لم يكتب في السنن الكونية والتاريخية أنَ شعبًا بقي قابلاً للاستخذاء والاستعمار، “وتلك الأيام نداولها بين الناس”، لأن الصراع منذ نشأته وتأسيسه على يد قابيل وهابيل ظهر من ثناياه أن للمستعمر نشوات ورغبات كامنة ورائها مصالح، وكذا أبدى صاحب الحق أن له جذورًا لا تموت حتى وإن ماتت فمن بعدها بذور ستكمل، لتنتهي كل قصة استعمار بعيد استقلال.
لا نخفي الإعداد الجيد للحركة الصهيونية العالمية في أواخر القرن التاسع عشر وما صاحبه من التقاء في بعض الأهداف والمصالح بينها وبين الدول الكبرى آنذاك (إنجلترا وفرنسا) تكلل أولاً بوعد بلفور وانتهاءً بقيام دولتهم عام 1948م، بتزامن مع ضعف وتفكك للحالة العربية والإسلامية التي نال منها الاستعمار ونهشها بكل مفاصلها وبنيانها فلم تعد هناك قيم ومبادئ ولا حتى أخلاق، فما بالك بالاقتصاد والسياسة والقوة، فقد اخضعها ابتداء.
وبشكل طبيعي قامت عدة حركات وانتفاضات فلسطينية لمواجهة الاحتلال الصهيوني ولكن ما تلبث في ذروتها أن تصطدم بالحالة العربية القائمة آنذاك فتجهض الحراك، بدءًا بثورة البراق ومرورًا بالقسام وليس انتهاءً بالمقاومة الفلسطينية التي تشكلت إبان حرب 1948 ومساندة الإخوان المسلمين لها، ومن ثم تأسيس الحركات الفلسطينية اليسارية والعلمانية.
واستفادة من تلك الدروس التقت ثلة من الشباب الفلسطيني على هدف واحد هو تأسيس حركة تحرر إسلامية وطنية آخذة بعين الاعتبار كل المنعطفات والمحطات التي مرت بها التجربة المقاومة للمحتل، واتفقت على البدء بتأسيس قاعدة اجتماعية وتربوية تتمثل ببناء عناصر قوية قادرة على المواجهة واستمرارها عند القرار، وكذا بناء بيئة حاضنة للمقاومة من خلال إنشاء جمعيات اجتماعية وخيرية تهتم بالأسرة الفلسطينية ونوادي رياضية وفنية تهتم باستقطاب الشباب.
القرار وإعلان الهوية
كان قد مضى على احتلال فلسطين قرابة 40 عامًا، مات الكبار ولكن لم ينس الصغار كما تنبأ بن غوريون، وكانت كل يوم تزداد حالة الوعي الثوري لدى الفلسطيني رافضًا كل محاولات الاستخذاء من المحتل، إلى أن وقعت حادثة دعس العمال الفلسطينيين المعروفة “بحادثة المقطورة” وقُتِل العمال الفلسطينيون؛ أعطت قيادة الإخوان في فلسطين القرار بالمواجهة والنزول للميدان والحفاظ على الزخم الثوري ليصل كل مدن فلسطين ومشاركة الكل الفلسطيني وكان عنوان التجمع الثوري هو المساجد، وبعد انطلاق الانتفاضة بأسبوع أعلنت قيادة الاخوان عن هويتها ببيان نشرته ووزعته حمل اسم حركة المقاومة الإسلامية حماس.
أبهرت الانتفاضة الجميع بمقارنة مع كل الحراك الثوري السابق، ولمع نجم حماس بسطوع نجم الانتفاضة يومًا بعد يوم، وأسست حماس بعدها جناحها العسكري “كتائب الشهيد عز الدين القسام”، ليبدأ التطور النوعي للمقاومة مع المحتل بدءًا من الكمائن النارية بالاشتباك من مسافة صفر مع الجنود الصهاينة عرفت بمرحلة عماد عقل، ومن ثم مرحلة العمليات الاستشهادية التي بدأت على إثر المجزرة الصهيونية ضد المصلين في الحرم الإبراهيمي فاستدعى ذلك العمل على قاعدة العين بالعين، قاد هذه المرحلة الشهيد المهندس يحيى عياش، وقد أثخنت في المحتل الصهيوني كثيرًا ووصلت لكافة المدن المحتلة أبرزها مدينتي القدس وتل الربيع المسماة تل أبيب، أدى فيما بعد إلى توقيع اتفاقية أوسلو بين الاحتلال الصهيوني ومنظمة التحرير وكان الهدف الرئيس هو وأد الانتفاضة.
