راج في المنطقة مؤخرًا حديث عن نهاية سايكس – بيكو التي وضعت ملامح الحدود السياسية لغالبية دول المنطقة قبل قرابة مائة عام خلت، والشروع في التأسيس لسايكس – بيكو جديدة، تبتغي تأسيس نظام إقليمي جديد بمنطقة الشرق الأوسط من قِبل القوى العظمى في زماننا عبر تقسيم دول عربية محورية على أسس عرقية ودينية وطائفية، مئة عام على اتفاقية تقاسم النفوذ في المنطقة من خلال اتفاقية سايكس بيكو التي ورثت خلالها الدول العظمى وخاصة فرنسا والمملكة المتحدة بعض أجزاء من تركة ما سُمي “الرجل المريض” إبان الحرب العالمية الأولى؛ فاقتسمت خريطة العالم العربي ووضعت حدوده وفقًا لمصالحها، وذلك في أعقاب مفاوضات سرية جرت بين نوفمبر من عام 1915 ومايو من عام 1916 بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس.
إن حدود سايكس – بيكو أصبحت هشة بشكل يُرثى له وعُرضة للانهيار الكلي بأية لحظة، فاليوم هناك شرق أوسط جديد بصدد التشكل بناءً على معطيات جديدة بين عواصم القرار الغربي والدور العربي الإقليمي مع القوى الإقليمية الفاعلة (تركيا وإيران) مع حقوق الأقليات محليًا وآبار النفط التي تُشكل تداخل الجغرافيا بالديمغرافيا، أي أن الحدود الجديدة لن تُرسم كحدود سايكس بيكو طبقًا لمصالح القوى العظمى فقط وبالمسطرة والقلم، بل طبقًا للحدود الديمغرافية للأقليات والخرائط النفطية وبالدم والأشلاء والصراع الجزئي على المصالح والنفوذ والثروات وبرغبات وميول حق تقرير المصير وأزمة الحقوق والديمقراطية وقيمها.
لا يمكن الحديث عن تَشكُل خرائط ووجه جديد للشرق الأوسط بالاعتماد على نظرية المؤامرة والفوضى الخلاقة وتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ والتباكي فقط، لأننا جزء من الحدث نتفاعل معه ونرصده ويعكس الحاجة الأمنية والاجتماعية والسياسية لتفاعلات المنطقة بين نظمها السلطوية التي تُسيطر عليها أقليات وصراعها مع الأكثريات، وانتظار تشكُل نظام دولي وإقليمي أقل صراعًا وتصادمًا بين مكوناته وقِواه وكتله.
لقد أصبح من المؤكد وبما لا يقبل الشك أن الدولتين (سوريا والعراق) المرشحتان الرئيسيتان في إعادة رسم حدودهما بعد أن وضعت داعش حدًا لحدود سايكس بيكو، ووضعت حدًا للثورة الشعبية ضد الظلم والطغيان في البلدين الجارين، وبنسب أقل لليبيا واليمن من حيث الترشح لتغير حدودهما، علمًا أن اجتماع المعارضة العراقية في مؤتمر الدوحة قبل شهرين قد أكد على بند مهم وهو التأكيد على وحدة العراق، كما أن اجتماع قوى المعارضة السورية في الرياض قبل أيام أكد أيضًا على وحدة سوريا، بمعنى أن تغير الحدود لا يعني سايكس بيكو جديد بل تغيير شكل الدولة وتطبيق الفيدراليات أو الكونفدراليات في أسوأ الحالات لكن بشكلها الإثني والطائفي بعد تمايز المنطقة بهويات غير وطنية فرعية.
