تمتلك روسيا أكبر مخزون للغاز الطبيعي في العالم بكمية تبلغ 1.7 ترليون قدم مكعب، وهي ثامن دول العالم في احتياطي النفط بحجم يزيد عن 60 مليار برميل، وقد أهلّتها هذه القدرات لتصبح أكبر مصدر للغاز والنفط هذا العام، حيث بلغ إنتاجها النفطي 11 مليون برميل يوميًا.
تخطت أسعار النفط كل الحدود التي كانت تحلم بها الميزانية الروسية قبل عام 1999، حين أمل المخططون الروس أن يرتفع سعر البرميل إلى 34 دولارًا لرفع الناتج القومي المحلي إلى معدل 5.5% سنويًا، فقد فاق هذا النمو بالفعل حاجز الـ 7% بشكل وسطي حتى عام 2010، وأطلقت الصحف الأوروبية عام 2005 على الرئيس الروسي لقب “شيخ الكرملين” كناية عن الفوائض المالية التي حققتها روسيا خلال السنوات الماضية، فحتى هذا العام 2015 جمعت روسيا احتياطيات مالية بلغت 371.267 مليار دولار حسب بيانات البنك المركزي الروسي خلال شهر سبتمبر 2015، تراكمت خلال طفرة أسعار النفط منذ عام 2001 وحتى النصف الأول من عام 2014 عندما حققت أسعار النفط أعلى سعر لها 147 وأصبحت روسيا أشبه بـ “مملكة نفطية”.
على الرغم من أن القدرات الصناعية لروسيا تضعها رابع مستهلك للطاقة في العالم بعد الهند والولايات المتحدة الأمريكية والصين؛ فإن فائضًا يزيد عن 70% من إجمالي إنتاجها اليومي من النفط يتجه للتصدير ويتم ذلك عبر أنابيب ضخمة تتجه إلى دول أوروبا الشرقية والوسطى وعبر السكك الحديدية إلى الصين والناقلات البحرية إلى كل من اليابان وكوريا والجنوب الأوروبي.
إلا أنَّ اعتماد الميزانية العامة الروسية في 60% منها على إيرادات النفط يفرض عليها صعوبات تتعلق بتقلبات أسعار النفط العالمية، كما أن أكثر من 60% من احتياطي النفط الروسي موجود في حقول غرب سيبيريا وحسب توقعات لأكاديمية العلوم الروسية تفيد أن حقول النفط الروسية على وشك النضوب، فالعمر المتوقع لنفاذ النفط في الأراضي الروسية هو 35 سنة كما أعلنته وزارة النفط الروسية عام 2005.
انخفضت إيرادات النفط على الموازنة العامة الروسية بشكل دراماتيكي بعد هبوط أسعار النفط، حيث أشارت تقارير أن مع كل دولار يهبط من سعر النفط تفقد روسيا 2 مليار دولار، وحسب إيغور سيتشين رئيس شركة روس نفط أثناء تحدثه في منتدى بطرسبيرع في يونيو 2015 قال “إن أسعار النفط الحالية (63 دولارًا) لا تؤمّن للشركات النفطية استعادة التكاليف بصورة مستقرة، ومن أجل تلافي خسائر مالية خطيرة فإن على سعر النفط العودة إلى 80 دولارًا للبرميل”، ويتوقع ألا تشهد الأسواق انتعاشًا قبل النصف الثاني من عام 2017.
وعليه فإن روسيا تسعى في أكثر من جهة للحفاظ على مستوى الازدهار في “مملكتها النفطية” من خلال رفع مستوى الإنتاج إلى أعلى مستوى والدخول في مفاوضات مع أوبك من أجل خفض الإنتاج، ومن جهة أخرى تسعى لاكتشاف حقول جديدة تزيد من العمر المتوقع لضمان تدفق الأموال على الميزانية الروسية وتنمّي مخزونها الاحتياطي النقدي، وهذا ما أشار إليه موسى نعيم رئيس تحرير مجلة السياسة الخارجية الصادرة في واشنطن في عام 2005 عندما قال “الجيولوجيون لا الأيديولوجيين هم الذين سيكتبون مستقبل روسيا وما في الصخور وليس ما في العقول هو الذي سيضمن بقاء القوى الروسية في عالم الغد”.
الهدف الروسي في سوريا
في عام 2009 أرسلت الحكومة القطرية إلى الرئيس السوري بشار الأسد مقترح تمديد خط أنابيب لنقل الغاز المسال (LNG) إلى أوروبا، إلا أن الأسد رفض هذا العرض لحماية مصالحه طويلة الأمد مع روسيا الاتحادية؛ حيث تعد الأسواق الأوروبية أكبر مستورد للغاز الروسي، كما وقعت كل من سوريا وروسيا اتفاقيات وعقود تجارية في عام 2005 تم فيها شطب 73% من ديون روسية على سوريا البالغة 13 مليار دولار مقابل موافقة الرئيس السوري إعطاء روسيا ميناء بحري في طرطوس وتحويله إلى قاعدة عسكرية ثابته للسفن الروسية، إلا أنّ فكرة نقل الغاز من سوريا راقت للأوروبيين الذي اصطدموا مع روسيا أكثر من مرة حيث يعمد بوتين لتهديد أوروبا بقطع إمدادات الغاز عنها كلما تعكر مزاجه منهم.
