ترجمة وتحرير نون بوست
رغم تنوع القنوات التي تمثل بث التلفزيون الرسمي الإيراني، حوالي 20 قناة تلفزيونية وطنية، إلا أن السلطة بالسيطرة على جميع برامج هذه القنوات تنبع في نهاية المطاف من تلفزيون جمهورية إيران الإسلامية، اختصارًا (IRIB)، حيث تفتقر برامج هذه القنوات عادة للمرح والترفيه والتسلية؛ فإنتاج المسلسلات التلفزيونية وتمويلها المباشر يعود لتلفزيون جمهورية إيران الإسلامية، والذي عادة ما ينتج موضوعات قاتمة وتستند لمشاهد باهتة وكئيبة ومتكررة.
عمليات الشرطة، جلسات المحاكم، الطلاق، الخلافات العائلية، الإفلاس، الفراق، والموت هي المواضيع المتكررة التي لا غنى عنها في أي مسلسل تلفزيوني إيراني؛ فضمن هذه المسلسلات دائمًا ما ستشاهد مقاطعًا لأشخاص يشاركون في تشييع ودفن موتاهم في المقابر، وهم ينوحون ويذرفون الدموع، وخلاف ذلك، تُصوّر المسلسلات الإيرانية المشاجرات، حالات الضرب، وصراخ الممثلين على بعضهم البعض، أو قتال الأزواج على سفاسف الأمور.
هذا الواقع الذي تعيشه الأعمال الدرامية الإيرانية، يغرس خيبة الأمل كقاعدة في قلوب المواطنين، كما لو أن المنتجين والمخرجين العاملين مع تلفزيون جمهورية إيران الإسلامية لا يتصالحون مع مشاهد الهناء أو السلم؛ فعلى الرغم من أن السلطات الثقافية الإيرانية عادة ما تتهم الأفلام الأمريكية بعنفها المستشري، إلا أن الدراما الإيرانية تجاوزت على ما يبدو حاجز العنف، لتركز على واقع مدقع آخر، يتمثل بالحاجة لجعل جميع المشاهدين يشعرون بأنهم بحاجة دائمة لكي يكونوا مكتئبين ومحبطين.
الموسيقى نادرة في القنوات التلفزيونية الإيرانية، والأعمال الموسيقية لمشاهير المطربين والموسيقيين لا تُعرض إلا في مناسبات معينة، فضلًا عن أنه لا يوجد برامج دائمة مخصصة للموسيقى؛ فعندما تولى المتشدد محمود أحمدي نجاد رئاسة الجمهورية، عمل على حظر الموسيقى الغربية من محطات الإذاعة والتلفزيون من خلال حكم صدر عن المجلس الأعلى للثورة الثقافية في ديسمبر 2005، وهذا يعني بأن مقطوعات ياني، إنيو موريكوني، إريك كلابتون، وإيغلز، لا تُبث ضمن برامج الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، رغم أن هذه الأعمال تتمتع بشعبية واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، أما البرامج الساخرة، الأفلام المصورة، وغيرها من أشكال البرامج الترفيهية، فلا تبث إلا نادرًا.
بالرغم مما تقدم، لا يقتصر الموضوع على مجرد افتقار برامج التلفزيون الإيراني للتسلية، بل إن الطابع المميز لها هو تحيزها ضمن البرامج السياسية بشدة لصالح مجموعة صغيرة من المحافظين، بما في ذلك الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد وبطانته، كسعيد جليلي، الذي فاز بنسبة 11% من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية لعام 2013.
أحمدي نجاد هو الآن مواطن عادي، ولكن هناك مؤشرات تشير إلى أنه لا يزال يلقي بظلاله على برامج التلفزيون الإيراني ويتمتع بصلات وثيقة مع المسؤولين ضمنه؛ فالبرامج الحوارية، البرامج الإخبارية، والحوارات السياسية تبدو متحيزة بشكل مذهل ضد الرئيس روحاني، وضد حكومته، وضد أكثر من 18 مليون إيراني صوتوا لصالحه قبل عامين، هؤلاء الناخبون الذين كانوا يأملون بأن يتمكن روحاني بالشروع في مسار جديد للمصالحة مع المجتمع الدولي وإنهاء الجدل حول المشروع النووي بنتيجة مرضية.
