منتصف ديسمبر الجاري، سيتوجه المتحاربون في اليمن إلى إحدى القرى السويسرية، ليكونوا بعيدًا عن الصحفيين وكاميرات التلفزة، حيث تنتظرهم هناك طاولة مستديرة وأجندة مليئة بالألغام لا يبدو متوقعًا تجاوزها بلياقة حتى اللحظة على الأقل.
وقد شكل الإعلان عن موعد استئناف المباحثات السياسية بشأن اليمن اختراقًا كبيرًا في جدار الأزمة المحتدمة في هذا البلد المتأزم سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، خاصة مع تأكيد المبعوث الدولي إسماعيل ولد الشيخ أن جولة المباحثات هذه ستقوم على جدول أعمال متفق عليه هو أشبه بإعلان مبادئ.
ورغم أن الأمل يتعزز لدى البسطاء في اليمن الذي دمرت الحرب كل شيء فيها، لكن المتحاورين لديهم كم كبير من عوامل إفشال أو إعاقة التوصل إلى سلام دائم، وهي تراكمات لا يبدو معها “جنيف اليمن” أكثر من محطة توقف لالتقاط الانفاس، مالم تحدث معجزة.
ما هو راجح أن ثمة عوائق كثيرة لا تزال تقف أمام التوصل إلى اتفاق نهائي للحرب واستئناف المسار السياسي، بقدر التحديات التي يواجهها اليمن في الجوانب الاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
ولا يعني انعقاد المحادثات، توقف الحرب نهائيًا أو انتهاء الصراع، فمشهد النهاية لن يكتب مع انطلاق مباحثات سويسرا، ذلك أنه مرهون بمعالجة أسباب الأزمة من الجذور، والتي يمتد بعضها لسنوات، وهذا يتوقف على سلطة سياسة رشيدة قادرة على إرجاع اليمينين الى بنود وثيقة الحوار، وعلى إشراك الجميع في السلطة، ونيل الثقة ليسلم جميع المتقاتلين أسلحتهم إلى الدولة.
ووفقًا لبنود المسودة الخاصة بالمحادثات المرتقبة، فإن الحوثيين ملزمون بالقيام بإجراءات لـ “بناء الثقة” منها فك الحصار على المدن، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وكل ذلك سيصبح محل اختبار خلال الأيام المقبلة، وتعد هذه واحدة من الألغام التي قد تنسف المحادثات برمتها، خاصة مع نفي الحركة الحوثية، وجود اتفاق حول إطلاق المعتقلين، بالرغم من تأكيد الأمم المتحدة التزام الحوثيين بالإفراج عن الصبيحي قبل محادثات جنيف.
ويمثل وقف إطلاق النار إشكال ثانٍ مع تقديم الرئيس السابق “صالح” تفسيرًا مغايرًا للاتفاق، ففي الوقت الذي يلزم الأطراف اليمنية بوقف الاحتراب الداخلي، اقتصر ترحيب صالح على توقيف العمليات العسكرية التي ينفذها التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن منذ 9 أشهر تقريبًا، وباستقراء اجتزاء صالح لوقف إطلاق النار، يبدو واضحًا أنه يرفض وقف العمليات العسكرية من جانب قواته في غير بقعة يمنية، ولا يرى نفسه معنيًا بـ “الهدنة”، بقدر ما يحاول وضع دول التحالف طرفًا في معادلة الصراع، وليس الحكومة اليمنية الشرعية.
الأمر كذلك فيما يخص استئناف المسار السياسي الذي يفترض أن يعقب الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار، فهذا النص لا يقول ما هو المسار السياسي الذي سيتم استئنافه، فلدى الحوثيين تفسيرًا مختلفًا عن تفسير الجانب الحكومي، فهم يطالبون باستئناف الحوار الذي توقف مع بداية عمليات التحالف العربي في اليمن، فيما يتمسك الجانب الحكومي بضرورة استكمال تطبيق مخرجات الحوار الوطني التي يعارضها بشدة تحالف الحوثيين والرئيس السابق خصوصًا موضوع تقسيم الدولة إلى ستة أقاليم.
