كثيرة هي صولات حزب النهضة التونسي وجولاته حتى لا نكاد نحصرها في هذا المجال الضيق، إذ وصل بعض المراقبين إلى حد تسميته بحزب “المتخلين”، تنويهًا وتنديدًا بالتراجعات والمراجعات التي ما فتئ كبير الحزب – راشد الغنوشي – يقوم بها تمحكًا على عتبات هذا وإرضاءً لذاك تحت يافطة “الحفاظ على الأمن القومي”، “الحفاظ على السلم الاجتماعي”، و”الوحدة الشعبية”، متناسيًا بأن خصومه الأيديولوجيين هم من جنس الذين يُرضون بأفواههم وتأبى قلوبهم.
مؤخرًا صرح الشيخ راشد الغنوشي في أحد لقاءاته الإعلامية بأن المناضل التاريخي وأحد زعماء التحرير التونسيين الكبار عبد العزيز الثعالبي هو جد لهم (ويقصد أعضاء حركة النهضة) وأن حركتهم هي امتداد فكري ومعنوي لما كان يبشر به هذا الشيخ، ليُلاقى كلامه برد لم يتأخر كثيرًا من حافظ قائد السبسي ابن رئيس الدولة وأحد “صقور” حزب النداء الحاكم منذ سنة تقريبًا، حيث جاء فيه أن الثعالبي هو جد الحركتين المشترك أو هو جد حركة نداء تونس بمفردها لو لزم الأمر، ليدحض محسن مرزوق كلام رفيقه حافظ قائد السبسي وينفجر نافيًا بأن لا يمكن أن يكون للنداء جد غير الحبيب بورڤيبة.
يمكننا افتراض – بناءً على ما تقدم – فرضيتين اثنتين، أولهما أن حزب النهضة وحزب النداء دخلا كما عودانا في كل مناسبة في معركة عض الأصابع الناعم كتوأمين ليس لهما أسنان، وثانيهما أنهما يتنازعان إرثًا لا يملكانه، إذ لا يمكن لحزبين يأتمران بأمر السفارات وينزويان تحت قبضة المانحين الدوليين أن يدعيا أن الشيخ عبد العزيز الثعالبي هو جدهما المشترك، هذا الشيخ الذي اجترأ في زمن الطغوة الفرنسية على بلاد العرب والمسلمين على الخطبة في وسط أكبر شوارع طرابلس الليبية أمام السلطان العثماني عبد الحميد، داعيًا إياه إلى تحرير أعراض المسلمين وأراضيهم من الاحتلال الغربي، الشيخ الذي أسس جريدة “الاتحاد الإسلامي” التي هاجمت الصليبيين الذين يغيرون على ديار الإسلام، واشتهرت بدفاعها عن حرب المسلمين في المغرب وطرابلس ضد الغزاة المسيحيين.
يمكننا من باب الاستفراد بالرد على الشيخ راشد والسيد حافظ السبسي بخصوص انتمائهما للثعالبي أن نقول إنه في سيرة المناضل الثعالبي ليس ثمة ما يشير إلى أدنى علاقة ربطته في أي فترة من فترات حياته بالفكر الإخواني، بل إنه كان داعية إصلاحيًا حداثيًا حتى بالمفهوم المتداول اليوم، مات 16 عامًا بعد انبعاث حركة الإخوان على يد البنا في مصر عام 1928، ولكن لم يتصل به ولم ينخرط قط في هذا التنظيم لا فكرًا ولا ممارسةً، وكان يدعو إلى تجديد الفكر الديني وعصرنته والنهوض بالممارسة الشعائرية، فكان مجددًا قبل الأوان وتعرض بسبب ذلك إلى مضايقات واتهامات من قِبل الفكر “المحنط” السائد آنذاك.
بعث “الحزب الحر الدستوري التونسي” أساسًا لمقاومة المستعمر اعتمادًا على ثوابت غير قابلة للجدال أو التشكيك، وهي تأصيل الهوية التونسية في بعديْها العربي والإسلامي والنهوض بالإنسان التونسي حتى يقاوم المستعمر بنفس سلاحه: العلم والإيمان ومقارعة الحجة بالحجة والتدليل على أن المواطن التونسي قادر على التكفل بشؤونه دونما حاجة إلى حماية أجنبية.
