وسط ضوضاء الانتفاضة، ومعمعان الطعن والجلاد، وأصوات قعقعة السلاح واستلال السكاكين، وعلى وقع التفحيط والتشفيط، والدهس والصدم والسحل، وصوت الارتطام وصرخات الفزع، ودوي طلقات المسدسات والبنادق الآلية، وعلى إيقاعات التهديد والوعيد، وصيحات الثأر والانتقام، والحساب والعقاب، ومن بين براثن الخوف والفزع، والذعر والقلق، وحالة الارتباك الكبيرة التي تسود الشارع الإسرائيلي كله، وظلال الخيبة والفشل التي تلاحق الجيش والأجهزة الأمنية، وحالة الوجوم والحيرة، والتردد والشك التي تحكم سلوك المستوطنين الإسرائيليين، الحائرين بين التطرف المقيت والخوف المميت مما ينتظرهم في النهار بعد أن أمنوا الليل، وسكنوا إلى ظلامه البهيم.
فجأة سكت الإسرائيليون جميعًا، وران عليهم صمتٌ كأنه الموت، وغشيهم وجومٌ كأنهم تماثيل من صخرٍ قد نحتت، فلا صوت ولا حراك، ولا تعقيب ولا تعليق، وحلقت على رؤوسهم طيور الشؤم من البوم والغربان، تحمل بين طياتها رسالةً غريبةً غير متوقعة، وأخبارًا غير مرحبٍ بها ولا سارة، فقد وصلتهم في وقتٍ عصيبٍ وظرفٍ دقيقٍ، حملها البريد في زمن الطعان ووقت النزال، حيث المعركة تستعر والحرب تدور رحاها، فكانت الرسالة كحمى القضاء وفاجعة البلاء، نزلت عليهم أشد مضاءً من السيف، وأحد من شفرة السكين، ولا قدرة لأحدٍ في كيانهم على صدها أو تحمل تبعاتها، فقد طعنت الجسد ووصلت إلى عمقه فمزقت الأحشاء، وتسببت في نزيفٍ لا يعرفون تضميده، ولا يحسنون علاج جرحه، فهو طعنٌ ليس كأي طعنٍ، ودهسٌ لا يشبه دهسًا آخر، فطعنته نجلاء، ودهسه سحقٌ للروح والنفس قبل العظام.
تلك كانت الرسالة التي بثتها المقاومة ونقلتها إلى الإسرائيليين على لسان جنديهم الأسير، فكان أن أصابت قلب الكيان، وهو آخر ما كان يتمناه في هذا الوقت، ودهست حكومة الأمن والتطرف واليمين المتشدد، وسحلتهم أرضًا بعد أن أخرستهم، فلم يحر رئيسهم ولا الناطق باسمهم جوابًا، ولم يستطع على ما سمع ردًا، وطال صمتهم الخبيث ولم يزل، فقد سحقت الرسالة بكلماتها أجسادهم، وسحلت بمفاجأتها برامجهم وخططهم، وما زالت تحصد مما قصدت وهدفت الكثير وتجني الأكثر.
حاولت الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية وقيادة أركان جيشها المعادي أن تلفلف القصة، وأن تنهي حكاية الرسالة، وأن تشيع بين مستوطنيها أنها ملفقة وغير حقيقية، وأنها زائفة وغير أصلية، فهي من صياغة المقاومة ومن كلمات آسريه، وليس فيها ما يثبت أنها بقلم شاؤول، وأنها من كتابته.
لكن عائلة الجندي الأسير لم تصدق كذب حكومتها، ولم تقبل بمبررات قادة جيش كيانها، وأصرت على أن تتعامل مع الرسالة على أنها حقيقية، وأنها فعلًا بلسان وقلم ابنها الأسير، فعقدت مؤتمرها الصحفي لتستكمل به طعن قلب الكيان، وتواصل دهس الحكومة الكسيحة، ولتعترف بانتصار المقاومة الفلسطينية على كيانهم من جديد، إذ انتصرت يوم أن قاتلت الجندي ووحدته العسكرية، وهي وحدة النخبة المختارة، وانتصرت يوم أن نجحت في أسره واقتياده إلى أماكنها السرية، وأخيرًا نجحت عندما أطلقت رسالته كطلقةٍ مدويةٍ، أصمت آذان حكومة العدو، وأخرست أجهزته الأمنية، وأبكمت وسائله الإعلامية التي لم تحر جوابًا ولم تستطع كلامًا، وهو ما عبر عنه المحلل العسكري الإسرائيلي يوسي ملمان عندما اعترف بانتصار المقاومة الفلسطينية على جيش كيانه من جديد.
