“خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح، علينا ألا نهدر الوقت بعد الآن”، هذا ما جاء على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 23 مارس العام الجاري بعد توقيع اتفاق مبادئ بناء سد النهضة الإثيوبي ضمّ الرئيس السوداني عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريام ديسالين خلال أول زيارة يقوم بها رئيس مصري بعد قطيعة دامت 30 عامًا، واتفق معه رئيس الوزراء الإثيوبي ديسالين عندما قال “إن التقدم الأهم الآن هو وجود إرادة سياسية والتزامًا من الجانبين للاحتفاظ بهذا الاندفاع، لن يكون هناك عودة للوراء”.
إلا أن الخطوة الإيجابية أصبحت سلبية بعد وصول المفاوضات لمستويات “حرجة” حسبما أفاد سفير مصر بإثيوبيا، والتقدم أصبح رجوعًا وينذر لعودة المفاوضات إلى طريق مسدود لا يبشر بخير لكلا الطرفين وذلك بعد الاجتماع الأخير في الخرطوم يوم السبت 12 ديسمبر الذي ضمّ وزراء الخارجية والري لكل من السودان ومصر وإثيوبيا وتقرر في ختامه استئناف المباحثات في 27 الشهر الجاري.
يبدو أنّ ملف المفاوضات وُجد من أجل التوالد، فمنذ الاجتماع الأول والملف يولّد اجتماعًا آخر حتى بلغ عدد الاجتماعات المعقودة زهاء العشرة، فإما أن هذه الاجتماعات أشبه بـ “حوار الطرشان”، حيث أضحى القرار السائد في المفاوضات هو قرار بتأجيل المفاوضات من أجل التفاوض، أو أن عدم تسويتها فيه قصد يقوم على أساس التأجيل حتى الانتهاء من بناء السد، فما إن يشهد الملف انفراجًا في المفاوضات حتى تعود الأزمة إلى البداية وكأن اجتماعًا لم يعقد وشيئًا لم يكن، والثابت في كل الاجتماعات أن بناء سد النهضة وغيره من السدود الإثيوبية يسير على قدم وساق كما هو مخطط له وفي أحيان أخرى أسرع من المخطط، حيث تم إنهاء أكثر من 40% من إجمالي البناء المقرر إنهاؤه بحلول عام 2017.
سد النهضة ومخاطره على مصر
يوجد على طول مجرى نهر النيل 7 سدود، إلا أن سد النهضة يعد أكبرها على الإطلاق حيث يبلغ ارتفاعه 145 مترًا وطوله حوالي 18 مترًا، وتقدر تكلفة إنشائه بحوالي 5 مليار دولار، يقطع السد مجرى النيل الأزرق – أكبر فروع النيل – حيث تبلغ سعتة التخزينية 74 مليار متر مكعب أي حوالي مرة ونصف من إجمالي سعة النيل الأزرق من المياه سنويًا، وتقدر القدرة المائية للسد على توليد الكهرباء بحوالي 6000- 7000 ميغاوات أي ما يعادل ثلاثة أضعاف الطاقة الكهربائية المولّدة من محطة سد أسوان الكهرومائية.
تتركز الأخطار المحدقة بمصر جراء بناء السد بعوامل فنية لعلّ أبرزها ما يلي:
1- انخفاض حصة مصر في مياه النيل 12 مليار متر مكعب سنويًا من أصل 55 مليار.
2- انخفاض الكهرباء المولّدة من السد العالي وخزان أسوان بحوالي 20-40% بحسب خبراء في مجال الميا؛ه ممّا سيعمق أزمة الكهرباء التي تعيشها مصر
3- انخفاض في نصيب المواطن المصري من المياه علمًا أنه يصل نصيب الفرد من الماء 650 متر مكعب سنويًا أي أقل من ثلثي المعدل العالمي 1000 متر مكعب للفرد.
4- بوار حوالي 200 ألف فدّان من الأراضي الزراعية وتشريد الفلاحين الذين يعملون في هذه الأراضي.
5- فقد 24% من الإنتاج الزراعي وزيادة الفجوة الغذائية في مصر.
