في صباح السابع من يونيو/ حزيران عام ١٩٨١ دمرت طائرات حربية إسرائيلية منشأة تموز النووية العراقية، بعد أن أصرت فرنسا، الدولة الوحيدة التي دعمت البرنامج النووي العراقي في ذلك الوقت، على تجاهل تحذيرات دولة الاحتلال الإسرائيلي، والمتعلقة بمنع العراق من امتلاك سلاح نووي.
الوضع تغير كثيرا خلال السنوات الاثنين وثلاثين الماضية، فاليوم، تقف فرنسا حائط سد أمام محاولة الاتفاق الغربي الإيراني والذي سيسمح لإيران بوقف برنامجها النووي، مقابل وقف العقوبات المفروضة عليها، وأحد الأسباب الرئيسية لذلك هو ما قاله لوران فابيوس من “أننا يجب ان نضع في الاعتبار مخاوف إسرائيل الامنية وسائر دول المنطقة.”
ولعل المسؤولين الفرنسيين لم يحظوا في صحافة بلادهم بالإطراء والثناء الذي أتحفتهم به الصحافة الإسرائيلية خلال اليومين الماضيين. فمنذ أن عُلم أن الموقف الفرنسي هو الذي حال دون التوقيع على الاتفاق النووي بين إيران ودول «5+1» في جنيف، حفلت صفحات الصحف الإسرائيلية بتعلقيات بالغت في تمجيد اعتراضات باريس على الاتفاق المتبلور في جنيف وتسببها بكبح الاندفاعة الأميركية لإبرامه، وهو ما أيده بعض الدبلوماسيين الأمريكيين المقربين من إسرائيل كذلك.
https://twitter.com/SenJohnMcCain/statuses/399564091771322368
إذا أمن إسرائيل هو سبب من الأسباب التي يتعلل بها الفرنسيون للتعنت في المفاوضات مع طهران، فماذا عن بقية الأسباب؟
تتبني فرنسا موقفا أكثر تشددا من القوى العالمية الاخرى تجاه إيران إلى الحد الذي جعل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يتهم فرنسا بأنها اكثر عنادا من الولايات المتحدة في المحادثات.
بحسب تقرير نشرته صحيفة “معاريف” الإسرائيلية أمس، فإن ما يقف وراء السجال بين فرنسا المتشددة حيال الاتفاق مع إيران والولايات المتحدة التي تميل إلى التساهل في تمرير الاتفاق، هي مليارات الدولارات الإيرانية التي تخشى فرنسا أن تذهب إلى الشركات الأميركية على شكل عقود استثمارية بعد رفع العقوبات عن طهران.
وعرضت القوى العالمية على إيران الحصول على أموالها المجمدة بالخارج منذ عدة أعوام والتي تصل قيمتها إلى 50 مليار دولار.
الاقتصاد إذا سبب آخر في التعنت الفرنسي تجاه إيران، في الحقيقة وبالنظر إلى تاريخ العلاقات في المنطقة، يبدو أن الاقتصاد والمصالح الاقتصادية هي السبب الرئيس في الموقف الفرنسي.
فعلى الرغم من أن أسباب فرنسا تتلخص في نقطتين رئيسيتين، الأولى هي الرغبة الفرنسية في إيقاف مفاعل آراك النووي تماما، والثانية هي ما صاغه فابيوس بقوله أن فرنسا لديها “تساؤلات بشأن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب إلى درجة نقاء 20 في المئة”، إلا أن مصالح فرنسا تتجاوز ذلك بكثير.
الحسابات الفرنسية يبدو أنها استندت إلى مصالحها التي تقاطعت مع تلك السعودية، فالدولة الأوروبية التي تعتبر نفسها رائدة دول الاتحاد تأمل بملء الفراغ الذي خلفه تراجع النفوذ الأميركي عن الخليج منذ انسحابها من العراق واستغلال طهران له على أكمل وجه وتوظيفه لمصلحة روسيا في معركة اسقاط أحادية الادارة الأميركية.