وفيما يتعلق بملف انسحاب المسلحين الحوثيين من المناطق التي يسيطرون عليها لا توضح وثيقة المبادئ كيف سيتم ذلك ومن هي الجهة التي ستتسلم هذه المناطق حتى لا تسقط بيد الجماعات الإرهابية كما حصل في عدن وأبين، وبالمثل، فإن موضوع تسليم الأسلحة التي استولى عليها الحوثيون من معسكرات الجيش لا توجد آلية واضحة لكيفية إتمام هذه العملية، ولا توجد جهة قادرة على تحديد كمية ونوع الأسلحة التي تم الاستيلاء عليها وكم دمر منها في الحرب.
تعقيدات الحالة اليمنية تحمل في مضامينها مؤشرات للحل وأخرى لاستمرار الصراع، لكن العامل الخارجي هو الفاصل في القضية، إذ إن المخاوف الكبيرة لدى المجتمع الدولي من تنامي قوة تنظيمي “القاعدة” و”داعش” الإرهابيين، تشكل أهم عوامل الضغط الدولي على الأطراف الإقليمية والمحلية للقبول بتسوية سياسية وتنازلات حقيقية تجنب اليمن الاستمرار في الدمار الذي خلق بيئة ملائمة لنمو وتوسع جماعات الإرهاب والعنف.
ولعل دول التحالف العربي، أدركت أخيرًا أن الحكومة التي تدعمها، خسرت حضورها وتماسكها، وأثبتت فشلًا في السيطرة والحماية الأمنية والسياسة في المناطق المحررة، فلا هي أحكمت السيطرة على مدينة عدن، بل بقيت تنكر وجود المتطرفين حتى انفجرت قنبلة “القاعدة” في وجه الجميع.
استراحة محارب
على المستوى الميداني، يبدو أن المعارك أفسحت المجال أمام العملية السياسية، فخفت صوت الرصاص، وسط استعدادات للتصعيد بحسب إيقاع المفاوضات، وهو ما ظهر عبر وصول مئات الجنود المدربين في السعودية إلى حضرموت.
ما هو واضح، أن حركة الحوثيين استشعرت الحاجة لمحطة توقف قصيرة، بعد أقوى ضربة تلقتها منذ إشهار الحركة في عقد التسعينات من القرن الماضي، فالحوثيين أكثر الأطراف حاجة لإعلان هدنة مع فقدان مناعة امتصاص الضربات المتتالية، وإن كانوا يكابرون ولا يعترفون بحجم الألم والخسارة.
ومن جهة، تحتاج الحكومة المعترف بها دوليًا لهذا التوقف لإعادة ترتيب أوراقها ورأب الصدع فيما بينها بين الرئيس ورئيس الوزراء، أما الخاسر الأكبر في هذه الحرب فهم المدنيين، الذين يحتاجون أكثر من غيرهم، لتوقف طويل وهدنة إنسانية لا تنتهي.
والهدنة التي أعلن عنها الرئيس هادي واحدة من القضايا التي لا يمكن الرهان عليها في ظل عدم وجود مراقبين دوليين محايدين، إذ باستطاعة أي طرف اتهام الطرف الآخر بخرق هذه الهدنة، وبالتالي فشل الهدنة على الأرض، يقود بالضرورة إلى فشل المحادثات السياسية على الطاولة.
المعارك مستمرة على الأرض
ويلحظ أن كلا الطرفين يضعان عين على الطاولة وأخرى على الميدان، إذ إن إجراءات بناء الثقة محدودة إن لم تكن منعدمة على الأرجح، وقد كان نائب الرئيس اليمني خالد بحاح، واضحًا بهذا السياق، حيث أعلن “جاهزية الحكومة اليمنية للسلم أو الحرب”.
ولا تبدو على الأرض أي مؤشرات لوقف الاحتراب، مع احتدام المعارك في مختلف الجبهات، بموازة قيام الحوثيون بخطوة تصعيدية إضافية، تمثّلت بتعيين القائد الميداني للجماعة، عبدالله علي الحاكم، المعروف بـ “أبي علي الحاكم”، قائدًا للمنطقة العسكرية الرابعة، التي تشمل عدن ومحيطها بالإضافة إلى محافظة تعز، التي عُيّن الحاكم فيها أيضًا، قائدًا للواء 35 مدرع.
في المقابل، علت أصوات من داخل المقاومة، ومن ضمنها بيانات لفروع المقاومة الشعبية في محافظات إب وتعز والبيضاء وصنعاء، تحذّر من مغبة الدخول في حوارات عبثية مع الانقلابيين وترفض التفاوض السياسي.