6- حالة انهيار سد النهضة ستكون له نتائج كارثية على مصر والسودان وعلى السد العالي بشكل خاص.
7- تأثر الملاحة والسياحة على نهر النيل بشكل سلبي.
لذلك حددت مصر جملة من الارتكازات لا يمكن التنازل عنها أمام إثيوبيا في المفاوضات الدائرة بينهما ألا وهي:
– الحفاظ على حصة مصر التاريخية من مياه نهر النيل والمقدّرة بـ 55.5 مليار متر مكعب.
– ألا يُستخدم السد في أي أغراض غير تنموية أو اقتصادية.
– ألا تؤثر فترة ملئ حوض خلف السد على مصر وانسياب المياه إليها.
تاريخ سد النهضة
مرَّ تاريخ بناء سد النهضة بعدة مراحل شهدت فيها التهديد والوعيد ببناء السد تارة، والعدول عن ذلك تارة أخرى؛ ففكرة بناء سد النهضة جاءت في عام 1964 عندما حددت إثيوبيا 26 موقعًا لإنشاء السدود أهمها أربعة سدود على النيل من بينهم سد “الألفية أو الحدود” والذي سُمي فيما بعد بسد “النهضة” وقد أثبتت الدراسات في ذلك الوقت أن فكرة إنشاء السد تعترضها عَقبةٌ رئيسية أنَّ تربة إثيوبيا غير صالحة لإنشاء السدود وأن إنشاء السد سيشكلُ تهديدًا مائيًا على مصر.
ارتبط الموقف من إلغاء بناء السد بالصداقة الوثيقة التي ربطت بين الرئيسين جمال عبد الناصر والإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، ولكن سرعان ما انقلبت العلاقة للنقيض بعد بناء مصر “السد العالي” على النيل دون استشارة إثيوبيا الدولة المنبع فهددت بإنشاء سد إثيوبيا في ذاك الوقت.
ثم جاء الخلاف الثاني بين الرئيس السادات والرئيس منجستو؛ حيث أعلن السادات عن مشروع تحويل جزء من مياه النيل لري 35 ألف فدّان في سيناء وهو ما رفضته إثيوبيا وهددت بإنشاء السد وتحويل مجرى النهر عن مصر، فاعتبر السادات أن مياه النيل خط أحمر وقال في مؤتمر له عام 1979: “إذا كان هناك ما سيدفع مصر لخوض حرب جديدة فهي المياه”، مهددًا أنه “سيدمر السد بمجرد إنشائه”، وفي عهد الرئيس المخلوع مبارك شهدت العلاقات بين مصر وإثيوبيا بشكل خاص والدول الأفريقية على وجه العموم قطيعةً على إثر تعرّض الرئيس مبارك لمحاولة اغتيال أثناء حضوره القمة الأفرقية في أديس أبابا()، فأجمعت دول حوض النيل على بناء السد وزيادة حصصها المائية من النيل واقتدت دول الحوض بإثيوبيا وبدأت بإنشاء سدود لها على النيل؛ فخرج المشير المصري محمد عبد الحليم أبو غزالة معلنًا أنَّ “القوات المسلحة المصرية والجيش المصري سيوجّهان ضربة لأي مشاريع تضر بمصالح مصر في دول حوض النيل”.
أما في عهد الرئيس مرسي شهدت أزمة السد أوجها بحكم توقف عهد التهديد والوعيد بإنشاء السد وبداية بناء السد بالفعل وصدر موقف وحيد في ذلك الوقت بهذا الخصوص كان في الاجتماع مع قادة الأحزاب بحضور الرئيس مرسي خرج بنتيجة أنَّ السد لن يكون له أي تأثير على توليد مصر للكهرباء وأن هناك حلولًا أكيدة لتلك الأزمة مع الجانب الإثيوبي، علمًا أن السد تم البناء فيه بالفعل، حتى جاء السيسي الذي حاول فتح صفحة جديدة في هذه القضية فيما يخص العلاقات بين إثيوبيا ومصر من خلال لقاء القمة الذي جمعه مع رئيس الوزراء الإثيوبي على هامش القمة الأفريقية في شهر أغسطس من هذا العام.
