لا تزال أسرار العلاقات المدنية العسكرية في مصر تتكشف يومًا تلو الآخر، منذ نزول الجيش المصري إلى الشارع عقب أحداث الثامن والعشرين من يناير، التي انسحبت على إثرها قوات الشرطة المصرية من الشارع وحل محلها الجيش حتى اللحظة.
قبلت المؤسسة العسكرية المصرية حل تنحي مبارك عن الحكم واستلام السلطة بدلًا منه، في انتصار لسردية قبول الجيش بفكرة ثورة الخامس والعشرين من يناير مقابل التخلص من قضية التوريث التي كان يُعد لها مبارك نجله جمال وحاشية رجال أعماله الذين عملوا على منافسة الجيش في اقتصاده الخفي.
أدار الجيش البلاد واقتصاده بالتوازي حتى صعود الرئيس السابق محمد مرسي إلى سدة الحكم في منتصف عام 2012 في انتخابات ديمقراطية نزيهة، ورغم أن العام الذي حكمه الرئيس السابق محمد مرسي لم يشهد ضغطًا على هذا الاقتصاد العسكري الموازي، إلا أن المؤسسة العسكرية في مصر آثرت الرجوع إلى حكم البلاد مرة أخرى، مع توسيع نشاطاتها الاقتصادية بصورة غير مسبوقة، وذلك عبر انقلاب عسكري قاده وزير الدفاع آنذاك الذي صعد إلى سدة الحكم حاليًا الجنرال عبدالفتاح السيسي.
شهدت البلاد موجة قمعية غير مسبوقة عقب الانقلاب العسكري، وهذه المرة لم تكن على أيدي قوات الشرطة فقط كما المعهود، بل شاركت فيها قوات من الجيش برتب متفاوتة، حتى أن الاعتصامين المؤيديين للرئيس السابق محمد مرسي تم فضهما بالقوة في يوم واحد عبر قوات مشتركة بين الجيش والشرطة في الرابع عشر من أغسطس 2013، ما أدى إلى مقتل ما يزيد عن ألف شخص وفق ما أعلنته عدة منظمات حقوقية، بالإضافة لتصدي قوات الجيش لكافة الأنشطة المعارضة التي تمت بُعيد عملية فض الاعتصامين.
بهذا تورط الجيش في الصراع الدموي مع مكون شعبي أساسي كالإسلاميين، وقبله بصورة أقل حدة مع المكون المدني السياسي المصري أثناء إدارة الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة يناير، لتتكون صورة معبرة عن توجهات المؤسسة العسكرية المصرية وأفرادها إيذاء التغييرات الجذرية في مصر التي من شأنها أن تُحدث فارقًا لصالح المكون المدني في السلطة.
هنا لا نتحدث عن قاعدة الجيش المكونة من التجنيد الإجباري، التي يمكن تخطيها في حساب هذه العملية بسبب ضعف تأثيرها في قرارات المؤسسة العسكرية المصرية، وإنما يمكن الحديث بشكل صريح هنا عن المشتغلين في الجيش المصري من ضباط وصف ضباط بمختلف رتبهم العسكرية الوسيطة والمتقدمة، وصولًا إلى الجنرالات الحاكمين في الأمانة العامة لوزارة الدفاع المصرية والمجلس العسكري برمته.
هؤلاء هم الذين اتخذوا موقفًا سلبيًا واضحًا من أطروحات التغيير التي مرت بها مصر منذ سقوط حكم آل مبارك، الإسلامية منها والمدنية، وقد أبدوا استعدادًا للانقضاض على هذه الأطروحات بالحملات القمعية حتى وأدها تمامًا، وهو ما كان بالفعل في الفترة التي أعقبت ثورة يناير والحراك ضد المجلس العسكري، وكذلك الفترة التي تلت انقلاب الثالث من يوليو؛ حيث انهارت في ذلك الوقت المسلمات التي رددت استحالة حدوث مواجهة بين الجيش والشعب، وثبت أن الأصل هو في حدوث هذه المواجهة، بعد أن تم صناعة “جيتو” مصالح عسكرية داخل الطبقات المجتمعية المصرية.
هذا الجيتو يرى أن عليه الدفاع عن نفسه أمام أي حراك اجتماعي قد يقود لانتزاع امتيازاته المتراكمة، وقد نستشرف من هذا أن أي حراك تغييري محتمل ضد السيسي سيكون بمثابة إعلان الحرب على هذا “الجيتو العسكري” الذي يمثل جيب مجتمعي لن ينضم لأي ثورة متخيله تنتقص من أوضاعه القائمة.
