تُقبل مصر، دولة وشعبًا وقوى سياسية واجتماعية، على الذكرى الخامسة لثورة الخامس والعشرين من يناير، ولئن كان هناك ملمح رئيسي لهذه الذكرى فإنه سوف يكون بامتياز، الأزمة الراهنة على مستوى جماعة الإخوان المسلمين، التي تُعتبر في حقيقة الأمر آخر القوى العاملة على الأرض من أجل استعادة الثورة المصرية والشرعية التي أفرزتها.
هذا الملمح لا يُعتبر منفردًا، حيث إنه بارتباطاته ودلالاته يُعتبر رمزًا مهمًّا لواقع كامل يتجاوز الإخوان المسلمين والثورة المصرية وربما يتجاوز حدود مصر ذاتها، إلى مشهد إقليمي ودولي متكامل.
فلا تنفصم أزمة الإخوان المسلمين الحالية عن الأوضاع التي صاحبت انقلاب الثالث من يوليو 2013م، بكل ما يحتويه من معان وأحداث سبقته أو رافقته أو تلته بطبيعة الحال، فيما يتعلق بمساعي الدولة المصرية العميقة لامتصاص ثورة الخامس والعشرين من يناير والارتداد عليها واستعادة مواقعها السابقة.
هذا السلوك من جانب الدولة العميقة في مصر، بدوره، لا ينفصل عن مخطط متكامل على المستوى الإقليمي، تشاركت فيه قوى كبرى من أجل إما إجهاض ثورات الربيع العربي، أو توجيه الفوضى التي ترافق عادة مثل هذه النوعية من الحراكات الشعبية لتحقيق مصالح معينة لهذه القوى، في ظل عدم قبول أنظمة الفساد والاستبداد التي تم الثورة عليها والتحرُّك لاقتلاعها، بالرحيل بسهولة، فكان ما كان في ليبيا واليمن من تقسيم للدولة، والفوضى التي تم افتعالها في مصر واستغلَّت للإطاحة بالدكتور محمد مرسي، وتدمير سوريا، وغير ذلك من الظواهر التي نراها في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم العربي.
وقاد ذلك الإجهاض وذلك التوجيه للفوضى، إلى عواقب وخيمة على الدول – بالمعنى الجيوساسي وليس بالمعنى المؤسسي فحسب – وعلى المجتمعات؛ حيث تم تدمير البُنى التحتية والعمران بشكل شبه كامل في سوريا وجزئيًّا في ليبيا واليمن، وتعرقلت خطط التنمية والنهضة التي كانت تريدها الشعوب الثائرة في مصر وتونس وفي غيرها من بقاع المنطقة، بعد إعادة توجيه الأولويات والموارد من أجل مكافحة ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح “ظاهرة الإرهاب المنظَّم” العابر للمذاهب، فتارة هو شيعي في حالة الحوثيين في اليمن، وتارة هو سني في حالة “داعش”، وهي بدورها ظواهر “مُدبَّرة” من أطراف إقليمية ودولية عدة.
تباين المواقف والخلاف الذي وصل إلى مستوى “الاقتتال” الإعلامي كما ظهر في الآونة الأخيرة بين ما اصطلح إعلاميًّا على تسميته بالجناح الثوري داخل جماعة الإخوان المسلمين، والجناح التقليدي الذي فسر البعض سلوكه على أنه يسعى إلى تسوية مع النظام في مصر، قاد إلى حالة يمكن أن نطلق عليها “الاسترخاء الثوري” في الشارع المصري.
فتحالف دعم الشرعية ورفض الانقلاب الذي تقوده جماعة الإخوان المسلمين، منذ فترة قد شهد العديد من التصدعات والانسحابات، بسبب نفس المشكلة القائمة الآن على مستوى الجماعة نفسها، وهو الخلاف على الآليات والأهداف؛ حيث لم تتم الإجابة على أسئلة عدة مهمة على غرار: هل يتم تسليح الثورة؟ هل الهدف عودة مرسي أم الأَوْلَى استعادة الثورة والبدء من جديد في مرحلة انتقالية تتفادى أخطاء سابقتها التي تلت ثورة يناير؟ هل هناك مجال لتسوية مع النظام تفاديًا لفوضى تطيح بكل شيء؟
رافق ذلك العديد من الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها القوى الثورية، خصوصًا الموجودة في الخارج، ومن بينها إعلان الخلافات على الملأ، وعدم فاعلية الحِراك، في مقابل تقدم النظام في تنفيذ خططه وكسْب تحالفات جديدة ووضْع بقائه في إطار منظومة مصالح أمنية وسياسية لقوى إقليمية ودولية عدة، مع تنفيذ مجموعة من الإجراءات على المستوى الداخلي جعلته خيار الحد الأدنى لدى الناس بديلاً عن خيار الفوضى الذي أقنع الجميع بأنه سوف يكون هو البديل حال حدوث ثورة جديد.