طبيعة الخلاف وسيناريوهات مستقبلية
ماهيّة الخلاف من طرف مصر أنّ أديس أبابا تستمر في بناء السد بوتيرة أسرع من الدراسات الفنية المتعلقة به في ظل خلافات المكاتب الرئيسية (الفرنسية والهولندية) المعنية بالدراسات؛ فمن ناحية إثيوبيا عيّنت مكتبًا فرنسيًا لدراسة حيثيات المشروع علمًا أن المكتب يقف بجانب إثويبيا في نضالها لإنجاز السد بسبب المصالح التي تربط باريس بأديس أبابا في مجالات الكهرباء، في حين أنَّ المكتب الهولندي يتبنى وجهة نظر علمية رافضة لطبيعة الدراسات التي تفتقد الموضوعية وأن المدَّة الزمنية قصيرة وتهدد دقة الدراسة.
تحاول إثيوبيا وضع مصر تحت الأمر الواقع من خلال إنهاء البناء بسرعة حيث تعمد إلى إدارة الملف بشكل منفرد دون الاكتراث لنتيجة الدراسات الصادرة من الطرف المصري بشأن حدوث أي ضرر بحصة مصر المائية في حال الاستمرار ببناء السد، ومن جهة أخرى تستغل إثيوبيا الظروف التي تمر بها مصر في ظل تقلب الأوضاع السياسية وعدم رضا دول العالم على أداء حكومة السيسي وانتهاكاتها لحقوق الإنسان والأزمات التي تواجه الاقتصاد المصري بالعموم ما يقوّض الموقف المصري ويضعه بين سنداني الوفاء بالالتزامات الداخلية ومواجهة الخطر الإستراتيجي الخارجي القادم من إثيوبيا.
وقد يصل الموقف بين مصر وإثيوبيا في نهاية المفاوضات في حال عدم التوصل لتفاهمات ترضي الطرفين إلى نقطة “خنق إستراتيجية” يقودها ديسالين الذي يُصرُّ على استكمال بناء السد، مؤكدًا أن بلاده مستعدة لمواجهة كافة الاحتمالات والتبعات بما فيها المواجهة العسكرية، لما يعنيه السد من وضع مكانة إقليمية لإثيوبيا في مجال الطاقة من خلال تعزيز مكانتها الإقليمية في إنتاج الطاقة الكهرمائية، وبالفعل بدأت بتصدير الكهرباء لكل من السودان وجيبوتي وكينيا وجنوب السودان، وهذا أكده رئيس الوزراء ديسالين أنَّ إنتاج إثيوبيا للكهرباء ارتفع من ألفين ميغا وات إلى عشرة آلاف ميغا وات، ومن جهة أخرى موقف مصر التي لا تملك مرونة كافية في المفاوضات أو تقديم التنازلات لأن موقفها ضعيف وتصارع من أجل البقاء كما أكد وزير الخارجية المصري نبيل فهمي “قضية المياه بالنسبة لمصر هي قضية وجود” وأنه ” لايمكن إغفال عنصر الوقت في التعامل بجدية مع سد النهضة”وهذا ما يقودنا أن جوهر الأزمة القائمة بين البلدين بالدرجة الأولى هي “سياسية ذات أبعاد إستراتيجية” تُجسّد التنافس بين مشروعين إقليميين أحدهما مصري والآخر إثيوبي.
وتبعًا لما سبق فإن فشل المفاوضات في الجولة الجديدة المقررة في 27 ديسمبر سيضع مصر في جملة خيارات ستضطر لاعتماد أحدها، وضعها الخبراء من خلال ثلاثة سيناروهات في قراءةٍ لمستقبل المفاوضات بشأن سد النهضة الإثيوبي:
1- سحب اعتراف القاهرة به وتدويل القضية>
2- اعتماد خطة طريق جديدة والاستمرار في المفاوضات على أساسها.
3- اللجوء إلى عمل عسكري كحل أخير.