خلال العامين الماضيين، وفي الوقت الذي كانت فيه إيران والقوى العالمية الست: بريطانيا، الصين، فرنسا، ألمانيا، روسيا والولايات المتحدة، يربطون ليلهم مع نهارهم بغية التوصل إلى حل تفاوضي للأزمة النووية الايرانية، كان التلفزيون الإيراني يتحرك جاهدًا في مسعاه لعرقلة المحادثات من خلال إطلاق حملة سياسية تغرس الرأي القائل بأن المفاوضات مع الولايات المتحدة كانت عقيمة وتافهة، بل أن هذه الحملة صورت المفاوضين الإيرانيين، وخصوصًا وزير الخارجية جواد ظريف، كخونة للجمهورية الإيرانية، لأنهم يشاركون في محادثات مباشرة مع العدو الأكبر “المزعوم” للجمهورية الإسلامية.
القصص الإخبارية التي يبثها التلفزيون الإيراني تتمتع بميول أيديولوجية متطرفة واضحة، ويبدو الأمر في بعض الأحيان وكأن هيئة التلفزيون الإيرانية تأبى أن يشعر الشعب الإيراني بالسعادة والفخر؛ فعلى سبيل المثال، أصغر فرهادي، المخرج الإيراني الوحيد الذي فاز بجائزة الأوسكار، تمت مقاطعته بشكل كامل من قِبل التلفزيون الإيراني عندما أُعلن في عام 2012 بأنه حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، والسبب؟ لا يزال غير واضحًا حتى الآن.
لذلك، في الوقت الذي يُحجم به التلفزيون الإيراني عن إرضاء شهية ومصالح جمهوره، يندفع الملايين من الشباب الإيرانييين المتعطشين للأخبار والترفيه إلى الصحون اللاقطة لمشاهدة قناة بي بي سي الفارسية ومانوتو، اللتان تتعمدان أحيانًا بث برامج شرسة معادية للإيرانيين، ولكن هناك بعض الاستثناءات من قاعدة سيطرة تلفزيون جمهورية إيران الإسلامية، والذي أصبح مؤسسة إعلامية ضخمة وواسعة النطاق تسحب ملايين الدولارات سنويًا من مصادر حكومية وتجمع الأموال الضخمة من خلال الإعلانات التجارية المروعة التي تحتل حصة الأسد من البرامج اليومية، في الوقت الذي بالكاد تنتج فيه هذه المؤسسة برامجًا يمكن متابعتها.
“خندوانة” هو اسم لبرنامج هزلي ومقابلات يجري بثه على قناة نسيم التلفزيونية؛ بدأ بث البرنامج في 11 يونيو من عام 2014، ومنذ ذلك الحين، أصبح أحد البرامج التلفزيونية الأكثر شعبية بين قنوات التلفزيون الإيراني بأكملها.
اسم البرنامج يتشابه مع كلمة “هندوانة”، والتي تعني البطيخ باللغة الفارسية، وأول مقطع من الكلمة “خندة” يعني الضحك، والهدف من هذا البرنامج، الذي يعده ويقدمه الممثل الكوميدي الإيراني البارز رامبد جوان، هو تعزيز السعادة و”ثقافة الضحك” في المجتمع الإيراني الكئيب.
في كل ليلة من أيام عرض البرنامج، يشارك حوالي 100 شخص كمشاهدين ضمن الاستديو، فالاشتراك مفتوح للجميع، شريطة اجتياز بعض اختبارات مهارات الضحك، حيث يقوم الأشخاص بإرسال رسائل نصية إلى البرنامج، ويتم اختيار المشاهدين عشوائيًا للمشاركة بالحضور.