في المقابل؛ لم تُبد الأطر الثورية العاملة في الخارج والداخل أي قابلية لتقديم صورة موحدة لها وبرنامج واضح لإدارة الصراع مع الدولة العميقة وكيف ستتجاوز عقبة تغوُّل المؤسسة العسكرية في مفاصل الجهاز الإداري والأمني والسياسي للدولة وسيطرتها على جانب معتبر من الاقتصاد القومي، وكيف ستدير المرحلة الانتقالية، وفق برنامج محدد وواقعي واضح أمام الناس.
وهكذا سارت الأمور، حتى فقد الحراك الثوري لزخمه في الشارع، فالمواطن حتى المتعاطف منه مع أهداف القوى الثورية والمنتمي لثورة يناير وخرج إلى الشوارع خلال أيامها وما بعدها وحتى ما بعد الانقلاب وفض اعتصامَي رابعة والنهضة، وجد نفسه أمام خيارات محدودة للغاية وبدائل غير واقعية تطرحها عليه القوى الثورية.
وتزداد وطأة هذه المشكلة، في ظل أن كثيرين داخل الصف الثوري المصري من غير الإخوان، يرفضون مبدأ يصر عليه الإخوان لتحقيق الاصطفاف الوطني وتوحيد القوى الثورية في جبهة واحدة تكون طليعة تقود الجموع مرة أخرى، وهو مبدأ عودة الدكتور محمد مرسي؛ فالمشكلة ليست في شخص مرسي لديهم وإنما لأنهم يرفضون شرعيته، باعتبار أنه قد جاء وفق ترتيبات عملية سياسية هم يرفضونها منذ البداية، لأنها تضمنت المجلس العسكري في منظومة إدارة المرحلة الانتقالية، وهو خطأ وقع فيه الإخوان في حينه، وربما هو السبب فيما هو قائم الآن من أزمات، حيث كان من المفترض أن يتم البناء على أسس جديدة لا تتضمن أي مكون من مكونات الدولة القديمة ونظام مبارك.
في أكتوبر الماضي، أصدر مركز “كارنيجي” الأمريكي، المعروف بعلاقاته وارتباطاته بأجهزة الأمن القومي والمعلومات الأمريكية تقدير موقف بعنوان “التمرد الإسلامي”، عكس فيه بعض جوانب هذه الصورة، وخلص إلى أن المصالحة مع النظام هو البديل الأوفق أمام الإخوان والقوى الإسلامية والثورية بشكل عام، بسبب هذا الواقع المؤلم الذي آلت إليه قيمة الثورة ذاتها لدى المصريين؛ حيث لسان حال الكثيرين يقول: الفساد والاستبداد ولا الفوضى، في ظل وطأة تأثير ما يجري في سوريا، وفشل بديل العنف في الجزائر من قبل، على نفوس وعقول الكثيرين.
التقرير المشار إليه قال بالحرف إنه يجب على جماعة الإخوان المسلمين “أن تتصالح مع واقع النظام السياسي في مرحلة ما بعد مرسي، والاعتراف بالتهوّر في تحميل الحكومة المسؤولية الكاملة عن اللجوء إلى العنف ومأزق الإخوان الحالي”، وزاد التقرير بالقول، إن على جماعة الإخوان أن “تكبح جماح المحرِّضين الداخليين ورفض الاستماع إلى الأصوات المتطرفة، وبدلاً من انتظار وقوع انقلاب مضاد (داخلي في النظام نفسه) أو حصول مواجهة دموية لتسوية حساباتها مع النظام، يجب أن تسعى الجماعة للتوصل إلى تسوية معه”.
