بعد انتهاء الانتخابات التشريعية في مصر، والتي جرت على مدار أكثر من شهرين، أعلن النظام في مصر عن أنه استكمل ما يطلق عليه وإعلامه “خطة خارطة المستقبل”، والتي طرحها الجيش خلال انقلاب الثالث من يوليو من العام 2013.
ولعل اللافت الأهم في خطاب النظام الحاكم في مصر في هذه المرحلة، سواء من خلال تحليل مضمون خطابات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أو مضمون ما ينشره الإعلام الحكومي والخاص؛ هو التركيز على قضية الشرعية، والتأكيد على أن النظام الحالي في مصر قد استكمل مبررات وجوده وأركان شرعيته.
ويبدو ذلك في العديد من المظاهر والأمور، ومن بينها تأكيد السيسي دائمًا على “نجاح” الدولة في استكمال خطة خارطة المستقبل واستكمال مؤسسات الدولة، ويبدو كذلك في الحفاوة البالغة من جانب الإعلام، ولاسيما الإعلام الحكومي، بأحداث تؤكد على “تطبيع” وضع النظام الحالي على المستويَيْن الإقليمي والدولي، مثل مشاركة السيسي في قمة المناخ في فرنسا، ومن قبل حصول مصر على عضوية مجلس الأمن الدولي ومنظمات إقليمية ودولية أخرى، بالإضافة إلى جولات السيسي الخارجية العديدة، التي كان ذلك الأمر، من بين أسباب حرصه عليها.
ولئن كان إثبات شرعية النظام في الداخل بالأمر البسيط الذي لا يتطلب أكثر من بضعة أمور مراسيمية الطابع مثل إجراء انتخابات أو الإعلان عن افتتاح مشروعات قد لا تتم وقد لا تكون حقيقية من الأصل، فإن هذه المسألة أكثر صعوبة وتعقيدًا في الخارج، واحتاجت من النظام الكثير من الفعل الإقليمي والدولي.
ولعل ذلك يبرز “اجتهاده” الشديد على جبهة الخليج العربي؛ حيث دفع الكثير من الأثمان لأجل الحفاظ على اعتراف دول مجلس التعاون الخليجي – عدا قطر تقريبًا – بشرعيته، وحتى قطر، كان السيسي حريصًا على إجراء بعض اللقاءات مع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، لأجل التأكيد على هذه المسألة.
على المستوى الدولي، حرص السيسي على أن يزور غالبية دول العالم الكبرى وشملت جولاته روسيا، الصين، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، والولايات المتحدة، ولكن الأخيرة زارها ضمن حضوره الدورة السنوية الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر الماضي، وهو أسلوب تبناه مع القوى الإقليمية في المنطقة والقارة الأفريقية.
نجح السيسي في بعض الجبهات كما في فرنسا وروسيا، وفشل في أخرى كما حدث في بريطانيا، عندما تعرض للكثير من مظاهر عدم الاهتمام من جانب الحكومة البريطانية، ولعل كان الحرج بالغًا عندما تركه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، ليخرج بقرارات لحكومته، في وجود السيسي، تدعو السياح البريطانيين إلى مغادرة مصر، ومقاطعة مطار شرم الشيخ!
لكن لا يمكن القول إن تحركات النظام المصري على المستوى الخارجي، تهدف فقط إلى تحقيق الشرعية، بالرغم من أن ذلك كان هدفًا رئيسيًّا، وكان -ولا يزال – يعكس، ربما، أزمة نفسية لدى النظام ولدى السيسي، باعتبار الظروف التي جاء فيها إلى الحكم؛ بانقلاب عسكري، أيدته قوى مدنية موالية ومؤسسات الدولة العميقة في مصر والتي لعبت الأدوار تلو الأدوار من أجل تعقيد الأمور أمام الدكتور محمد مرسي، أول رئيس وحاكم مدني منتخب في تاريخ مصر.
ويمكن رصد شبكة مصالح عديدة من وراء تحركات النظام المصري على المستويَيْن الإقليمي والدولي؛ أول هذه المصالح، هي تأمين احتياجات الجيش من السلاح من أجل كسب تأييد قياداته وعناصره للنظام الذي يدرك جيدًا أن الانقلاب على الشرعية السابقة في مصر، لن يمر بسهولة، وأنه سوف يكون هناك فوضى عارمة تجتاح البلاد، مما يتطلب تأمين ولاء القوات المسلحة، وكان من بين أهم أدوات ذلك، منح العسكريين مزايا مادية وعينية عديدة، مثل رفع الرواتب والمعاشات، بجانب تأمين صفقات سلاح ضخمة، تحقق الولاء المطلوب.