يبدأ العرض مع دخول رامبد جوان إلى خشبة المسرح، ملقيًا التحية على ضيوف البرنامج ومشاهديه، وبعدها يقوم الضيوف بتكرار جملة جوان التي يلقيها دائمًا في مقدمة البرنامج: “بسم الله، اسمي رامبد جوان، من تلفزيون نسيم، معكم خندوانة”.
بعد هذه المقدمة، يطلب المضيف من الحضور حبس أنفاسهم لمدة 10 ثوانٍ، ومن ثم الانفجار بالضحك لمدة 25 ثانية، وحينها يمشي المقدم حول الاستوديو، مشاركًا المشاهدين الضحك، ويجلس على المقاعد المخصصة للمشاهدين، الموزعة بدقة على ثلاث زوايا ضمن الاستديو، ليشجعهم على الضحك بصوت أعلى وأعلى، وبمجرد انتهاء دورة الضحك، يقول رمبود عبارته الشهيرة “نحن رائعون للغاية”، ويردد المشاركون بعده سويًا “للغاية”.
بشكل عام، يحصل جميع المشاركين ضمن البرنامج على تدريبات لتعلم العبارات التي يجب عليهم الهتاف بها بعد كل جملة محددة يقولها رامبد جوان، علمًا أن الأخير كثيرًا ما يدعو الحضور للتصفيق لأنفسهم، أو للمشاهدين، أو لموظفي البرنامج، وبالطبع للضيوف المميزين الذي يتم استقبالهم في كل عرض.
يتميز خندوانة بمشاهد الكوميديا الارتجالية (ستاند أب كوميدي) التي يحتويها، حيث يستضيف البرنامج بشكل دائم ممثلان يلعبان أدوارًا فكاهية مختلفة، ويتقنان ببراعة تقليد اللغات والأغاني الأجنبية، فيظهران وكأنهما فعلًا يغنيان باللغة الروسية أو اليابانية أو الإيطالية، أحد هذين الممثلين هو نعمة شاهبنجاد، الذي يضم حسابه على الإنستجرام حوالي 171.000 متابع إيراني، وضمن البرنامج، يؤدي دائمًا دور الوسواس وداعية الشيطان، حيث يشارك بمناقشات مطولة مع رامبد جوان، معترضًا ضد جميع ما يقوله الأخير حول مختلف القضايا بغية تسلية الجمهور، أما الممثل الآخر فهو دانيال غفارزاده، الذي يسخر برفق من الشخصيات العامة الشهيرة ويحاكي بشكل ساخر النكات التي تغذي الإحساس الإيراني بالفكاهة.
بالإضافة إلى ذلك، يقدم البرنامج أيضًا عرضًا للدمية الكوميدية الشعبية الشهيرة، جناب خان، هذه الدمية هي بالأساس منحدرة من جنوب إيران، ويتحدث محركها بلكنة فارسية مسلية للغاية، ويقوم بتأدية أغانٍ سعيدة صاخبة الإيقاع باللهجة النموذجية الإيرانية الجنوبية، ويرقص بفرح شديد، وعادة ما تتم تأدية هذه الأغاني في مراسم الزفاف الإيرانية.
يتخلل البرنامج أيضًا تقارير فيديو من المدن الإيرانية، وحوارات مع الناس من خلفيات متنوعة حول أنشطتهم اليومية، عاداتهم، اهتماماتهم، وظائفهم، وثقافتهم، في أجزاء مختلفة من العرض.
الضيوف المميزون الذي تتم دعوتهم إلى خندوانة يشملون المشاهير، أساتذة الجامعات، الموظفين العموميين، والمسؤولين الحكوميين؛ فمثلًا معصومة ابتكار، رئيسة قسم إيران للبيئة وأحد نواب رئيس إيران، ظهرت ضمن عرض للبرنامج في العام الماضي، كما أن رامبد جوان وجه دعوة لوزير الخارجية جواد ظريف، قائلًا بأنه يجب أن تتم الإشادة بجهوده من أجل التوصل إلى اتفاق نووي مع القوى العالمية الست، والتي دُشنت باختتام المحادثات بنجاح، ولكن نهج رامبد الإصلاحي انتهك ربما قواعد سلوك رؤسائه في المناصب العليا في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، الذين يصرون على التقليل من أهمية هذا الإنجاز الدبلوماسي، بل حتى يرفضون استخدام مصطلح “الاتفاق النووي”، وبدلًا عن ذلك يصفون ما حدث بأنه “ختام المحادثات النووية”.
