اكتسبت زيارة مسعود برزاني الأخيرة إلى أنقرة في التاسع من ديسمبر الحالي أهمية كبيرة خاصة وأن الزيارة ترافقت مع اندلاع بوادر أزمة بين العراق وتركيا بسبب دخول قوات تركية إلى منطقة بعشيقة بالقرب من الموصل بغرض تدريب قوات كردية لمواجهة داعش على حد قول أنقرة.
صحيح أن الزيارة تزامنت مع أزمة بعشيقة وتؤيد الرواية التركية بعلم بغداد المسبق بدخول القوات التركية والهدف من وجودها، ولكن من وجهة نظر هذا التحليل فإن أبعادها تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، وقد شملت الزيارة عدة اجتماعات بدأت مع رئيس الاستخبارات التركي ثم الرئيس ورئيس الوزراء ثم وزير الدفاع.
وبتوسيع دائرة التحليل على المنطقة كلها فإن المنطقة تشهد حالة تنافس غير مسبوقة وهناك عملية إعادة تشكيل للتحالفات والمحاور بشكل متسارع؛ فروسيا القادمة من بعيد شكلت تحالفًا رباعيًا ضم إليه العراق وإيران والنظام السوري وبالتأكيد يشمل هذا حزب الله والحوثيين، ويحاول الروس أيضًا التواصل مع بعض الأحزاب الكردية في العراق وسوريا، من أجل فرض أمر واقع جديد.
ومقابل هذا فإن كل من تركيا والسعودية وقطر هي الأخرى بدأت تتقارب نحو بعضها من أجل مواجهة هذا التحدي وتحاول الاستفادة من المعارضة السورية والحركات الإسلامية في المنطقة، وفي هذا السياق يأتي التقارب مع كردستان العراق والذي ظهرت إحدى بوادره في زيارة مسعود برزاني للرياض مطلع هذا الشهر والتي لوحظ فيها قدر كبير من الحفاوة في الاستقبال من الملك سلمان الذي استضاف برزاني على مأدبة الغداء بحضور 20 أميرًا ومسؤولاً سعوديًا.
ومع أن هذه الزيارة للرياض يمكن قراءتها في سياق تقارب الرياض وأنقرة التي تحتفظ مع كردستان بعلاقات ممتازة، فإن لقاءات برزاني مع الملك سلمان ثم مع الرئيس التركي أردوغان في أنقرة توضح مدى الاهتمام بكردستان العراق في هذه المرحلة ومحاولة كسبها لصالح هذا الفريق.
ومن زاوية أخرى فإن هذه الزيارات تقدم دعمًا ومساندة سياسة لبرزاني في مواجهة الضغوط الداخلية السياسية للأحزاب المعارضة له في الداخل والتي تربطها علاقات مع دول أخرى مثل إيران، وكذلك الحال في مواجهة الخلافات مع الحكومة المركزية في بغداد، وفي هذا السياق فقد أثار رفع علم الإقليم بجوار العلم العراقي في زيارة برزاني لأنقرة بعض الانتقادات من عدة جهات عراقية.
ولما سبق فإن إقليم كردستان العراق بقيادة البرزاني وبحالة قوية ومدعومة إقليميًا يمكن أن تستفيد منه السعودية وتركيا في مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة؛ فالأكراد بشكل عام مصنفون ضمن المعسكر السني كما أن الحديث عن وجود علاقات إيرانية مع بقية الأحزاب الكردية بما فيها حزب العمال الكردستاني تجعل من ترسيخ العلاقة مع الطرف الكردي الأقوى ضرورة للرياض وأنقرة.
ومن زاوية أخرى فإن تركيا تنظر إلى العلاقة مع الإقليم كعلاقة معززة لرؤيتها الرافضة لوجود كيان كردي شمال سوريا بسبب الخلافات بين الإقليم وبين حزب العمال وحزب الاتحاد الكرستاني في سوريا وقد سبق أن سمحت بدخول قوات البشمركة إلى كوباني ورفضت تسليح التحالف الدولي لعناصر كردية أخرى.
كما تكمن أهمية الزيارة على مستوى الوضع الداخلي التركي في دعم برزاني لعملية السلام مع الأكراد في تركيا وحثهم على ذلك وربما استئناف عملية السلام من جديد أو على الأقل التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار، حيث تعد العلاقة بين أربيل وأنقرة مثالاً جيدًا ونموذجًا لعلاقات تركية كردية، وهي بهذه العلاقة تدحض الانتقادات التي تتهمها بالتعامل على أساس قومي تجاه الأكراد، ومن زاوية أخرى فإن برزاني يرفض ما يقوم به حزب العمال الكردستاني وبهذا يتفق مع أنقرة أيضًا ويعزز توجهاتها.
أما على صعيد النفط والغاز فإن تركيا تستورد النفط من الإقليم بأسعار جيدة وقد رفع معدل استيراد النفط إلى مليون برميل شهريًا ومع وجود احتياطات تقدر بـ 45 مليون متر مكعب من الغاز؛ فقد شرعت أنقرة التي وجدت ذلك فرصة لتنويع مصادر طاقتها منذ عدة أشهر في جهود التوصل لاتفاق تمديد الغاز، خاصة مع وجود أزمات مع الجهات التي ما زالت تعتمد عليها أنقرة في هذا القطاع مثل روسيا وإيران، وقد بدأت شركة بوتاش التركية بمد الأنابيب اللازمة لكنها كانت وما زالت تواجه بصعوبات من بغداد.
بالرغم من تعمده إظهار الحياد إلا أن الظاهر أن إقليم كردستان يسير في اتجاه التقارب مع مسار الفريق التركي السعودي القطري وأن قدرة هذا المحور على إقناع الإقليم بالمضي معه على قاعدة المكسب للجميع سيعد إضافة جيدة لهذا المحور وتبقى حدود التعاون هي المؤثرة في نتائج هذا التقارب.