من اليوم فصاعدًا بدأ الامتحان و”في الامتحان يُكرم المرءُ أو يُهان”، فحفلة الانتصارات التي انتشت لها الدول المنتجة للنفط بدأت بالتلاشي مع بدء أسعار النفط بالانخفاض، وأطول وأكبر طفرة عالمية لازدهار أسعار الذهب الأسود في التاريخ انتهت بعد ما يقرب من عشر سنوات من الارتفاع المطّرد لأسعار النفط وتحقيق نتائج مبهرة للدول المنتجة العربية والأجنبية متمثلة بنمو القطاع الاقتصادي وازدياد معدلات الاستهلاك وحصد شركات النفط أرباح هائلة وانخفاض مستويات الفقر إلى حد ما وميل المواطنين في تلك الدول للعيش برفاهية أكثر.
الرسم البياني في الأسفل يُظهر سعر برميل النفط منذ عام 2006 وحتى تاريخ 7 ديسمبر، فاللمرة الأولى منذ عام 2008 يهبط النفط إلى ما دون 40 دولارًا حيث واصلت عقود الخام الأمريكي خسائرها لتهبط إلى 36.12 دولارًا في أدنى مستوى لها منذ فبراير 2009.
يعزز النظرة التشاؤمية في السوق النفطية ما أكدته وكالة الطاقة الدولية أن أسواق النفط العالمية ستبقى متخمة بالمعروض حتى نهاية 2016 على الأقل في ظل تباطؤ نمو الطلب العالمي وزيادة إنتاج أوبك، ممّا يسمح لأسعار النفط المنخفضة بالتأثير بشكل ما على هيكل الاقتصاديات التي تعتمد على النفط كمصدر وحيد لإيراداتها، وكذلك ستؤدي الأسعار المتدنية إلى عواقب وخيمة على عدة أطراف بدءً بالشركات والدول المنتجة للنفط وليس انتهاءً بالدول المستوردة والمستهلكة له.
الشركات المنتجة للنفط
تهاوي أسعار النفط لهذه المستويات المتدنية لوّن الأسواق المالية العالمية العربية والأجنبية وبالأخص أسهم الشركات النفطية في العالم باللون الأحمر محققة خسائر فادحة ، وسيجبر في المستقبل القريب هذه الشركات والشركات التابعة له مثل البتروكيمايات، على إعادة رسم معالم خططها الإدارية، فارتفاع الأسعار في العقد الماضي جعلها تتوسع في الإنتاج لتلبية الطلب العالمي على النفط، والتوسع إلى أبعد حد في التوظيف والرواتب وما يرافقها من حوافز وبدلات للموظفين وتكريس جهودها في البحث عن آبار جديدة وفتح ملفات النفط الصخري في ظل طفرة الأسعار على الرغم من ارتفاع تكاليف استخراجه.
منذ بداية تهاوي الأسعار بدأت بعض الشركات المنتجة للنفط في الولايات المتحدة الأمريكية بفصل موظفين وإغلاق مناصب وظيفية في سبيل تخفيض التكاليف بعد انخفاض هامش الأرباح، وبالفعل هذا ما أعلنته الأسبوع الماضي عدة شركات مثل شيفرون وكونكو فيليبس عن نيتها بتخفيض نفقاتها بنسبة 25% في السنة المقبلة، ومن المتوقع أن تلحق بها شركات أخرى مثل إيكسون موبيل وبي بي بتخفيضات مشابهة أيضًا.
بعد انخفاض الأسعار عن مستوى 50 دولار للبرميل في نهاية عام 2014 تم إنهاء 123 ألف وظيفة من شركات في قطاع الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية، واليوم بعد تهاوي الأسعار أكثر ستميل الشركات للتخلي عن وظائف أخرى وسيؤثر بالضرورة على شركات تعتمد في منتجاتها على النفط، وتتوقع الشركات النفطية الأمريكية أن موازنة تنقيب واستخراج النفط في العام 2016 ستكون منخفضة أكثر من العامين الماضيين وكانت الموازنة المقررة لهذا القطاع في العام المقبل 320 مليار دولار في حين بلغت عام 2014 مبلغ 250 مليار دولار.يُظهر الشكل في الأسفل عدد الوظائف التي أُلغيت لدى الشركات الأمريكة العاملة في مجال الطاقة خلال العام الحالي.
