خمس سنوات من القطيعة بين دولة تركيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي نتيجة هجوم البحرية الإسرائيلية على سفينة تركية كانت تُقلّ مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة عام 2010، مما أوقع قتلى وجرحى بين ركاب السفينة.
منذ ذلك الحين تصاعدت حدة التوترات بين تركيا وإسرائيل، واتخذت إجراءات عقابية من قبل الطرفين لبعضهما البعض، إذ قام الأتراك باستدعاء سفيرهم من تل أبيب، ومنعت طائرات عسكرية إسرائيلية من استخدام المجال الجوي التركي، وردت إسرائيل بتحذير لمواطنيها من السفر إلى إسرائيل.
ظلت لهجة الخطاب بين الحكومتين محتدة في كافة المناسبات والأحداث حتى وقت قريب، إلى أن قطعت الصحافة العبرية منذ أيام هذا الخط من التوتر المحموم بين تركيا و دولة الحتلال الإسرائيلي بإعلانها أن الطرفين على مقربة من إتمام اتفاق يقضي بإعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها.
ووفق المصادر الإسرائيلية فإن هذا الاتفاق ستعمل من خلاله إسرائيل على إزالة السبب الرئيسي فيما آلت إليه الأوضاع بين الحكومة التركية والإسرائيلية، وهو حادث الإعتداء على السفينة التركية “مافي مرمرة”، حيث ستقوم إسرائيل بدفع تعويضات مالية لعائلات القتلى والجرحى في ذلك الهجوم، وفي المقابل ستعمل تركيا على إسقاط الدعاوى القضائية ضد المسؤولين الإسرائيليين المتهمين في الحادث.
الصحافة الإسرائيلية تحدثت أن هذا الاتفاق تم خلال عدة لقاءات سرية بسويسرا، أنتجت هذا الاتفاق الذي تضمن عدة بنود من بينها تضمن إلزام إسرائيل بدفع التعويضات، بالإضافة لتبادل الوفود الدبلوماسية بين الدولتين مجددًا، مع بدء محادثات اقتصادية ستبدأ حول قضية تصدير الغاز إلى تركيا بعد سريان الاتفاق.
في بداية تدوال الأمر من جهة الإسرائيلين عم الصمت على موقف أنقرة من هذه الأنباء، حتى كسر الموقف الرسمي التركي هذا الصمت بتصريحات عدة مسؤولين حول قضية عودة العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، منها أكد تصريحات وزير الطاقة التركي، بيرات البيراق، عنعودة العلاقات مع إسرائيل لوضعها الطبيعي التي رهنها بتحقيق 3 شروط تم طرحها سابقًا على الجانب الإسرائيلي.
وقد أكدت مصادر دبلوماسية تركية لوكالة الأناضول أن هذه محادثات من أجل تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل تمت بالفعل، كما أن العمل متواصل حتى الآن من أجل الوصول إلى نتائج بهذا الاتجاه في وقت قريب.
فيما تأتي التصريحات السابقة متناسقة مع تصريحات وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” الذي صرح في وقت سابق بأن شروط تركيا الثلاثة من أجل استعادة العلاقات مع إسرائيل واضحة وتتلخص في: تقديم الجانب الإسرائيلي الاعتذار، وتعويض أسر ضخايا السفينة التركية، ورفع الحصارعن قطاع غزة.
هذه الشروط الثلاثة لم تتغير من قبل الجانب التركي منذ وقوع الحادث، لكن الجانب الإسرائيلي كان لديه تحفظ دائم على الشرط الثالث، متهمًا الجانب التركي بتوطيد العلاقة مع حركة حماس، وهو ما أدى إلى فشل محاولات التفاوض السابقة بين الأتراك والإسرائيليين.
كانت إحدى هذه المحاولات لإصلاح العلاقة بين الجانبين بقيادة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي رتب اتصال هاتفي في العام 2013 بين رئيس الوزراء التركي آنذاك والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو توسط فيه الرئيس الأميركي من أجل إعادة العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وإسرائيل، لكن هذه الوساطة لم تسفر عن شئ.
ربما كان لدى الطرف التركي موقفًا أكثر تصلبًا في السابق على مدار الفترات الماضية أما الآن، فيبدو بفعل الظروف المحيطة والمستجدات سوف يخفف من هذا التصلب تجاه الكيان الصهيوني، فشرط رفع الحصار عن غزة ربما يُخفف إلى عملية تحسين لظروف القطاع والسماح بجزء من إعادة الإعمار بدلًا من شرط رفع الحصار بالكامل.
هذه الظروف والمستجدات التي لها أكثر من بُعد تعد دافعًا لدى الأتراك لإتمام مثل هذا الاتفاق لعل أبرزها الضغط التجاري الهائل الذي تمثله بعض الشركات على الحكومة التركية من أجل إنهاء هذه الأزمة مع الإسرائيليين حتى تُستأنف العلاقات بين الطرفين بصورتها الطبيعية السابقة، ولو أن العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل كانت أقل المحاور تضررًا منذ بداية الأزمة.
