ترجمة وتحرير نون بوست
إحدى المساهمات الدائمة التي حاولت أوروبا فرضها كطريقة لتنظيم المجتمع الدولي كانت تتمثل بخلق إجماع متين لدعم فكرة أن امتيازات العضوية الكاملة هي حق ينحصر فقط بالدول التي تتمتع بسيادة على إقليم محدد جغرافيًا، وبالمثل، فإن الأمم المتحدة، التي تعتبر تجسيدًا مؤسساتيًا للمجتمع الدولي، تقر هذا المبدأ من خلال قصر عضوية المنظمة على “الدول” بمفهومها القانوني، الأرض والسيادة والإقليم.
بالطبع، يوجد تباين كبير بين الدول الأعضاء فيما يتعلق بحجمها، عدد سكانها، قدراتها العسكرية، مواردها، واستقلالها الذاتي الفعلي، فهناك مثلًا دول كالصين والهند التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 1 مليار نسمة، بينما على الطرف الآخر يوجد دول صغيرة للغاية كليختنشتاين أو فانواتو، ولكن جميع هذه الدول الأربع تمتلك بالتساوي صوتًا واحدًا فقط عندما يتعلق الأمر بأعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة أو بالتصويت في المؤتمرات العالمية كمؤتمر تغيّر المناخ.
من وجهة نظر القانون الدولي والنظرية التنظيمية، مازال النظام العالمي دولانيًا، أي أنه يركز بشكل مركزي للغاية على مفهوم “الدولة” للاعتراف بالحقوق الكاملة للكيانات الواقعية، وهذا الأمر يثير الدهشة إلى حد ما، خاصة عندما يتعلق الأمر بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث فُرضت “الدول” في كثير من الأحيان بشكل تعسفي قبل قرن أو ما ينوف عن ذلك، لتلبية الطموحات الاستعمارية، ولم تأخذ هذه الدول عند تأسيسها بعين الاعتبار أية اعتبارات لرغبات وهويات الأشخاص الذين يعيشون ضمن هذا الفضاء الجغرافي المعين.
وبالمقابل، على الرغم من إدراكها بأن ترسيم حدود الدول المنحدر من الحقبة الاستعمارية ليس متجذرًا بالتجربة العرقية والدينية والتاريخية، امتنعت الحركات القومية وقادتها في جميع أنحاء العالم بدون استثناء عن تحدي فكرة أن الدول المستقلة سياسيًا يجب أن تُرسّم حدوها وفق الحدود القديمة السابقة للحقبة الاستعمارية.
ويبدو أن هذا القبول للوضع الإقليمي الراهن يعكس اعتبارين مختلفين؛ فتحدي الحدود الاستعمارية القائمة سيفتح صندوق باندورا خطير يمهد الطريق لصراعات سيئة ومطالبات متناقضة، وعلاوة على ذلك، أضحى يُنظر لتحقيق السيطرة على الدول الإقليمية القائمة من وجهة نظر القانون الدولي على أنه تعبير صحيح ومنسجم مع حق الشعب في تقرير مصيره الوطني، فتم قبول هذه النتيجة كهدف للحركات القومية في جميع أنحاء جنوب العالم، بغض النظر عن ميول هذه الحركات وعدائها الأيديولوجي سواء لليمين أو لليسار.
بطبيعة الحال، تم تحدي بعض الحدود المرسمة استعماريًا بشكل قاسٍ، ولكن هذه التحديات كانت نادرة بشكل مدهش؛ فمثلًا تم تقسيم مالايا إلى ماليزيا وسنغافورة، وأيضًا خرجت باكستان من رحم الهند، وفي وقت لاحق، خرجت بنغلاديش من خاصرة باكستان بعد صراع دموي، ولكن مع ذلك، تمخض هذا الانقسام السياسي في جميع الحالات عن تأسيس دول ذات سيادة إقليمية متماسكة.