أثار انخفاض الأسعار على الدول المنتجة
عرفت الدول المصدّرة للنفط انتعاشًا محسوسًا في اقتصادياتها في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، لاسيّما تلك التي تعتمد على النفط كمصدر وحيد لتمويل موازناتها العامة مثل الجزائر وروسيا وفنزويلا والدول الخليجية، أدت الأسعار المرتفعة للنفط إلى فوائض مالية في الموزنات العامة جعلتها تلعب دوراً استراتيجياً على الصعيدين الخارجي والداخلي، حيث عززت روسيا حضورها على المستوى الدولي فضمت شبه جزيرة القرم لها وتدخلت في سوريا عسكرياً لحماية بشار الأسد، وعملت دول الخليج والجزائر على الالتفاف على أزماتها الداخلية للحيلولة دون تصاعد مستوى الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت المنطقة العربية (الربيع العربي).
إلاّ أنّ هبوط أسعار النفط لأدنى مستوياتها سيقوّض الدول النفطية من التوسع في سياساتها الخارجية والداخلية على حد سواء، فمن جراء ذلك الهبوط خسرت موسكو نحو مائة مليار دولار إضافة إلى أربعين مليار دولار بسبب استمرار العقوبات عليها، ومع بقاء الأسعار المنخفضة سيضعف موقف روسيا من كل من الأزمتين الأوكرانية والسورية، وقد ترضخ لمطالب الأوروبيين في وقف دعمها للموالين لها في شوق أوكرانيا ومن موقفها المعادي للمملكة العربية السعودية للرضوخ لمطالبها تجاه حل الأزمة السورية.
فيما ستبدأ دول الخليج نظرياً في الصرف من مدخرات صناديق الثروة السيادية المقدرة بأكثر من 2 ترليون دولار جمعتها أثناء طفرة الأسعار وبعد استنفاذها ستعمل على تطبيق سياسات تقشفية تتوائم مع تقلص إيراداتها المالية وقد تلجأ إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي للوفاء باستحقاقاتها المالية اتجاه شعبها.
فنزويلا الدولة الاشتراكية التي تعتمد على النفط بنسبة تقترب من مئة بالمئة دون وجود أي مخزون احتياطي لها بل وتستدين في بعض الحالات سينعكس انخفاض أسعار النفط بشكل سلبي على الاقتصاد بسبب انخفاض الإيرادات بشكل كبير، حيث فقدت عملتها المحلية حتى الان 85% من قيمتها بسبب انخفاض الإيرادات النفطية.
الولايات المتحدة الأمريكية ستتأثر بشكل نسبي بانخفاض الأسعار فهي من جهة ستوفر من فاتورة استيراد النفط ما يقرب من مليار دولار يومياً كما أن هذا سيؤدي إلى هبوط أسعار البنزين وهو يسمح للأسر بإنفاق الأموال التي وفروها لشراء سلع أخرى، ومن جهة أخرى سيتوقف العمل على إنتاج النفط الصخري لإن استخراجه سيكون غير مجدي بسبب كلفته العالية بالإضافة إلى انخفاض إيراداتها من صادراتها النفطية وبالتالي على نشاطها الاقتصادي، ويُذكر أن أمريكا تحاسب بنسبة 93 % من وارداتها بالدولار.
أثار انخفاض الأسعار على الدول المستوردة
البلدان التي تعتمد على استيراد النفط مثل معظم البلدان الأوروبية والصين والأردن والمغرب سوف تستفيد من هبوط أسعار النفط من حيث انخفاض الفاتورة التي تدفعها سنويًا للبلدان المنتجة بالإضافة إلى تخزين احتياطيات نفطية مستغلة تهاوي الأسعار.