ومن الأدلة التي تؤكد أن البعد الاقتصادي في هذه المفاوضات كان حاضرًا وبقوة أيضًا، تحمس الأتراك لاستيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل عن طريق مد خطوط من الشواطئ الإسرائيلية إلى تركيا، ولعل الأتراك رأوا في هذا الأمر بديلًا مقترحًا لحل أزمة الغاز التي تسببت فيها تطورات الوضع مع الروس بعد إسقاط المقاتلة اروسية التي اقتحمت الأجواء التركية.
على الصعيد السياسي يمكن القول بأن إسرائيل هي الأخرى استغلت الموقف لإملاء بعض الشروط على الطرف التركي بحسب مصادر عبرية، كان أهمها قضية الحد من الانفتاح التركي على حركة حماس، حيث طالبت إسرائيل بعدم السماح لأعضاء حركة حماس المطلوبين لديها من التواجد على الأراضي التركية.
ومن هذه الأسماء المتدوالة اسم صالح العاروري الذي تتهمه إسرائيل بأنه المسؤول الأول عن حادثة خطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم كما يُعتبر العاروري أحد مهندسي صفقة الجندي جلعاد شاليط.
قبول تركيا بمثل هذا الاتفاق كان له إرهاصات أولية ومؤشرات تؤكد ذلك، منها تصريحات صحفية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي أكد فيها: “إن المنطقة بأسرها تحتاج التطبيع مع إسرائيل”، وقد وضح الموقف التركي من ذلك بقوله: إن هناك عقبات أمام عودة العلاقات مع تل أبيب، أبرزها كان دفع التعويضات لضحايا أسطول الحرية ورفع الحصار عن قطاع غزة، وربما قد تم تسوية هذه العقبات في اللقاءات التي عُقدت مؤخرًا بين الجانبين.
كانت آخر هذه اللقاءات المعلنة في شهر يونيو الماضي، حينما اجتمع مدير عام وزارة خارجية إسرائيل “دوري غولد”، مع نظيره التركي “فريدون سينيرلي اوغلو” في روما، تلاها عدة لقاءات سرية بين ممثلين للخارجية الإسرائيلية وآخرين من الطرف التركي.
يرى بعض المراقبين أن الدوافع التركية للقبول بمثل هذا الاتفاق تأتي في إطار سياسة تهدئة الأجواء من حولها بعد عدة تصعيدات في السياسة الخارجية، يبدو وأنها كانت على عكس رغبة القيادة التركية، منها قضية المقاتلة الروسية، ومنها بعض الموقف المتعلقة بقضايا الشرق الأوسط عمومًا، تتجه تركيا لأن تبدي بعض المرونة تجاهها على عكس المواقف السابقة، من بينها ملف قطاع غزة والعلاقة مع حركة حماس.
وقد رجحت المصادر الإسرائيلية أن تركيا ستتخذ إجراءات ضد نشاط الحركة في اسطنبول على رأسها طرد صالح العاروري من تركيا، بعد التحركات الروسية الأخيرة التي تحاول اتهام أنقرة بدعم الإرهاب، لا سيما وأن واشنطن قد طلبت بالفعل من السلطات التركية توضيحًا بشأن نشاط العاروري وحركة حماس في تركيا.
وردًا على هذا الأمر، أكدت قيادات حمساوية أنه من المفترض أن يتوجه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل إلى تركيا، لبحث الإجراءات التركية الأخيرة مع المسؤولين الأتراك المتعلقة بالحركة وأعضائها.
يتزامن هذا مع دخول تركيا في المراحل المتقدمة من مفاوضات الإنضمام للاتحاد الأوربي، التي يرى جناح داخل أجهزة الدولة التركية، أنها تتطلب مزيدًا من المرونة في السياسة الخارجية التركية لتسهيل عملية الانضمام إلى الاتحاد.
وجهت انتقادات لاذعة للقيادة السياسية التركية بعد الإعلان في الصحافة عن هذا الاتفاق المزمع مع الكيان الإسرائيلي، وهو الأمر الذي خرجت وزارة الخارجية التركية للرد عليها بقولها: أن المحادثات الثنائية لا تزال متواصلة.
ويُفهم هذا الموقف التركي بالطبع في إطار سياسة برجماتية بحتة، تلك التي يقودها جناح كبير داخل الحزب الحاكم في تركيا “العدالة والتنمية”، هذا الجناح الذي ترددت عملية ضغطه على الرئيس التركي لإثنائه عن التشدد في مسائل السياسة الخارجية، بعدما رأوا تضرر المصالح التركية من القطيعة مع الجانب الإسرائيلي.
ويظل تنفيذ هذا الاتفاق أيضًا مرهون بمدى جدية الإسرائيليين في تنفيذ التعهدات في هذا الاتفاق، خاصة فيما يتعلق بجزئية قطاع غزة، وتعويضات الضحايا الأتراك.