وبالتالي العودة إلى الشرق الأوسط من البوابة السعودية -وليس الخليجية- باعتبار أن دول منظمة التعاون ترى أن مصلحتها تكمن في التقارب مع ايران لأسباب عدة ليس أولها الميزان العسكري الذي يميل بشكل واضح للغاية لمصلحة طهران ولا آخرها رغبتها في الانفتاح الاقتصادي بعد أن تحول اقتصاد غالبيتها إلى ريعي مروراً باصرارها على البقاء إلى جانب أميركا وتنفيذ عقود التسليح المبرمة معها وعدم التخلي عنها لمصلحة أي من الدول الأوروبية .
مثلا قالت “لوموند” الفرنسية، إن التصلب الفرنسي الطارئ “أخرج إلى السطح خريطة المصالح الغربية في منطقة الخليج الفارسي (العربي) المشتملة على تجارة النفط والسلاح والسيارات والتكنولوجيا والتي تدحرج الكثير من المليارات التي تؤثر من دون شك على مواقف الدول في القضية المشحونة والمعقدة جداً المسماة البرنامج النووي الإيراني”.
تمتلك فرنسا قاعدة عسكرية في ابو ظبي قبالة إيران، فيما تعتبر قطر مستثمرا مركزيا في الاقتصاد الفرنسي، ويطالب الفرنسيون بنصيبهم في صفقات السلاح التجارية السعودية على حساب الجانب الأمريكي الذي يحتكر تقريبا هذه الكعكة، ويظهر أن الكلمة العليا في هذه المرحلة للمال السعودي.
وبالفعل كشف موقع ديبكا الإسرائيلي وثيق الصلة بالدوائر الاستخباراتية عن أن عرقلة فرنسا أمس لجهود تسوية القضية النووية بين إيران والمجموعة السداسية جاءت عقب ضغوط خليجية في مقدمتها السعودية على الرئيس الفرنسي “فرانسوا أولاند”.
وأكد “ديبكا” أن هدف السعودية ودول الخليج من وراء الضغوط على فرنسا هو منع احراز مزيد من التقدم في العلاقات الأمريكية الإيرانية، لذلك اتفقت الرياض مع باريس على تقويض هذه التحركات الإيرانية.
في أغسطس الماضي، قالت تقارير فرنسية أن باريس وقعت عقدا مع الرياض تدفع بموجبه السعودية أكثر من مليار يورو مقابل شراء قطع سلاح من ضمنها قطع بحرية فرنسية، وكشفت الجزيرة في وقت لاحق أن السعودية تشارك باستثمارات كبيرة في الاقتصاد الفرنسي في مجالات الزراعة والغذاء والدفاع.
لكن لو كانت تلك هي أسباب فرنسا لمعارضة برنامج إيران، بداية من أمن إسرائيل، ومرورا بالخوف على مصالحها في الخليج، ورغبتها في الحفاظ على علاقات جيدة مع السعودية، فإن السؤال الذي سيبرز هنا ليس “لماذا تعارض فرنسا تسوية مع إيران؟” ولكن السؤال الصحيح سيكون “لماذا توافق الولايات المتحدة وبقية الدول الكبرى على تسوية مع إيران؟”
على كل حال، أيا ما كانت أسباب التعنت الفرنسي، يجب أن نتوقف لنضيف تلك اللحظة إلى سجل اللحظات التي تتقاطع فيها المصالح السعودية الإسرائيلية، واللتان ضغتا سويا على باريس من أجل إيقاف التسوية الغربية مع إيران، ويبدو أن كل ما يستطيعا فعله هو إبطاء التسوية فقط.
أعلن جواد ظريف أن المحادثات الإيرانية الغربية ستُستأنف مرة أخرى خلال أسبوع أو عشرة أيام.