يقول خبراء إسرائيليون إن الرسالة التي نسبتها المقاومة الفلسطينية إلى الرقيب في الجيش الإسرائيلي أورون شاؤول خطيرةٌ في توقيتها وزمانها، وهي متقنةٌ في صياغتها، ومنتقاة في كلماتها، ومحبوكةٌ في عباراتها، وقد أجاد المعنيون بالجندي الأسير توجيه الرسالة نحو أهدافهم المنتقاة بعناية، فأصابوا أكثر من هدفٍ وحققوا أكثر من نتيجة، ولا يبدو أن طلقات الرسالة قد انتهى مفعولها بانتهاء صوتها وإصابة هدفها، بل من المتوقع أن يتواصل صدى الرسالة وأن تتفاعل نتائجها، وقد تسبب للحكومة حرجًا وأزمةً بما لا تحمد عقباه.
الرسالة أيًا كانت حقيقتها وصدقيتها، فقد استخدمت مفرداتٍ مؤثرة، وكلماتٍ يصعب المرور عليها ببساطةٍ، فهي عاطفية إذ خاطب فيها والديه، واستحثهم على المطالبة بحريته، وحدثهم كأنه على مقربةٍ منهم، يسمع صوت تساقط المطر، لكنه يتمنى على والديه أن يرى المطر، وألا يكتفي بسماع صوت تساقطه، ويتابع مستجديًا قلب أمه الحنون، شاكيًا إليها البرد الشديد والشتاء القاسي، وكأنه يطلب منها الدفء، ويبحث عندها عن الحنان.
أيًا كانت حالة الجندي الإسرائيلي الأسير أورون شاؤول، ميتًا أو حيًا، جثةً كاملةً أو بقايا جسدٍ، فإنه في قبضة رجال المقاومة في قطاع غزة ورقةً رابحةً، يمكنهم المساومة عليها، والضغط بها للدخول في صفقةِ تبادلٍ جديدةٍ، تطلق سراح من بقي من الأسرى في السجون الإسرائيلية، وتعيد الحرية لمحرري صفقة وفاء الأحرار الذين غدر العدو بهم، ونكث اتفاقه معهم، وأعاد اعتقالهم من جديد.
كم كانت الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية في حاجةٍ إلى من يساندها في تشتيت شمل الإسرائيليين، وتمزيق صفهم، وشق وحدتهم، وخلخلة صفوفهم، وإرباك استعداداتهم، وتحويل تركيزهم إلى قضايا أخرى وملفاتٍ ثانية، وكم كانت في حاجةٍ إلى وقوف إخوانهم في قطاع غزة معهم، وهم الذين يعرفون توق أهل القطاع إلى المشاركة في الانتفاضة، وحبهم الشديد لخوض غمارها، والمساهمة فيها، ولكنهم كانوا يعذرون أهل غزة لبعدهم عنهم، وعدم قدرتهم على الوصول إليهم لتزويدهم بمددٍ أو عتادٍ، أو لمشاركتهم التظاهر والاحتجاج، أو لزيادة عددهم وتقوية جمعهم أثناء المواجهة وقذف العدو بالحجارة.
لكن غزة أرادت المشاركة بطريقةٍ أخرى مختلفة، ولعلها آخر ما كان يتوقعه العدو ويتمناه، وآخر ما كان يتحرز منه ويتوقاه، فقد جاءته هذه الضربة الجديدة، النفسية والمادية معًا، لتجبره على التوقف عن غيه، والامتناع عن اعتداءاته، والاستيقاظ من سكرة القوة والغطرسة التي يعيش، والتي جعلته يلجأ إلى القوة في مواجهة الشعب الفلسطيني، ظانًا أنه بقوته سيقهره وسيجبره على الخضوع والركوع، ولكن سهمه قد طاش، وأمله قد خاب، وجاءه سهمٌ من حيث لم يحتسب، وأصابه السهم حيث لا يستطيع المقاومة والصمود.