في ذلك اليوم البارد من فصل الشتاء، كان الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي في قصره، آمنًا في سربه ومعافى في بدنه، جالسًا مع عائلته ومحتفلًا مع ابنه محمد زين العابدين بقرب دخول السنة الميلادية الجديدة.
ذلك اليوم هو 17 من شهر ديسمبر حيث كانت الأجواء في وزارة الداخلية التونسية وقتها ملائمة لممارسة الهواية المفضلة لبعض “الساديين” الحيوانيين والمتمثلة في تعذيب بعض المعتقلين المعارضين العلمانيين والإسلاميين من كل التوجهات.
كان هؤلاء الساديين يتفننون في ابتكار طرق تعذيب جديدة لصلاحياتهم الواسعة في كل ما له علاقة بالتعذيب، ولا عجب في ذلك فالتعذيب كان سياسة دولة ومن كان يعذب وقتها كان يحصل على امتيازات من الدولة التي توفر له كل احتياجاته حتى أنه يتفنن في احتساء ما لذ وطاب من كل أنواع الخمر والمخدرات والمهدئات وحبوب الهلوسة قبل الدخول على المعتقل أو السجين بلا رحمة ولا هوادة، فهؤلاء لا من جنس البشر ولا من جنس الحيوان ولو كان الجاحظ حيًا لما أدرجهم في موسوعته الضخمة “الحيوان” ولصنف من أجلهم مصنفًا آخر يذكر فيه عجائبهم وغرائبهم.
في ذلك اليوم المهيب، دخل الجلاد على ضحيته مرددًا ما قدر عليه ترديده من الشتائم المهينة وسب كل جامد ومتحرك، بل أنهم يتفننون في سب الله ويبتدعون محسنات بديعية جديدة لأجل أن يتناسب سب الله مع سب أم الضحية وأبيه وكل فرد من أفراد عائلته وصولاً إلى نسبه الأول دون أن ننسى بعض الصفعات واللكمات الجانبية من هنا ومن هناك.
كان هذا الجلاد المجهول إلى يومنا هذا يقضي أوقات فراغه في تعليق ضحاياه بطرق مختلفة، وبتعريتهم أمام زوجاتهم أو أخواتهم أو أمهاتهم أو أي فرد من أفراد عائلاتهم، بل أن الأمر يصل في بعض الأحيان إلى تعريته أمام موقوف آخر من نفس جنسه.
يبدأ هذا المجرم بممارسة جرائمه تحت مسمع ومرأى أصدقائه الذين يقهقهون بالضحك بأصواتهم البشعة والمرتفعة مما يبعث في نفسه شجاعة ورجولة منقطعة النظير ليزيد وقتها في سرعة جنونية في صلب وصعق وجلد ضحيته قبل أن يأخذ قسطًا من الراحة يشرب فيه بعض المشروبات المعدة خصيصًا لهذا الحفل المشهود من رفاقه واليوم الموعود على المعتقل أو السجين.
أثناء شرب هذه المشروبات “المباركة” يبدأ عدونا وعدو الإنسانية في التندر على هذا الضحية المسكين الذي لا جرم له إلا أنه كان من المواظبين على صلاة الصبح أو بسبب بعض الشعيرات التي نبتت له في لحيته غصبًا عنه، ولو أنه علم ما سيحصل له بسببها لسأل الله ألا تنبت له شعيرة في هذا الوجه الأبيض الذي يقابله ذلك الوجه الأسود.
أسباب الاعتقال كانت كثيرة وتافهة تفاهة بطانة الرئيس ومرتزقته ولن نطيل كثيرًا في ذكرها، فللمنظمات الحقوقية عشرات التقارير والبيانات الصادرة قبل 14 يناير وبعده والتي نقلت لنا الكثير من هذه الأسباب، كما ألف بعض المساجين السياسيين في فترة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وخلفه بن علي كتبًا وروايات تحدثت عن التعذيب وطرقه بالتفصيل الممل من خلال تجربتهم الشخصية.