في نهاية كل فقرة، يُطلب من الضيوف المميزين التحديق مباشرة في عدسة الكاميرا الرئيسية والابتسام لمدة 10 إلى 20 ثانية، ويُطلب من الجمهور في منازلهم اختيار أفضل وأجمل ابتسامة من بين ستة ضيوف أسبوعيين يتم استقبالهم، عن طريق إرسال آرائهم إلى نظام الرسائل النصية الخاص بالبرنامج، والضيف الذي يحصل على أعلى نسبة تصويت من الجمهور يتم منحه جائزة أفضل ابتسامة بالأسبوع.
بالإضافة إلى ما تقدم، شرع خندوانة أيضًا بعدد من المبادرات والجهود الإنسانية والبيئية، حيث أطلق مؤخرًا حملة “قطرة بعد قطرة” بدعم من الراعي المالي للبرنامج، وتتضمن هذه المبادرة الطلب من المشاهدين أن يعلنوا عن تخفيض استهلاكهم اليومي للمياه بقطرة واحدة فقط على الأقل، وبتشجيع من رامبد جوان، انضم الآلاف من الإيرانيين بالفعل إلى الحملة.
يبدو أنه في ظل غياب البرامج الاجتماعية والسياسية المنافسة على شاشة التلفزيون الإيراني، يضطلع برنامج خندوانة في بعض الأحيان بعبء إثارة قضايا جدية وملفتة لا تنبع من نظرة ساخرة أو مسلية بالضرورة؛ ففي وقت سابق من هذا العام، أمر رئيس بلدية مدينة رشت بشمال البلاد بأن يتم اقتلاع 37 شجرة ممتدة على طول شارع يبلغ طوله 2 كيلومتر في قلب المدينة لإفساح المجال لإنشاء ممر جديد للحافلات السريعة، رغم أن بعض هذه الأشجار يبلغ عمرها حوالي 75 عامًا، وظنًا من السلطات المحلية بأنها قادرة على الإفلات من العقاب من قرارها المثير للجدل، قررت اقتلاع الأشجار من الأرض بالجرافات بين عشية وضحاها، ولكن مع ذلك، تعرضت لانتقاد محلي واسع على النطاق الوطني بعد قيام خندوانة بنشر صور صريحة ولقطات لقطع الأشجار والأضرار المتعذر إصلاحها التي تم إلحقاها بالمناظر الطبيعية في المدينة.
يعمد البرنامج أحيانًا لاستضافة مشاركين من ذوي الإعاقة الذهنية والشباب الذين يعانون من متلازمة داون، وكثيرًا ما يطلب رامبد جوان من ضيوفه أن يتعهدوا علنًا بممارسة أمور أو أفعال تجلب السعادة لمجموعة من الناس، وهذه الطلبات أدت إلى مباشرة العديد من المبادرات الإنسانية والخيرية من قِبل ضيوف البرنامج، حيث يعمد طاقم خندوانة على نحو دوري لتصوير مقاطع فيديو تظهر كيف يقوم ضيوف البرنامج بالوفاء بوعودهم التي قطعوها في الأماكن العامة.
أخيرًا، وفي خضم فيضان التلفزيون الإيراني بالمحاضرات والخطب والبرامج التي تنشر الحزن والاكتئاب، وتناصر مصالح الأقليات المتشددة والمحافظة من بين الطيف السياسي الواسع في البلاد، يبدو صعود برنامج يحاول أن يبقي ارتباطاته ودلالاته الأيديولوجية في حدها الأدنى، ويحاول رسم بسمة سعيدة على وجه الأشخاص من خلال طرح قضايا بعيدة عن التلقين السياسي والأيديولوجي، نعمة افتقدها الشعب الإيراني منذ زمن بعيد.
المصدر: يور ميدل إيست