يبدو بأن تأسيس مجتمع سياسي سيادي معترف به دوليًا لا يتم إلا من خلال التحدي العنيف للحدود المرسّمة، ولكن مرة أخرى يوجد عدد قليل من الاستثناءات؛ فالفاتيكان، ورغم كونها أساسًا مجتمعًا دينيًا مغلقًا، اُعترف بها، لغرض معين، كدولة، علمًا بأنها لا تمتلك العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وفي الآونة الأخيرة، تم قبول فلسطين كمراقب غير عضو بالأمم المتحدة، وهذا الاعتراف يحجب عن فلسطين الحق في التصويت أو المشاركة كعضو في المناقشات داخل الجمعية العامة أو في مجلس الأمن، كما تم قبول “دولة الشبح” الفلسطينية كعضو في اليونسكو وكدولة في المحكمة الجنائية الدولية.
لعل التحدي الأساسي للنظام العالمي المُدوَّل نشأ من خلال ظهور الاتحاد الأوروبي، فالاتحاد الأوروبي يمثل مصالح الدول الـ25 الأعضاء فيه في العديد من المناسبات، بما في ذلك في بعض المؤتمرات الدولية، ولكن حتى الآن لم يُمنح عضوية أو صوتًا مستقلًا في الأمم المتحدة، وبالمثل، فإن الجهود المبذولة لمنح المجتمع المدني اعترافًا دوليًا لم تلقَ زخمًا سياسيًا كافيًا، رغم التأييد الواسع لـ”برلمان الشعب العالمي”، الذي أُسس استنادًا لنموذج البرلمان الأوروبي.
في ظل هذه الخلفية الدولانية، تبزغ بعض الممارسات الإسلامية الأخيرة المتعلقة بالمجتمع السياسي والنظام العالمي كحوادث مبتكرة وخطيرة؛ ففي خضم شرحه للعملية الثورية في إيران التي حصلت بين عامي 1978-1979، أصر آية الله الخميني أن ما يحدث في إيران ينبغي أن يُعامل بوصفه “ثورة إسلامية” لا “ثورة إيرانية”.
ما كان يجري التأكيد عليه في هذا الموضع هو أن المجتمع المعني بالثورة هو الأمة الإسلامية، وهو مجتمع متجرد عن الحدود الجغرافية ويستقطب ولاء والتزام المؤمنين مهما كان موقعهم في الفضاء الوطني، هذه النظرة تم نشرها بشكل أشد قوة من خلال تصريحات أسامة بن لادن، الذي كان يحوز نظرة عالمية إسلامية تتسامى فوق الواقع العلماني للدولة والقومية، وتعبر عمّا يمكن أن يسمى بالنظرة العالمية الإسلامية.
ولكن التحدي الأكثر قوة الذي تم شنه ضد النظام العالمي المُدوَّل مارسه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، من خلال إعلانه بشكل خاص عن إقامة خلافة جديدة في الشرق الأوسط، التي أقامت حدودها ما بين سورية والعراق متجاوزة الحدود القائمة للدول ذات السيادة.
تفاخر قادة داعش أيضًا بـ”إنهاء حدود سايكس بيكو”، الاتفاق السري الأنجلو- فرنسي لعام 1916 الذي أدى إلى تشكيل دول الشرق الأوسط الحديث ضمن الأراضي التي كانت تحكمها الدولة العثمانية سابقًا، وحتى الآن، حقق تنظيم داعش نتائج جيدة للرقي إلى مطالباته من خلال حكم المنطقة التي يسيطر عليها بتطبيق الشريعة بشكل صارم، متحديًا بذلك سيادة الإقليم لدولتي سورية والعراق.
يوجد ثلاثة عناصر على الأقل تميز هذا النمط غير الحكومي من السيطرة يمكن ملاحظتها من خلال حكم داعش؛ فأولًا، يبدو أن تنظيم داعش ليس مهتمًا في أن يتم قبوله كدولة أو أن يتم التعامل معه على أنه وسيلة ليقرر من خلالها السوريون والعراقيون الذين يعيشون تحت سلطته مصيرهم، فالتنظيم يفرض سلطته على الحكم حصريًا من خلال المطالب الطائفية لتطبيق الإسلام.