نعود إلى عدو الإنسانية الذي كرمه نظام بن علي وأسند له امتيازات كبيرة ولا نستغرب أنه مازال يمارس هوايته المفضلة إلى يومنا هذا، حيث تفاجئنا بين الفينة والأخرى أخبار مفادها تعذيب بعض المعتقلين أو المشتبه بهم داخل مراكز الإيقاف أو داخل السجون دون أن ننسى أثناء التحقيقات الخاصة بملفات الإرهاب وفيما يتعلق بشبهة الانتماء إلى تنظيم إرهابي وحيازة كتب تكفيرية مثل كتب السيرة والفقه والعقيدة الإسلامية.
يسترجع هذا المجرم أنفاسه ثم يشعل سيجارة من النوع الفاخر لتدخينها ولكن وقبل أن ينتهي منها إذ به يطفئها في جسد ضحيته الذي يطلق صيحات متتالية تزيد من آلامه ومن نشوة جلاده الذي سرعان ما يستشير أصدقاءه قائلاً “ما رأيكم الآن هل ندخل الماعزة أم نقوم باستخدام الفانتا؟”، حينها لا يمكن للضحية إلا أن يصيح قائلاً “أنا من خططت لتفجيرات مدينة جربة و11 سبتمبر ولتفجيرات لندن ومدريد وأنا من شارك مع القاعدة في القتال في أفغانستان وفي العراق وكنت قد نويت أن انقلب على بن علي فأرجو منكم الرحمة وهاتوا فإني ممض ومبصم على كل ما تتهموني به”.
عندها ينفجر الجلاد ضاحكًا مستبشرًا؛ فالمهمة قد نجحت والموقوف أقر بأنه أخطر إرهابي في العالم عاد إلى تونس من أجل الانقلاب على “سيادة الرئيس”، ثم سرعان ما يخرج مع رفاقه من قبو وزارة الداخلية متعبًا من العمل الذي قام به ومعتزًا في الآن نفسه بحسه الوطني، وعند صعوده إلى الوزارة إذ به يسمع هلعًا داخل قاعة العمليات وعند استفساره عن السبب يجيبه أحد زملائه مرعوبًا: “لقد حرق شاب يبلغ من العمر 26 عامًا نفسه في محافظة سيدي بوزيد أمام الولاية، احتجاجًا على مصادرة السلطات البلدية لعربته التي كان يبيع عليها الخضر والغلال وهو ما تسبب في احتجاجات غاضبة من قِبل ساكني المدينة”، فجأة صُدم الجلاد بعد أن صَدم ضحيته وعذبه، وزلزل الرعب أركانه وعم الخوف أرجاءه، فانطلق مسرعًا إلى بيته مراقبًا ومتابعًا لما يحدث وما سيحدث.
لقد حدث ما لم يقع في الحسبان وبدأت الجموع الغاضبة تخرج للتظاهر في هذا اليوم المجيد 17 ديسمبر ليس نصرة للبوعزيزي بقدر ما هي نصرة للحرية وللكرامة البشرية والعيش الكريم الذي مُنعنا منه بسبب الديكتاتورية والعصى الغليظة التي كسرت لا رجعة، ويخطئ من يظن أنها ستعود بعد أن رأى نفسه عائدًا إلى البطش بشعبه والظلم لأهله.
إن سبب حرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي لم يحسم إلى يومنا هذا كما لم تحسم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في تونس، فبعض المصادر تقول إن عون التراتيب البلدية فادية حمدي قامت بصفعه وهو ما دفعه إلى الاحتجاج بهذه الطريقة، وبعض المصادر الأخرى تقول إن فادية لم تصفعه وإنما أحرق نفسه لأنه أحس بالظلم والقهر على خلفية تكرر حادثة حجز بضاعته وإتلافها.
17 ديسمبر تاريخ مفصلي في تونس على جميع المستويات، ولعل الجدل الذي كان داخل المجلس التأسيسي “البرلمان التونسي” لتأريخ يوم 17 كذكرى للثورة أثناء إعداد الدستور يوضح لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن الثورة التونسية الحقيقية بدأت انطلاقتها الفعلية يوم 17 بدون قائد، وليس البوعزيزي من كان قائدها وملهمها بقدر ما كان الظلم المسلط على التونسيين من قِبل السلطة وبطش الأجهزة الأمنية الدافع لأن يخرج أحرار محافظة سيدي بوزيد لإزالة هذا الظلم.