وسيجد المواطن الفرق بانخفاض الأسعار عندما يدفع ثمنًا أقل لمادتي البنزين والمازوت مما كان يدفعه في السنوات الماضية وبالنسبة للشركات التي تنتج سلعًا ترتبط تكاليفها بمواد الطاقة وما يرافقها من بتروكيماويات وغيرها فإن انخفاض سعر النفط سيعمل على خفض تكاليف المواد الأساسية لصناعة تلك السلع والتي بدورها ستنعكس بالإيجاب على الشركات من خلال زيادة الربح وارتفاع الطلب من قِبل المواطن الذي وجد مدخرًا وفّره من فارق أسعار الطاقة وقام باستهلاكه على سلع أخرى في السوق، وهذا بحد ذاته سيُنعش اقتصاد هذه البلدان حيث سيتعزز الطلب في السوق ويرفع طلبات الإنتاج في المصانع والشركات وبالتالي المحافظة على نسب مرتفعة من النمو ومستويات توظيف عالية.
فيما يخص تركيا الدولة التي تستورد حوالي 90 بالمئة من حاجتها من النفط يترافق انخفاض أسعار النفط العالمية مع انخفاض في عملتها المحلية ما يؤدي إلى تقليل الفائدة المتأتية من انخفاض أسعار النفط علماً أنه وتبعاً لتقديرات علي باباجان نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية فإن كل تراجع لأسعار النفط الخام بقيمة 10 دولار سينعكي على حجم التضخم في تركيا بنسبة 0.5% وارتفاع في حجم النمو بنسبة 0.3%.
وسينعكس انخفاض أسعار النفط على الدول الآسيوية الناشئة باستثناء ماليزيا البلد المنتج للنفط مثل كوريا الجنوبية وتايلند والصين التي تستورد النفط بشكل كامل من خلال انخفاض صرفها على الواردات وتحسن الأوضاع المالية بفضل انخفاض مستوى الدعم على الوقود وتكاليف النقل الأمر الذي سيحفز النمو.
أين ستتجه الأسعار؟
بالإمكان إرجاع هبوط سعر النفط إلى “انعدام المسؤولية الدولية” في تحقيق التوازن في سوق النفط الدولي، حيث اجتمعت منظمة أوبك هذا الشهر للاتفاق على خفص الإنتاج وتحقيق التوازن في الأسواق فكانت النتيجة الخروج من الاجتماع بزيادة ضخ مليون ونص برميل زيادةً على 30 مليون برميل تنتجها يوميًا بسبب عودة إندونيسيا لعضوية المنظمة من جديد واستعادة حصتها الإنتاجية.
السوق متخم بالمعروض ولا يستدعي إنتاج برميل واحد وإيران تقول ظُلمنا خلال فترة فرض العقوبات الأوروبية علينا ونريد استعادة قدرتنا الإنتاجية كما السابق لذلك فهي تسعى لضخ مليون برميل يوميًا في الأسواق مطلع العام القادم.
روسيا تنتج بأقصى طاقة لها بسبب تدهور اقتصادها المحلي والعقوبات الفروضة عليها ودخولها في عدة صراعات مباشرة وغير مباشرة في المنطقة لذلك هي تحاول تغطية العجز في الموازنة بزيادة إنتاجها النفطي.
المملكة العربية السعودية تشن “حرب النفط” على كل من روسيا وإيران للتأثير عليهما في تغيير سياستهما التوسعية في المنطقة والمعادية للمملكة في محيطها الحيوي، حيث تستميت كل من إيران وروسيا عسكريا واقتصاديا في سوريا للحؤول دون سقوط حليفهما بشار الأسد، توصف هذه المعركة ب “كسر العظام” في من يصمد اقتصاده أكثر في ظل انخفاض الأسعار، حيث يشير معظم الخبراء أن السعودية تستطيع أن تصمد لمدة ثلاث سنوات بفضل الفائض المالي لديها.
كما أن السعودية لا تريد إعادة سيناريو عام 1983 – 1985 بعدما انخفضت أسعار النفط فتدخلت منظمة أوبك لوضع حصص إنتاج منخفضة للدول ولكن المحاولة لم تفلح لأن الدول كانت تنتج أكثر من حصصها الإنتاجية ما أدى إلى انهيار الأسعار دون 10 دولار للبرميل عام 1986.
الدول الخليجية الأخرى تعتمد في موازناتها بالنسبة العظمى على إيرادات النفط، وبدل العمل على خفض الإنتاج تفكر بزيادة الإنتاج من أجل سد العجز المالي للحفاظ على مستوى الإنفاق العام بسبب انخفاض سعر النفط.