ثم أشار التقرير إلى نقطة مهمة تتعلق بموقف الغرب في هذا الإطار، وهو موقف حاكم للجميع، حتى للنظام، وثبت من خلال التطورات التي حصلت في الآونة الأخيرة في الإقليم، قدرة واشنطن على التأثير في مجريات الأحداث بشكل كبير، فيقول التقرير إنه ينبغي على الوسطاء الغربيين الذين لا يزالون على قدر من التواصل مع قيادة الإخوان المسلمين، تعزيز خيار التسوية، وهو ما يعني رفض أمريكي وغربي كامل لفوضى مدمرة في مصر على نفس النسق الذي تم في سوريا، ويبدو ذلك الموقف الغربي في إلزام الرياض والمعارضة السورية بتغيير مواقفها المبدئية من مسألة رحيل الرئيس السوري بشار الأسد قبل بدء العملية الانتقالية وضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، وإلزام الفرقاء الليبيين على توقيع اتفاق الصخيرات حتى من دون أي تفاصيل، بعد الدور الوظيفي الذي لعبته التنظيمات الإرهابية في تخويف الجميع، وبالتالي مساعدة من يريدون تصفية الثورات العربية، في مساعيهم هذه.
ويقول التقرير في ذلك إنه يمكن للقيادة العليا للجماعة، باعتبار أنها الأقدر والوحيدة الباقية على مبدأ استعادة الثورة “استغلال ثقلها ومعرفتها بالتنظيم ومصادر تمويله لمواجهة صعود المجموعة الثورية”.
وحذر التقرير الإخوان صراحةً من المضي قُدُمًا في مواجهة مع النظام، وهو ما يعني نسف أي إمكانية لثورة جديدة، يدعمها الغرب سياسيًّا من خلال الاعتراف بها، على عكس ما تم في يناير 2011م، فيقول: “وبقدر ما يبدو التوصل إلى تسوية سياسية أمرًا مستبعدًا اليوم؛ فقد يكون مستحيلاً لعشرات السنين إذا ما انتصر الفصيل الذي يسعى إلى المواجهة في جماعة الإخوان”.
في المقابل، استغل النظام هذا الوضع الذي كان هو أحد عوامل خلقه عمدًا، وهو ذكاء سياسي يُحسب له وللدولة وأجهزتها؛ حيث شنوا حملة تخويف واسعة النطاق لدى المواطنين لتشويه الثورة وتحذيرهم من الفوضى، في مقابل تحقيق بعض الأولويات لديهم، مثل منظومة الخبز وحل أزمة الكهرباء واستتباب الأمن والنظام، واستكمال خطة “خارطة المستقبل” التي طرحها النظام عند الانقلاب.
على المستوى الخارجي وكما سبق القول، فإن النظام وضع نفسه وبقاءَه في منظومة إقليمية ودولية تحقق مصالح مهمة للدول الكبرى، مما قاد لموقف أمريكي معاكس من أي ثورة جديدة في مصر، بخلاف الموقف من ثورة يناير.
وفي الأخير، تبقى الإشارة إلى أن هناك دلالة رمزية مهمة للهدوء الذي مرت به ذكرى ثورة الياسمين في تونس، حيث لا يختلف الحال هناك كثيرًا، حتى الدعم الدولي للمنظومة الجديدة التي جاءت بعد انقلابات ناعمة عدة على حكومة النهضة الإسلامية، أوصلت نائب زين العابدين بن علي، الرئيس الحالي، الباجي قايد السبسي، إلى الحكم، في ظل سيطرة هاجس الفوضى والإرهاب على الجميع.
ولعله ليس من قبيل المبالغة، أن بذور هذا الذي يحدث، قد تم بذره في فبراير ومارس 2011م، بعد تنحي مبارك، بعد أن تم تسليم الثورة إلى دولته مجددًا، وهو ما يعطي بعض العذر للقوى الرافضة للاصطفاف مع الإخوان المسلمين مجددًا، خصوصًا وأن الإخوان منقسمون على أنفسهم، بينما هناك أطراف إسلامية أخرى تحكم شريحة لا بأس بها من الشارع الإسلامي وهم السلفيون، موالون للنظام، ويدعمون العملية السياسية التي يقودها بالكامل، من خلال الدعوة السلفية في الإسكندرية وحزب النور.
في المقابل، قادت السياسات الإعلامية الخاطئة لبعض الأطراف المحسوبة على تحالف دعم الشرعية، إلى تخلي حزب الوسط والجبهة السلفية والجماعة الإسلامية، عن التحالف، فظل الإخوان المسلمون يغردون وحيدين فيه، حتى جاءت الأزمة الأخيرة، لكي تطيح بأي أمل لأن تكون الذكرى الخامسة لثورة يناير، بمثابة إعادة إحياء وبعث للثورة المصرية والعربية!