رفضت حماس اتفاقية أوسلو لما فيها من تنازل واضح عن الثوابت الفلسطينية، لتمر القضية الفلسطينية بمنعطف خطير حيث تأسست السلطة الفلسطينية وقامت بمواجهة المقاومة الفلسطينية تنفيذًا لأوسلو، ولكن حماس قررت عدم المواجهة مع السلطة منعًا لانحراف بوصلتها في معركة المحتل، لكن تمادت السلطة وقامت بارتكاب مجازر ضد المقاومة أبرزها مجزرة مسجد فلسطين وزجت بكل قيادات وعناصر حماس في السجون ووضعت مؤسس الحركة أحمد ياسين تحت الإقامة الجبرية، ومع ذلك لم يتحسن الوضع الفلسطيني بل ازداد سوءًا، فلم تأخذ السلطة الفلسطينية شيئًا من المحتل واستشرى الفساد الإداري والمالي والأخلاقي في كل مفاصل ومؤسسات السلطة الفلسطينية.
انتفاضة الأقصى… فرصة حماس
في أواخر سبتمبر من عام 2000، اندلعت انتفاضة الأقصى بعد تدنيس رئيس وزراء الاحتلال شارون للحرم القدسي، وأطلق سراح المقاومة من سجون السلطة بعد قصف المقار الأمنية، وقامت حماس بإعادة تنظيم صفوفها لتقود الانتفاضة بزخم أقوى من السابق بكافة الأشكال: عمليات استشهادية واقتحام للمغتصبات وحرب الأنفاق وصنعت صواريخ محلية، ليتوج هذا الجهد الكبير بانسحاب صهيوني من قطاع غزة، تلا ذلك استفتاء شعبي بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2006 واختار الشعب حماس، فضرب حصار كبير عليها شارك فيه القريب قبل البعيد، ومن بين ثنايا الحصار قدمت حماس الكثير وليس على سبيل الحصر:
– إنجاز صفقة وفاء الأحرار وإطلاق سراح أكثر من 1000 أسير وأسيرة مقابل الإفراج عند الجندي الأسير جلعاد شاليط.
– الحفاظ على مشروع المقاومة من التآمر الداخلي وذلك بعد القيام بعملية إجبارية سميت الحسم العسكري ضد أجهزة أمن السلطة الفلسطينية التي قامت بإحياء اتفاق أوسلو من جديد لوأد المقاومة.
– الصمود بوجه حصار ما زال قائمًا إلى الآن وتصديعه واختراقه أكثر من مرة.
– الصمود بوجه المحتل الصهيوني بـ 3 حروب متتالية لو تعرضت لها أي دولة لسقطت بعد أيام.
إن تجربة حماس ما زالت في أوج شبابها وهي تخطي خطوات نحو التحرير رغم التحديات الصعبة التي تواجهها حاليًا، لكن ما تتمتع به حماس من مرونة سياسية عالية وقدرة على المناورة في أحلك الظروف أهلها لتخطي كل المؤامرات التي تحاك ضدها، ونستطيع أن نقول إن أكبر إنجاز وتحدٍ لحماس هو الحفاظ على سلاحها نحو المحتل وتطويره وإدارته إدارة حكيمة، بالتوازي مع الحفاظ على البيئة الحاضنة للمقاومة من خلال دعم الجبهة الداخلية والالتفات لها دومًا لما تشكل من أهمية كبيرة برزت خلال الحرب الأخيرة على غزة، وكيف أظهر الشعب حبه العميق للمقاومة وتعلقه بعد الله بها لتحرير الأسرى والمسرى.
والمؤمل بهذا المشروع كبير، واليقين بنصره وحده لا يكفي، فعلى قيادة المقاومة في فلسطين ومن خلفها أحرار الأمة أن تحشد طاقاتها لإنجاح هذا المشروع في ظل الحدود الرخوة التي تحيط بفلسطين، فينبغي أن نستفيد من هذا الفراغ لا أن يتحول وبالاً علينا.