إذن المعادلة بهذه الصورة لن تخرج عن خروج الشعب في وجه الجيش، لأن المؤسسة العسكرية في الحالة المصرية تستمر في خلق حالة انفصال بين الطبقة العسكرية كأحد مكونات السلطة في مصر وبين بقية المجتمع حتى المؤسسات التي تشاركهم السلطة كالقضاء والشرطة.
كيف يحدث الانفصال بين الجيش والشعب في مصر؟
بغض النظر عن حالة التجييش والحشد التي تقوم بها الأذرع الإعلامية للمؤسسة العسكرية المصرية لخلق ظهير شعبي عبر وسائل الإعلام، إلا أن الواقع يقول إن هذا الانفصال حقيقي بين الشارع وطبقة الجيش الحاكمة، ويزداد في الاتساع مع مرور الوقت.
ففي الوقت الذي يُبشر فيه السيسي المصريين بالجوع ويُطالبهم بالصبر والتقشف، يُصدر قرارًا آخر بتعديل قانون المعاشات للقوات المسلحة، ليرفع به بدل طبيعة العمل إلى 25% وبدون حد أقصى، بما يُضاعف معاشات العاملين بالجيش للمرة الخامسة خلال عامين، لتصل إلى 250%.
هذه معاشات المتقاعدين بلا عمل، أما المتقاعدون من الخدمة العسكرية المُعينين في أروقة الجهاز الإداري للدولة فإنهم يتقاضون المعاش التقاعدي العسكري بالإضافة إلى راتب الوظيفة الحكومية، وهي فرص غير متاحة بالتأكيد إلا لذوي الخلفيات العسكرية.
أما عن جانب اقتصاد الجيش الذي يخلق جابًا مجتمعيًا، وتحتكره قيادات المؤسسة العسكرية فإن التقديرات تُشير إلى أن شركات تابعة للقوات المسلحة المصرية كانت تُدير في السابق ما يزيد عن 40% من الاقتصاد المصري، وعقب الانقلاب العسكري أشارت بعض التقديرات إلى أن هذه النسبة مرشحة لأن تصل إلى أكثر من 70%.
مع الأخذ في العلم أن هذه الشركات لا تخضع لأي قانون تنافسي مع القطاع العام أو الخاص في مصر، لحصولها على إعفاء ضريبي كامل على المنشآت والأرباح، وإعفاءات جمركية شاملة على كافة المستوردات، بالإضافة إلى امتلاكها مساحات شاسعة من الأراضي تحت بند الأمن القومي يتم إقامة عليها المشروعات الاقتصادية، كما تمتلك هذه الشركات أيدي عاملة مجانية من جنود التجنيد الإجباري.
وهو الأمر الذي جعل رجال الأعمال والمستثمرين في مصر يتفقون على شبه استحالة منافسة هذا الاقتصاد بأي حال من الأحوال، وهو ما فتح صراعًا بين طبقة رجال الأعمال في المجتمع والمؤسسة العسكرية بسبب تضخم نشاط شركات الجيش بتكيلفات من الرئاسة المصرية التي باتت تعتمد على جهاز المشروعات في القوات المسلحة أكثر من اعتمادها على شركات الدولة الأصلية.
يظهر ذلك الفارق الذي تم خلقه بين الجيش وطبقات الشعب المختلفة في عملية استبعاد قانون الاستثمار الموحد الذي كان يجري العمل على إعداده، حيث رفض الجيش تمرير القانون بسبب البنود الخاصة بطرح الأراضي ومنح التراخيص الخاصة بها؛ حيث ينظر الجيش إلى هذه الأراضي باعتبارها إحدى مصادر دخله في اقتصاده الموازي، وهو السبب الرئيسي وراء رفض تسهيلات الاستثمار على هذه الأراضي التي يمتلك الجيش مساحات شاسعة منها.
وعلى الجانب المجتمعي فإن طبقة ضباط الشرطة وأسرهم أصبحوا يشكلون جناحًا مجتمعيًا سلطويًا لا يعني بالاعتبارات المدنية ولا القوانين التي تدير حياة المدنيين، لذا تُساق لهم القوانين الخاصة والاستثناءات المستدامة، وقد يتضح هذا في قرار وزير التعليم العالي في سبتمبر الماضي باستثناء مجموعة من الطلاب من قواعد التوزيع الجغرافي والتحويلات بين الجامعات وذلك لأبناء الضباط بحجة اعتبارات “الأمن القومي”، فقد أصبحت راحة أبناء الضباط في الدولة المصرية بمثابة أمن قومي يجب تفصيل القوانين للسهر عليها خارج السياج المدني.