إن المؤشرات التاريخية والسياسية والطموح الأمريكي يشيران إلى تشكُل شرق أوسط جديد ليس للمنافس الاستعماري التقليدي الفرنسي والبريطاني الدور الرئيسي فيه، رغم وجودهما كحليف، وإنما للدور الأمريكي الفعل الرئيسي؛ فهي غير راضية على الحدود السابقة لأنها لم تؤثر بصناعتها وصياغتها مباشرةً، فلو رجعنا مئة عام إلى الوراء وفي سياق الثورة العربية الكبرى 1916م بقيادة الشريف الحسين الذي كان يرغب بإنشاء خلافة إسلامية، لوجدنا أن التدخل الخارجي أفسد الثورة وغير مسارها باتفاقية التقسيم، فالثورات العربية ما أفسدها هو التدخل الدولي ضد داعش والتدخل الإيراني بالمليشيات وقوى الثورة المضادة الذي تُشكل “داعش” إحدى وجوهها وسينتج عنهم ما انتجته اتفاقية الحدود لكن بفروق متعددة وصور متنوعة منها:
التشابه
– قُبيل إنشاء وتأسيس الحدود الجديدة يكون هناك هزات سياسية وأمنية عنيفة وخطيرة، تستثمرها القوى العظمى وتُسيرها لصالح أهدافها أو ألا تتعارض مع طموحاتها على الأقل.
– هناك دول تتراجع قبضتها وسلطتها، وتتسرب السلطة داخل المجتمع بشكل كبير وبيد قوى سياسية واجتماعية ودينية قد تُشكل هوية سياسية مستقبلاً.
– يكون هناك اتفاق دولي أممي وإقليمي لبناء الوجه الجديد للمنطقة مع المصالح النفطية للشركات متعددة الجنسيات وخاصة الأمريكية في الفترة الراهنة.
الاختلاف
– رسم الحدود كان بالمسطرة والقلم بتوزيع وتقسيم لمناطق الاستعمار البريطاني والفرنسي، بينما الواقع السياسي والاجتماعي بعد تصدع المجتمعات وتمايزها طائفيًا مع تفكك الدول، قد أسس حدودًا طائفية وعرقية أضيق من سابقاتها وانتماءات غير وطنية وتداخلها مع الخرائط النفطية والثروات؛ مما يعني أن حدود الفيدراليات أو الكونفدراليات ستُرسم بالدم وطبقًا للخرائط الديمغرافية والنفط.
– السلطة في دول سايكس بيكو سلطة استبدادية غير شرعية سيطرت عن طريق الانقلابات العسكرية، بينما تقاسم السلطة في الفيدراليات الجديدة يشير إلى سلطات (ديمقراطية) مع نظم فيدرالية هجينة، لأن الفيدرالية أو الكونفدرالية وحتى اللامركزية ديمقراطية بالضرورة.
– الشكل الجديد للدول سيكون مُرضي للهويات الرئيسية، للخلاص من حالة الفوضى والظلم الواقع عليها مع عدم استقرار قد يطول لعقد من الزمن قبل أن يستقر ويثبت.
إن الفيدراليات والكونفدراليات واللامركزية الإدارية التي ستعيد تجميع العراق وسوريا ستكون بأشكال طائفية وعرقية، كردية وعلوية وسنية وشيعية، وستُصاغ بعقد اجتماعي جديد فيما بينهم لتؤسس لعلاقة جديدة وشكل جديد للدولة الهجينة، فهي الصيغة المُرضية لأمريكا وادعائها بنشر الديمقراطية بصيغة الفيدرالية الشبيهة بالفيدرالية الأمريكية والكومفدرالية الأوروبية التي شكلت الاتحاد الأوروبي، وهي مُرضية لإسرائيل أيضًا، لأن الهدف الإسرائيلي هو أن تتصارع وتتفاعل هذه الطوائف والأعراق وتبقى إسرائيل في مأمن، وتبقى هي المشروع العرقي الأكبر والأقوى والمهيمن في المنطقة لذا هناك علاقة بين تطرف “داعش” على الجميع وبين الهوية اليهودية والهويات الفرعية الأخرى، وهي تحاول رعايتها ودعمها وربما تتوصل الأطراف حتى لحل جزئي للقضية الفلسطينية بحل الدولتين لكنه لن ينجح على المستوى الإستراتيجي.
أخيرًا، إن وجود الكيان الصهيوني تلك الخلية السرطانية العفنة في المنطقة ككيان له سلطة بدون حدود مرسومة بل مفترضة، قد نقل العدوى إلى سوريا والعراق فأنشئت كيانات بهويات فرعية ترفض الآخر وتتعامل بشكل جدي مع جيرانها، فربما يكون العلاج الجزئي هو الفيدراليات وإعادة الاندماج والتعايش، لكنهُ لن يكون سهلاً أبدًا بوجود الكيان الصهيوني وقد يكون مستحيلاً ولا ينجح إلا بعد تحرير فلسطين.