بعد أشهر من التوقعات جاء يوم الأربعاء ليُعلن المجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي) عن أول زيادة للفائدة الأمريكية بعد ما يقرب من عشر سنوات بمقدار ربع نقطة مئوية لتصبح الفائدة في نطاق بين 0.25% – 0.50% بعدما كانت في نطاق 0% – 0.25%، مؤكدًا تعافي أكبر اقتصاد في العالم من الأزمة المالية عام 2008، وبالرغم من أنها زيادة طفيفة إلا أن رفع الفائدة الأمريكية يؤثر على الاقتصاد العالمي والأسواق المالية بشكل متفاوت ونسبي، قرار لجنة السياسة النقدية بالمجلس الاحتياطي الاتحادي برفع سعر الفائدة جاء بإجماع أعضاء اللجنة التي رأت مايلي:
1- تحسنًا في وضع سوق العمل هذا العام وقوة الدولار في الـ 18 شهرًا الماضية عززت من فرص رفع الفائدة، وثقة المجلس أن معدل التضخم سيرتفع في المدى المتوسط إلى المستوى المستهدف 2%.
2- تشديد السياسة النقدية وعدم رفع سعر الفائدة بوتيرة متسارعة ولكن بشكل “تدريجي”، وتوقع أن يبلغ معدل الفائدة 1.4% بنهاية العام 2016.
3- توقع انخفاض معدل البطالة إلى 4.7% في العام المقبل وتسجيل نمو اقتصادي بمعدل 2.4%.
ما الذي حدث في السنوات الماضية؟
شكّل انخفاض معدل الفائدة الأمريكية في السنوات السبع الماضية وفرةً في الدولار في احتياطيات البنوك المركزية حول العالم، فبدأت تلك الأموال بالبحث عن مناخ استثماري يحقق لها عوائد ربحية عالية، فوجدت هذه الأموال طريقها إلى بيئات صاعدة اقتصاديًا تصارع في خضم الاقتصاد العالمي من أجل تحقيق معدلات نمو عالية ورفع مستوى اقتصادياتها ومن هذه البلدان تركيا والبرازيل وجنوب أفريقيا والمكسيك وكولومبيا التي اعتمدت في بناء وتنمية اقتصادياتها على جذب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار أثمرت أرباحًا للمستثمر ونموًا عامًا في البلاد.
إذًا فالسبب الرئيسي لقدوم تلك الأموال – الدولار – إلى المنطقة أو الاقتصاديات الناشئة باللغة الاقتصادية أنها هربت من معدلات فائدة منخفضة في أمريكا في العقد الماضي إلى بلدان ذات فائدة أعلى استطاعت جذبها بسبب ما تشهده من نمو مرتفع وازدهار اقتصادي لافت، وبالتالي إعلان رفع الفائدة الأمريكية البارحة يُقرأ على أنه بداية “دورة اقتصادية” جديدة في الاقتصاد الأمريكي الأكبر في العالم، وتبعًا لهيبة السياسة النقدية الأمريكية ولعملتها القوية التي تعكس اقتصادًا قويًا ونموًا عاليًا فإن معظم البلدان حول العالم ستلحق بأمريكا وترفع سعر الفائدة حتى تكون ضمن الدورة الاقتصادية الجديدة ولا تكون متأخرة عن الركب.
وعليه بدأت البنوك المركزية في الخليج العربي يوم أمس الأربعاء بعد إعلان رفع الفائدة الأمريكية برفع الفائدة عندها أيضًا؛ حيث رفعت مؤسسة النقد السعودية (البنك المركزي) معدل اتفاقيات إعادة الشراء المعاكس من 0.25% إلى 0.50% والكويت رفعت سعر الخصم من 2% إلى 2.25% والبحرين رفعت سعر الفائدة على الودائع لليلة واحدة من 0.25% إلى 0.5%، وتأتي هذه الخطوة من قِبل البنوك المركزية الخليجية لمعادلة أسعار الفوائد في أمريكا، فالمستثمر اليوم في البحرين مثلًا إما أن يأخذ سعر فائدة قريبة من الصفر على وديعة ليلة واحدة أو يودعها في أمريكا ويأخذ عليها فائدة قريبة من نصف بالمئة لذلك سارعت البحرين لمعادلة سعر فائدتها بسعر الفائدة الأمريكية.
يُعد التأثير الأكبر على أسواق السندات ذات العائد المرتفع مثل سندات الخزينة، حيث ستبدأ دورة الفائدة الأمريكية بالارتفاع تدريجياُ حتى تصل إلى 4% عام 2019 حسب وكالة بلممبيرغ مما ينعكس على أسواق السندات الأمريكية بالإيجاب ويجعلها جذابة للاستثمار؛ وهذا سيؤثر بالدرجة الأولى على الاستثمارات في أسواق السندات في الدول الناشئة مثل تركيا، وستضطر تركيا في هذه الحالة لمجاراة سعر الفائدة الأمريكية على الأقل للمحافظة على مستثمريها.
