عندما تقرأ بعض الأخبار المتعلقة التي تأتي من دول تقع في الجوار الروسي كدولة بولندا ومن هذه الأخبار على سبيل المثال دخول المملكة السعودية لقائمة مصدري النفط إلى بولندا، ومن ثم إرسال دولة قطر لأولى شحناتها من الغاز المسال إلى بولندا بل ومساهمة قطر في تجهيز محطة استقبال الغاز في بولندا بعد سيطرة روسية في قطاع الطاقة استمرت لأعوام طويلة؛ فإنك تجد نفسك مضطرًا إلى تكرار النظر للخارطة لتتأكد هل الحديث يدور بالفعل عن بولندا التي احتضنت يومًا ما تأسيس حلف وارسو عام 1955 بقيادة الاتحاد السوفيتي.
صحيح أن العلاقات الروسية البولندية على المستوى السياسي سادها كثير من التأزم والتوتر بعد انتهاء الحرب الباردة وربما قبل ذلك أيضًا وحدثت أزمات طُرد فيها الدبلوماسيون الروس وفرضت موسكو عقوبات على استيراد اللحوم البولندية، ووقفت بولندا العضو في حلف الناتو كعقبة أمام مباحثات روسيا مع الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن طلب فرض عقوبات على روسيا، وفي 2014 منعت بولندا طائرة وزير الدفاع الروسي من المرور في الأجواء البولندية، وفي منتصف 2015 أزالت بولندا تمثال الجنرال السوفياتي إيفان شيرنياخوفسكي وأعلنت روسيا أن إزالة التمثال ستكون له “عواقب خطيرة على العلاقات الروسية – البولندية”.
ومع كل ما سبق كانت العلاقات على الصعيد الاقتصادي تسير بشكل متصاعد ووصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى أكثر من 25 مليار دولار، وكانت بولندا تستورد حوالي 95% من احتياجاتها من النفط والغاز من روسيا، لكن مع الأزمة في أوكرانيا تجلت بشكل واضح توجهات بولندا نحو تنويع مصادر طاقتها وتقليل الاعتماد على روسيا في هذا القطاع الحساس، بل إلى أكثر من ذلك حيث تحول الاستياء البولندي من عدم تحرك أوروبا الجدي لمنع توسعات بوتين الإمبريالية إلى التوجه للقيام بخطوات مواجهة مهمة في هذا المجال.
ولعل أحد المجالات التي يمكن السير فيها في هذا الإطار هو قطاع الطاقة كما ذكرنا، حيث يوجد صراع بين الدول المصدرة على الحصص السوقية خاصة في ظل انخفاض الأسعار، وفي ظل التنافس السياسي والخلاف بين رؤى كل من السعودية وقطر كمركزين للطاقة مع روسيا في ملفات حساسة مثل الملف السوري وغيره، فقد تلاقت الخطط البولندية مع الخليجية في ملف الطاقة.
ففي أكتوبر صدرت السعودية 100 ألف طن من النفط إلى بولندا وأرسلت أولى ناقلاتها بناء على طلب شركة النفط البولندية لوتوس، فيما أعلنت شركة التكرير البولندية أورلن عزمها البدء بتكرير النفط السعودي، وأمام هذا تحاول روسيا مضاعفة إنتاجها حتى تحمي حصتها السوقية من المنافسين، ويحاول الروس الذين جاء التوسع السعودي على حسابهم التشكيك في موثوقية واستمرار الإمدادات القادمة من شركة أرامكو السعودية إلى بولندا وذلك بسبب أن خام الأورال الروسي يشكل 90 إلى 95% من إجمالي النفط الذي تكرره شركة أورلن البولندية.
أما قطر فقد أعلنت قبل أيام في ديسمبر الحالي وصول أول شحنة من الغاز المسال وتقدر بـ 210 ألف متر مكعب من الغاز إلى محطة الاستقبال في بولندا فيما من المتوقع أن تصل الشحنة الثانية في فبراير القادم، وسيتضح في الأشهر القادمة إن كان هذا الأمر سيستمر مع شحنات جديدة أم لا.
وكما ذكرنا فإن التحدي الذي يقف أمام وصول النفط والغاز والذي تحاول روسيا التلويح به أمام الدول الأوروبية المستوردة هو مستقبل استمرارية هذه الإمدادات وخاصة في قطاع الغاز، ولعل أحد أبعاد التدخل العسكري الروسي في سوريا وزيادة التنسيق مع العراق يمكن قراءته في سياق وأد أي خطط للإمداد البري عبر تركيا، كما تحاول روسيا تخويف المستوردين من الممرات البحرية التي تمر منها الناقلات الخليجية عبر القول بأنها مناطق غير مستقرة قد تتعرض للتوقف.
وفيما يبدو أن هناك تنسيقًا لتحجيم الدور الروسي خاصة مع زيارة برزاني إلى الرياض؛ فقد قالت مصادر إن هنغاريا أيضًا زادت وارداتها النفطية من إقليم كردستان العراق بدلاً من الخام الروسي.
وينظر الروس إلى هذا التقدم الخليجي في قطاع النفط والغاز بخطورة؛ حيث إن نجاح هذه الدول بالوفاء بالتزاماتها للدول الأوروبية يغري دولاً أخرى بحيث تكون بولندا هي البداية، وفي ظل الأزمة مع تركيا فإن روسيا سيكون من الصعب جدًا عليها إيجاد أسواق بديلة، وفي ظل القيادة الحالية في روسيا والتي تميل إلى عدم الاعتراف بالضعف في مواجهة الأزمات وتسعى لحلها ولو بالطرق العنيفة وبالتهديدات بضرب المصالح فإن الأمور تتجه نحو التصعيد لكن الواضح بالتأكيد أن روسيا تخسر في ملف الطاقة.
لقد انتهى حلف وارسو منذ سنوات عديدة ولكن وارسو تنتقل يومًا بعد يوم من مربع التنغيص السياسي والعسكري على موسكو إلى مربع التنغيص الاقتصادي البترولي والغازي وبالتأكيد فإن قادة الكريملين ليسوا سعداءً بوصول دول الخليج إلى وارسو.