وكانت اتصالاته في الخارج، وقد جال سنوات بين العواصم العربية والإسلامية، تهدف إلى توحيد الصف الإسلامي في مواجهة حملات التبشير والتجنيس، والعربي، حفاظا على الهوية العربية التي آمن بها في بعديْها القومي والوطني، وهو ما يتضارب تضاربًا جوهريًا مع عقيدة جماعة النداء وثوابتهم (والكل يعلم هذا وليس هذا المجال مجال تفصيل ولا إثبات).
محسن مرزوق، المنتمي سابقًا لليسار الاجتماعي كما يدعي والمنتمي حقيقة لليسار الثقافي كما نزعم نحن، صار اليوم من شريحة المخملية العليا المعروفة عند أهل اليسار بالبرجوازية المتعفنة، إضافةً إلى نسبه الجديد بأن صار “حفيد” الحبيب بورڤيبة هو وجلاوزته في حزب نداء تونس، والحمد لله على أن الرجل كان متناغمًا مع نفسه وليس متذبذبًا كرفيقه حافظ، إذ نسب نفسه لبورڤيبة وقطع أي صلة مع الثعالبي، فبورڤيبة – لنقل – كان قد خان الأمانة حين اغتنم غياب الشيخ عبد العزيز الثعالبي في جولاته ـ سواءً القسرية أو الطوعية – لنسف مقومات وفكر المشروع الذي أسسه الشيخ من خلال الحزب الحر الدستوري التونسي عام 1920، وأنشأ حزبًا ثانيًا تمامًا عام 1934 استند فيما استند إلى جملة من المزاعم تدعي أن فكر الثعالبي متحجر ورجعي، ويمكن القول إنه أُطرد غيابيًا لا فقط من كل صلة له بالحزب الذي أسس بل قد طالته اتهامات في شرفه وعفته وهو الشيخ الزيتوني المتنور المستنير، لذلك أن يدعي اليوم حزب أو حركة نداء تونس أن له صلة بإرث الثعالبي فذلك ادعاء باطل لأن النداء سعى منذ نشأته إلى إعادة صورة بورقيبة اللائكية في كل تجلياتها إلى الواجهة وهي البعيدة تمامًا عن فكر الثعالبي، بل لعل الصورة التي انبنت في الأذهان طوال عقود إنما هي أنشئت لمحو صورة الثعالبي من الأذهان، فأين له (النداء) الادعاء بأحقيته في نصيب من إرثه إن فكرًا أو نضالاً؟
ولنعد لحركة النهضة التي في بحثها عن اكتساب شرعية تاريخية تعود إلى قرن من الزمان، فهي إنما تريد أن تستمد لها جذورًا في أرض ليست لها ولا هي نبتت فيها، فالفكر الإخواني، والصلة الوثيقة للحركة ومناهجها وفكرها وارتباطاتها بحركة الإخوان المسلمين سواء إن أعلنتها أو ـ لدواع سياسية وتكتيكية أو إستراتيجية ـ أخفتها هي صلة موجودة، حتى أنك عندما تزور مقر حركة الإخوان ـ قبل غلقه من قِبل “دهاقنة المسار الثوري” في مصر من العسكر ـ كنت ترى صور الأباء المؤسسين للحركة وزعمائها عبر العالم الإسلامي ومن بينها صورة راشد الغنوشي لا عبد العزيز الثعالبي الذي لم ينتم قط إلى حركة الإخوان.
لذلك أن تدعي حركة النهضة أن لها قسطًا أو جزءًا من تاريخ الحركة الدستورية بزعامة المرحوم المناضل عبد العزيز الثعالبي بما فيه من بعد إسلامي حضاري فذلك محض افتراء وسطو على إرث لا تملكه.
ألم نقل منذ البداية إن النهضة والنداء يتنازعان إرثًا لا يملكانه؟