كذلك سعى النظام من خلال مناورات عديدة، من بينها اللعب بورقة التحالفات والمصالح الأمنية والسياسية للأطراف الإقليمية والدولية المختلفة، وفي حقيقة الأمر فإنه يجب الاعتراف بأن النظام أجاد هذه اللعبة بمرونة فائقة وتوقيتات دقيقة للغاية، بحيث استطاع التخلي عن الخليج وتمويلاته، في نفس التوقيت الذي علم فيه أنه لن يكون هناك المزيد من التمويلات، فانتقل بدقة إلى تحالف آخر يؤمن له مصالحه، مع كل من روسيا وفرنسا.
وبالمقاييس الموضوعية، فقد حقق النظام نجاحًا؛ حيث إنه أجبر الأمريكيين على تسليمه صفقات سلاح معطلة، كانت إستراتيجية للقوات المسلحة المصرية في حربها الراهنة ضد التمرد المسلح الموجود في شمال سيناء والمخاطر القادمة من ليبيا وعلى رأسها مروحيات الأباتشي ومقاتلات الـ “إف. 16″، بالرغم من عقده لصفقات إستراتيجية في مجال القوات البحرية مع كل من ألمانيا وفرنسا، وفي مجال الدفاع الصاروخي مع روسيا.
وتبدو “مصلحية” النظام البراجماتية، في استغلاله لأزمة العلاقات الروسية – التركية، من أجل التغلب على بعض مشكلاته الاقتصادية، من خلال عرضه توريد المنتجات الزراعية المصرية للأسواق الروسية، بعد حظر استيراد موسكو لبعض هذه المنتجات من تركيا على خلفية أزمة إسقاط “السوخوي- 24”.
كما سعى النظام إلى ربط نفسه بسلسلة من المصالح الأمنية إقليميًا ودوليًا؛ حيث عرض نفسه باعتبار أنه أحد أهم الأطراف القادرة على مواجهة “الإرهاب” في الشرق الأوسط، من خلال التصدي لجماعات العنف، واستغل ذلك للتخلص من خصومه ممثلين في جماعة الإخوان المسلمين، والتي احتلت واجهة النظام الأهم في مخاطبته للحكومات الغربية، على النحو الذي تم في ألمانيا وبريطانيا.
وفي إطار سعيه إلى تعضيد شرعيته في الداخل من خلال وعود التنمية والرخاء؛ سعى النظام الحالي في مصر إلى توظيف تحالفاته الخارجية في المجال الاقتصادي، من خلال السعي إلى استقطاب تمويلات إقليمية ودولية، وخصوصًا من روسيا، الصين، فرنسا، إيطاليا، الإمارات، والسعودية، لمشروعات بعينها تحقق الجانب الدعائي المطلوب، مثل مشروع محور التنمية في قناة السويس، ومحطة الضبعة النووية.
ولقد منحته الأطراف الإقليمية والدولية ما يريد، في مقابل قيامه بدوره المرسوم في التصدي للربيع العربي، وامتصاص مكاسب الثورات الشعبية التي انطلقت من تونس في العام 2010، وخصوصًا فيما يتعلق بصعود الإسلام السياسي، وتدمير ما وصلت إليه جماعاته، وعلى رأسها الإخوان المسلمين.
وهنا يمكن فهم سلوك النظام المصري في ليبيا، وضد حماس في قطاع غزة، وتحولاته تجاه الأزمة السورية لصالح فكرة بقاء نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بالرغم من أن ذلك جاء على حساب علاقاته الخليجية، ولاسيما مع المملكة العربية السعودية، ولكن بدت مهارة النظام في أنه لم يجهر بموقفه هذا من الأزمة السورية إلا بعد تأكده من أنه لم يعد من الممكن “حَلْب” السعودية والخليج أكثر من ذلك؛ حيث تذهب تقديرات إلى أن النظام حصل على حوالي ما بين 45 إلى 60 مليار دولار من خزائن الخليج لاستيعاب الأزمات التي تلت الانقلاب وتثبيت أركانه.