الجدير بالذكر أنّ المستثمرين تعلموا من الأزمة المالية العالمية التي بدأت شرارتها في الأسواق المالية الأمريكية عام 2008 في عدم زج كل استثماراتهم في السوق الأمريكية والوثوق بأسواق الرهن العقاري وأسواق السندات، وعليه فمن غير الوارد أن يصفّي المستثمرون مراكزهم الاستثمارية في البلدان الناشئة بعدما حققت نجاحًا ملحوظًا، فما يُقال اليوم عن تضرر سوق الاستثمارات في تركيا بعد رفع القائدة الأمريكية مبالغٌ فيه.
تأثر الاقتصاد التركي برفع سعر الفائدة
تركيا ليست خارج السرب ولا خارج المنظومة الاقتصادية العالمية، لذلك ستتأثر كغيرها من دول العالم؛ فالدولار عملة عالمية لها قبول تجاري عالمي حيث تسعّر فيها معظم السلع الرئيسية مثل النفط والغاز والذهب كما أن الدولار هو أحد العملات الاحتياطية في العالم التي تحتاط به البنوك المركزية ضد تقلبات عملاتها المحلية ولإبقاء سعر الصرف مستقرًا مقابل العملات الأجنبية، بالإضافة لما تحمله الولايات المتحدة الأمريكية من هيبة سياسية واقتصادية مفروضة على كل دول العالم.
كانت تركيا إحدى الدول الأكثر استفادةً عندما خفّض البنك المركزي الأمريكي أسعار الفائدة إلى ما يقارب الصفر؛ حيث تدفقت الاستثمارات الأجنبية بشكل هائل، وحقق الاقتصاد التركي على إثرها نموًا بنسبة 9% في عام 2010 و 2011. ورفع سعر الفائدة الأمريكية لمستويات عالية (نتكلم عن فائدة بين 2 و4 %) سيجعل تركيا تعاني من ارتفاع كلفة وارداتها بشكل ملحوظ وبحكم أن تركيا تستورد أكثر مما تصدّر سيرتفع العجز التجاري متأثرًا بهذه المقاربة علمًا أن العجز التجاري التركي بلغ في عام 2013 مبلغ 60.6 مليار دولار، حيث بلغت الواردات وقتها 225 مليار دولار والصادرات 164 مليار دولار.
حذّرت ستاندرد آند بورز من أن اعتماد القطاع المصرفي التركي على الاقتراض كثيراً على المدى القصير من الخارج وارتفاع سعر الفائدة سيرفع من تكلفة تلك القروض، كما أن تكلفة خدمة الديون الخارجية على المدى القصير الذي يبلغ حوالي 125 مليار دولار أو ما يقرب من 8% من الناتج المحلي الإجمالي سيرتفع أيضًا مع تحسن قيمة الدولار، وستضطر تركيا لدفع ليرات أكثر مما كانت تدفعه سابقًا للحصول على الدولار، أضف إلى ذلك أنّ تركيا تستورد 90% من احتياجاتها من النفط والغاز وفي حال تحسن قيمة الدولار فإن فاتورة واردات الطاقة ستزيد بشكل دراماتيكي، يجدر الذكر هنا أن الاحتياطي التركي من القطع الأجنبي يُقدر ب 103 مليار دولار وهو يكفي لسد واردات البلاد لخمسة أشهر فقط.
من غير المتوقع أن تشهد أسواق الاقتصاديات الناشئة تخارجًا من استثماراتها على المدى القريب وذلك لأن معدل الفائدة ارتفع بمقدار قليل (ربع بالمئة)، ثم إن المستثمر اليوم ينظر إلى البنية التحتية للاقتصاد في البلد الذي سيستثمر فيه من حيث قوانين الاستثمار وجاذبيتها والاستقلالية المصرفية وحريتها وقوة العملة المحلية ومرونتها في الحركة، والأخطار الجيوسياسية التي تحيط في البلد المستثمر، فهذه كلها عوامل تهم المستثمر بالدرجة الأولى على المدى القريب أكثر من أي شيء آخر والمطلوب من اقتصاديات البلدان الناشئة اليوم مثل تركيا والإمارات والسعودية وغيرها هو العمل على البنية التحتية للاستثمارات بحيث تكون بلدانهم جاذبة للاستثمار أكثر.
ختامًا على تركيا اليوم الاهتمام بالقاعدة الإنتاجية أكثر والمحاولة لضخ استثمارات في منتجات تستوردها من الخارج للتقليل من فجوة العجز التجاري ومن ثم التفكير مليًا بخفض قيمة الليرة التركية إلى أربع ليرات مثلاً من أجل تعزيز صادراتها بخفض تكلفتها للبلدان المستوردة لها، بالإضافة إلى تنويع مصادر دخلها من الطاقة والعمل على مشاريع الطاقة البديلة لتخفيض استيراد الطاقة من الخارج، وتشجيع الاستثمارات الوطنية عوضًا عن الاستثمارات الأجنبية من خلال منح القروض الميسرة وبناء الأرضية الاستثمارية التي تحفز المواطنين على الإنتاج والاستثمار، وأخيرًا وليس آخرًا التخفيف من حدّة الأخطار الجيوسياسية في البلاد ما أمكن كخوض الحروب والدخول في منازعات مع دول أخرى لأنها تجعل المستثمر يُصفّر استثماره ويرحل برأس ماله بسبب المخاطر التي تحيق بالبلد.