب الفرنسي”، علمًا أن وجهة النظر هذه، النابعة من طموح ساركوزي الانتخابي، كانت دائمًا منهجه وديدنه، وهذا واضح من تصريحه قبيل الانتخابات الفرنسية لعام 2011 الذي جاء فيه: “لا يمكننا أن ننكر حقيقة أن مارين لوبان تعالج قلق الشعب الفرنسي ومخاوفه الأساسية، ولكن مع ذلك، فإن فكرة مغادرة منطقة اليورو هي جنون محض، ونحن بحاجة لأن نكون حازمين بهذا الخصوص”.
في الختام، ومهما كانت نتيجة انتخابات يوم الأحد، يبقى التساؤل القائم، هل الاقتصار بالانتقاد على الجانب الاقتصادي فقط من برنامج الجبهة الوطنية يعني بأن الحزب قد ظفر بمعركته الأيديولوجية وفاز بالفعل بمعركته الثقافية والعقائدية في فرنسا؟
المصدر: ميدل إيست آي