ضعف التجارة العالمية وارتفاع الدولار والتوقعات لارتفاع محتمل لسعر الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية أدى إلى تباطؤ مؤشرات النمو العالمية في ظل عدم صمود اقتصاديات دول البريكس، حيث تراجع أداء الاقتصاد الصيني المحرك الأساسي للاقتصاد العالمي الذي يعاني من تباطؤ في النمو لم يشهده منذ ربع قرن، كما أنّ جنوب افريقيا تقف على أبواب الركود وتراجع الاقتصاد البرازيلي إلى فئة استثمارات ” المضاربة” حيث أصبحت آخر دول المجموعة تعثراً على المستوى الاقتصادي ، أما روسيا والتي تعاني بالفعل من الركود.
لذلك في خضم هذه السياسات العنيفة والرافضة لخفض الإنتاج بالأخص من قبل أوبك من جهة وروسيا من جهة أخرى، حيث وصل المعروض إلى حد التخمة في الأسواق. يشير محللون وخبراء أنّ الأسعار في العام المقبل ستبقى بين مستوى 25 إلى 35 دولاراً.
الإنذار الأخير للدول الخليجية
بعد انخفاض الأسعار إلى ما دون 40 دولارًا سجلت بورصتا دبي وأبوظبي انخفاضًا في التعاملات هذا الأسبوع، وعلى إثر التراجع الحاد في الأسعار خفّضت وكالة “فيتش” الدولية للتصنيف الائتماني النظرة المستقبلية لتصنيف ديون السعودية من “مستقرة” إلى “سلبية” وأثارت موجة مخاوف عمّت المنطقة الخليجية من انهيارات في الأسواق المالية وتباطؤ وتيرة النمو فيها.
ومن بين الدول الخليجية تبدو الممكلة العربية السعودية الأكثر عرضة للتأثر والاضطراب بانخفاض أسعار النفط النفط فالمملكة تصدر 2.5 مليار برميل سنوياً فكل دولار ينخفض فيه السعر تنخفض الإيرادات بمقدار 2.5 مليار دولار، ستواجه المملكة صعوبات في خفض الإنفاق الحكومي بسبب عدد السكان المرتفع واعتمادها على 90 دولارًا كسعر تقديري لبرميل النفط في موازنتها العامة، في حين تعتمد الموازنة الكويتية على 70 دولارًا كسعر تقديري للبرميل؛ لذلك سيتأثر اقتصاد الكويت من انخفاض أسعار النفط بشكل يقوّض مسيرة النمو ويعطّل برامج الحكومة ويخفض من الإنفاق الحكومي، أما قطر التي سعت خلال السنوات الماضية إلى تنويع مصادر دخلها، لا تزال تعتمد على النفط حيث اعنمدت في موازنتها الأخيرة على سعر تقديري لبرميل النفط قدره 65 دولارًا،أما الإمارات الأوفر حظًا تتمتع نوعًا ما بأمان نسبي لاعتمادها بما لا يزيد على 33% من عائدات النفط في تركيبة الناتج المحلي الإجمالي للدولة.
شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية غصّت بالانتقادات الموجهة للحكومات الخليجية التي لم تستفد من الدرس في الماضي ولم تأخذ نصائح الاقتصاديين وتوصياتهم محمل الجد حتى جاء اليوم الموعود الذي من الممكن أن تواجه الحكومات فيه شح السيولة بعد نفاذ احتياطياتها النقدية وما يترتب على ذلك من ارتفاع للفائدة على العملات المحلية وبالتالي إلى انخفاض نسب النمو والتوظيف.
ستحمل الأيام القادمة السياسات والإجراءات التي ستتبعها دول الخليج جراء انخفاض الأسعار، من حيث تغيير سياساتها الاقتصادية وترشيد الإنفاق الحكومي وتبني الطواقم الاقتصادية لتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط، أو الاستمرار بنفس النهج والسياسات دون الاكتراث للمستقبل والنوم على وسادة “سوف” ترتفع الأسعار مجددًا.
لذلك هل سيكون هذا الإنذار الأخير لتلافي الوقوع بالركود العام في الاقتصاديات الخليجية؟