ثانيًا، من خلال تشويهه لسمعة الدول التي فُرضت على المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، يتحدى داعش الشرعية السياسية العليا التي مُنحت لتلك الدول من خلال الإجراءات الدبلوماسية الدولية أو من خلال قبولها كعضو في الأمم المتحدة.
ثالثًا، أجزاء كبيرة من السكان السنة، الذين يشكلون الأغلبية الطاغية في دولة الخلافة، رحبوا بداعش، على الأقل في البداية، كقوة تحرر السكان من قمع الشيعة، ومن التمييز الممارس ضدهم، فضلًا عن كون التنظيم يشكل قوة فاعلة لتقديم الخدمات الاجتماعية على المستوى الشعبي.
في الواقع، استطاع تنظيم داعش إثارة التساؤلات حول الشرعية السياسية للدول التي فرضتها القوى الاستعمارية وارتضتها الحركات القومية المحلية، ومن المرجح أن تدوم هذه الأسئلة حول دولانية الشرق الأوسط أكثر من ديمومة تنظيم داعش بحد ذاته؛ فمن منظور عرقي، الحركات الكردية في العراق وتركيا وسورية، والتي لم ترتضِ بتاتًا بحدود الدول التي رسمتها سايكس بيكو، ترسم الآن مجتمعات سياسية قائمة على حدود عرقية جديدة، وكما هو الحال مع داعش، يتم نعت هذه الكيانات المبتكرة بأشباه الدولة أو بالدول داخل الدول، وبعبارة أخرى نحن عالقون للغاية في لغة الدولانية لدرجة جعلتنا نربط بشكل مخالف للحقيقة هذه الكيانات السياسية الواقعية المبتكرة بإطار الدول.
في هذا السياق، تجدر ملاحظة الاقتراح المزدوج الذي تقدم به أحد المحافظين الجدد، والسفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة، جون بولتون، الذي دعا الغرب لتركيز كامل قواه لتدمير خلافة داعش، ولكنه أرفق اقتراحه هذا بتأكيد مذهل آخر يقوم على واقع أن العراق وسورية فقدتا حقهما في استعادة أراضي التنظيم، حيث يقول: “يجب على واشنطن الاعتراف بالجغرافيا السياسية الناشئة حديثًا في المنطقة، فأفضل بديل للدولة الإسلامية في شمال شرق سورية وغرب العراق هو دولة سنية مستقلة جديدة”، كما جاء في مقال له في صحيفة النيويورك تايمز.
كما هو متوقع، منطق بولتون قائم على التوجهات الاستعمارية الجديدة سواء لجهة التصور أو لجهة التنفيذ، فالاقتراح المزدوج الذي تقدم به مصمم لإقصاء موسكو، استعادة نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، ولدعم توجهات ممالك الخليج المعادية للشيعة بشكل غير مباشر.
لا مندوحة من القول بأن الدولة السنية التي يقترحها بولتون هي هيكلية سياسية مفروضة خارجيًا يُتوقع لها بأن تُصبح دولة تقليدية تحوز سلطة تقتصر على حدودها الدولية، ولكن هذا الاقتراح يتناقض مع رؤية خلافة داعش، التي تقيم سلطتها على أساس التفسير السلفي للإسلام؛ فرغم أن تنظيم داعش يتواجد ضمن حدود جغرافية معينة، إلا أنه مجتمع أتباعه غير محدودين ببقعة جغرافية محددة، ومفاهيم المواطنة والجنسية غير قابلة للتطبيق ضمن دولة الخلافة التي يحكمها داعش.
أخيرًا، من الحق أن نقول بأن اقتراح بولتون يوحي بأنه يعارض السعي لإعادة تكوين خريطة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن من منظور آخر، اقتراحه يؤكد بشكل غير مباشر التحدي الذي يفرضه تنظيم داعش على شرعية الدول التي أسستها أوروبا في حقبة ما بعد الدولة العثمانية في الشرق الأوسط، في خضم الجو الاستعماري الذي ساد المنطقة إبان الحرب العالمية الأولى.
المصدر: ميدل إيست آي