لماذا سيتصدى الضابط لأي حراك معارض قادم؟
يتقدم سنويًا للالتحاق بالكليات والمعاهد العسكرية في مصر مئات الآلاف من خريجي الثانوية العامة وغيرها، فقط أملًا في الحصول على فرصة الوظيفة العسكرية التي يرى المصريون أنها سوف تأمن لهم السلطة بجانب امتيازات مادية لا حصر لها.
فضباط القوات المسلحة في مصر يحق لهم العلاج ولأسرهم طوال مدة خدمتهم وبعد إحالتهم للتقاعد في المؤسسات الطبية للقوات المسلحة بصورة مجانية، تلك المؤسسات المعروفة بتقديم خدمة طبية فائقة الجودة مقارنة بغيرها من المؤسسات الطبية الحكومية.
توفر القوات المسلحة للضباط وعائلاتهم أندية وفنادق تغطي غالبية محافظات الجمهورية باشتراكات زهيدة، كما توفر لهم الخدمات الترفيهية العائلية كالمصايف السياحية بأسعار متدنية خاصة بحملة الكارنيهات العسكرية، كما تنظم القوات المسلحة رحلات مسهلة لأداء الحج والعمرة بأسعار زهيدة للضباط وأسرهم حصرًا.
تساعد القوات المسلحة الضباط في توفير مسكن ملائم من خلال صناديق للإسكان ومشروعات تقوم عليها أجهزة القوات المسلحة، تُساهم في توفير شقق سكنية للضباط مع تسهيلات سداد غير مسبوقة، كما تقوم القوات المسلحة بتوفير احتياجات الضباط من السلع المعمرة كالسيارات والأجهزة المنزلية بأسعار أقل من أسعار السوق للمواطن العادي، وتوفر أنظمة سداد خاصة بالتقسيط.
هذه بضع من المزايا العامة لجميع الضباط المشتغلين بالقوات المسلحة المصرية التي ساعدت في تشكيل طبقتهم الاجتماعية الموالية للسلطة على طوال الخط، تلك السلطة التي تؤمن لهم هذه الامتيازات كبدل ولاء تام.
أما عن المزايا الفردية لضابط القوات المسلحة فتتضمن الرواتب المرتفعة نسبيًا عن هيكل الأجور العام في مصر، حيث يُقدر الراتب الأول للملازم حديث التخرج 5200 جنيه مصري وصولًا لمرتب اللواء الذي يتخطى 10 آلاف جنيه، هذا بعيدًا عن الحديث عن رواتب كبار القادة العسكريين التي تتخطى هذه الأرقام بأضعاف مضاعفة، في حين يكابد المدنيين لجعل الحد الأدنى للأجور 1200 جنيه، ولم توافق السلطات على منحهم هذا الحق حتى الآن، فيما تعد المعاشات العسكرية هي الأعلى قيمة في هيكل المعاشات بين المصريين بزيادات معاشات الأوسمة والأنواط العسكرية.
كذلك تتحيح المؤسسة العسكرية لأفرادها من الضباط الخروج لبعثات علمية داخل أو خارج البلاد طبقًا لاحتياجات القوات المسلحة، كما تعطي الضباط الفرص الكاملة لاستكمال الدراسات الأكاديمية العسكرية أو المدنية بالجامعات المصرية أو الأجنبية.
هؤلاء الضباط حين يخرجون للتصدي لتظاهرة معارضة للنظام هم في حقيقة الأمر يخرجون للدفاع عن كل هذه الامتيازات في المقام الأول قبيل مسألة تنفيذ الأوامر وفقط، بل تستمر الأنظمة المتعاقبة على شراء ولاء هذه الطبقة بمراكمة مزيد من الامتيازات والمخصصات كل حسب رتبته.
وهو ما يفعله السيسي الآن بكل دقة، بعزل هذه الطبقة من ثنايا المجتمع ووضعهم في جيتو مغلق ينتشل هؤلاء الضباط من الطبقة المتوسطة الدنيا الآتية في غالبيتها من الأرياف المصرية، ووضعم في قطاع مصالحي يستحيل نزع هذه الامتيازات منه إلا بمواجهة مباشرة عنيفة، وهو تكتيك خلق طوائف مصالح تحافظ على النظام في لحظات ضعفه أمام أي حراك شعبي.
هذا الأمر نفسه يتم مع طائفة القضاء بتنويعاتها المختلفة، وطائفة الأجهزة الأمنية التي تشكل حائط صد لحماية النظام، ولكن تظهر بصورة جلية في طبقة الجيش الذي وضع ممثله في الرئاسة ليراكم له مزيد من الامتيازات ويقتطع له النصيب الأكبر ضمن معادلة السلطة، وتبقى تفاعل هذه الطوائف بالدفاع عن مصالحها المشكلة عن طريق النظام هي ضمانة بقائه واستمراره، وحمايته من أي هبة شعبية منتظرة.