وكتقييم عام؛ فقد حقق النظام العديد من المكاسب التي تكرس شرعيته ووجوده في السلطة، داخليًّا وخارجيًّا، ولكن تبقى حقيقة أن هذه المكاسب لم تكن لتحقق لولا الواقع الراهن على مستوى الجماعة الثورية المصرية والتفكك الحاصل فيها في ظل خلافات عميقة ما بينها، سواء فيما يتعلق بالآليات المطلوب تبنيها لاستعادة الثورة المصرية وشرعيتها، أو ما يتعلق بالموقف من الدولة الحالية بمؤسساتها وكيفية التعامل معها في مرحلة انتقالية جديدة بعد سقوط الانقلاب ونظامه الحالي.
البعض يرى أن تثبيت النظام لأقدامه في الوقت الراهن وعلى المستوى المنظور، يعود إلى أنه لا يجد أمامه قوى تدافع حقيقية منظمة، قادرة على استقطاب الجمهور العام، ودفعه إلى الميادين مرة أخرى، على النحو الذي تم خلال المرحلة السابقة على ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وخلال أيام الثورة.
ويدللون على ذلك بأن حجم المشكلات التي واجهها النظام خلال العامين ونصف التي تلت الانقلاب وخصوصًا في المجالَيْن الأمني والاقتصادي، كانت كفيلة بسقوطه لو أنه لم يجد الدعم الخليجي كعامل خارجي، وكعامل داخلي؛ لو أن المعارضة المصرية كانت قد نظمت نفسها ووحدت صفوفها وطرحت برنامجًا موحدًا على الجمهور العام يتضمن رؤية واضحة للمرحلة الانتقالية تتفادى الأخطاء التي تمت في المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير.
ويدلل أصحاب هذا الرأي بمؤشر مهم وهو أن هناك فجوة كبيرة بين مؤيدي الشرعية وخيار ثورة جديدة من الجمهور العام، وبين معارضي النظام؛ حيث إن نسبة من يؤيدون الشرعية واستعادة الثورة من فئة معارضي النظام، هي نسبة ضئيلة، ولو تطابقت النسبتان أو تقاربتا؛ لكانت ثورة جديدة لا تبقي ولا تذر بعد استيعابها الأخطاء التي تلت ثورة يناير.
وهي حقائق يدركها النظام، ولذلك هو يتحرك بثقة نسبية؛ حيث يعلم أن الجماهير الناقمة بفعل الأزمات المعيشية وانتهاكات حقوق الإنسان الواسعة التي تقوم بها الشرطة، وتراجع نسبة التفاؤل بما هو آتٍ بسبب الفجوة بين وعود النظام وبين ما هو متحقق بالفعل على الأرض بعد عامين ونصف من الانقلاب، حتى لو أرادت الثورة عليه، لن تجد البديل الملائم له، وبالتالي، فهي تفضل الفساد والاستبداد، على الفوضى التي يمكن أن تحدث لو سقط النظام الحالي أو سقطت الدولة، حيث لم تبرهن المعارضة المصرية على قدرتها على تقديم البديل.
وتبرز مهارة النظام في توظيف الواقع الداخلي لصالحه كذلك، في الكيفية التي أدار بها انتخابات مجلس النواب الجديد، حيث أتى مجلسًا مفككًا ضعيفًا، وفي غالبيته إما مواليًا له، أو يضم عناصر “لها ملفات” بحسب تعبير أجهزة الأمن، بحيث سيضمن الطاعة الكاملة مع تسفيه صورة البرلمان، وبالتالي التقليص من قدرته على التأثير في الرأي العام، من خلال “ضم” عناصر مثل توفيق عكاشة ومرتضى منصور وعناصر أخرى معروفة بفسادها؛ مما سوف يقلص من قيمة المؤسسة، وبالتالي ضمان بقائها في فلك النظام.
ولذلك يمكن القول إن النظام أمامه فسحة من الوقت يتحرك فيها، وقد يتجاوز فيها مشكلاته، ما لم تجد المعارضة المصرية حلولاً فعالة لمشكلاتها، ولكن إن استطاع النظام إنجاز المصالحات المجتمعية التي يسعى إليها وتنفيذ خططه التنموية الطموحة والموضوعة على أجندة الأولويات بعد استكمال مؤسساته، خلال العامين 2016 و2017؛ فإن أي جهد للمعارضة لإصلاح أوضاعها لن يكون بحال ذا أي تأثير على الواقع العام في مصر.