صحيح أنّ الأسد رفض عرض قطر إلا أنه أدرك أهمية مد خطوط غاز عبر سوريا إلى أوروبا خصوصًا بعدما رأى جاذبية هذا المشروع لدى الأوروبيين، لذلك بدأ بمفاوضات مع الإيرانيين لنقل الغاز الإيراني عبر سوريا إلى أوروبا من خلال شبكة أنابيب تبدأ من إيران إلى العراق ومن ثم إلى سوريا وبعدها إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، وبالفعل بدأت الدراسات على هذا المشروع (إيران – العراق – سوريا).
أيدت روسيا هذا المشروع بحكم أنها تتحكم بواردات الغاز الإيراني أكثر من سيطرتها على واردات الغاز القطري، كما أن روسيا سبق لها فعلًا إبرام اتفاقيات طاقة طويلة الأجل مع إيران، وفي حال قام المشروع بالفعل فإن روسيا تستطيع السيطرة على كمية الواردات من خلال وجودها في قاعدة طرطوس في سوريا لذلك لم تقلق روسيا من هذا المشروع بسبب ضمانها لأطراف منفذي المشروع، بالإضافة إلى أن شركة غاز بروم هي التي ستعمل على بناء خط الغاز وإدارته لذلك كانت روسيا في موقع المستفيدة من هذا المشروع، علاوة على هذا فإن من جملة الاتفاقيات التي وقعت بين سوريا وروسيا كانت إعطاء روسيا حق استكشاف الغاز الطبيعي في الساحل السوري على البحر المتوسط فإذا وجد الغاز والنفط فإن روسيا سيكون لها الحق في إدارة الموارد المكتشفة من خلال شركة “سيوز نفط غاز” لمدة 25 سنة.
وفي ذاك الوقت أيضًا تعاقدت شركة غاز بروم الروسية مع إسرائيل لتمويل حقول غاز مكتشفة (LNG) في سواحل البحر المتوسط المطلة على إسرائيل وشحن الغاز إلى أوروبا، كما حاولت روسيا بسط سيطرتها على خطوط توزيع الغاز القبرصي المكتشف قبالة السواحل القبرصية على البحر المتوسط.
لهذا السبب لم يكن مشروع الغاز الإيراني أولوية لدى روسيا؛ فأثناء دخول روسيا بالحملة العسكرية إلى سوريا في أكتوبر من هذا العام لم تكن روسيا تحمي الأسد بقدر ما تحمي مصالحها الاقتصادية في سوريا وفي المنطقة بشكل عام.
الأهمية الحيوية لتركيا بالنسبة لروسيا
تركيا فقيرة بموارد الطاقة كالنفط والغاز فهي تستورد نحو 90% من احتياجات الطاقة لديها إلا أن موقع تركيا الجيوإستراتيجي منحها أهمية كبيرة بالنسبة لروسيا، فموقعها الوسط في الشرق الأوسط جعل أراضيها ممرًا لأنابيب النفط والغاز ولمشاريع الطاقة العديدة التي ستنقل النفط والغاز من وسط آسيا عبر الأراضي التركية إلى أوروبا إلا أن هذه المشاريع ستؤدي لتهديد روسيا من خلال خفض أسعار النفط والغاز وخفض الحصة السوقية لروسيا في أسواق أوروبا لصالح بلدان أخرى.
أصبحت تركيا حجر عثرة أمام مشاريع بويتن الذي يسعى لأن يكون محتكرًا للطاقة وطرق إمدادها، فسيطرة روسيا على مشروع خط الغاز (إيران – العراق – سوريا) من جهة ورغبة بوتين في عدم خسارة دور المحتكر لإمداد أسواق الغاز الأوروبية عزز من وقوف تركيا كعقبة أما مشروعه.
باشرت روسيا بمقترح مشروع “تركش ستريم” مع تركيا لمد خط أنابيب من روسيا إلى تركيا وإنشاء مجمع لتخزين الغاز ومن ثم نقله إلى أوروبا لعرقلة ومنافسة المشاريع القادمة من وسط آسيا إلى تركيا مثل مشروعي “تاناب” و “تاب” إلا أن هذا المشروع “تركش ستريم” كان يحمل في طياته هدفًا سياسيًا من قِبل البلدين (روسيا وتركيا)، حيث أقلقت العقوبات الأوروبية التي فُرضت على روسيا بوتين بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم، أما تركيا فكانت محبطة من حلفائها الغربيين بسبب عدم المساهمة في إيجاد حل للأزمة في سوريا التي تتحمل عواقبها تركيا لوحدها من حيث استقبال اللاجئين والخطر الذي يهدد حدودها مع سوريا.
ومن ثم جاء الخلاف مع تركيا بعد إسقاط أنقرة لطائرة السوخوي وتوقف معظم التبادلات التجارية بين البلدين والتي كانت تميل لصالح روسيا، ما يفرض على موسكو ضغوطًا أكبر في توفير إمدادات بديلة للموازنة الروسية، فالحملات العسكرية التي يقودها بوتين في سوريا وأوكرانيا ستضغط أكثر على الاقتصاد الروسي الذي بالفعل دخل في الركود العام، ما قد يؤدي لبدء السحب من الاحتياطيات النقدية لديها والتأثير على سياساتها المالية والدخول في التقشف للحد من النفقات العامة، وإذا استمر الوضع هكذا فقد تلجأ روسيا للاستدانة من البنك الدولي وهذا ما لا يرضاه القيصر بوتين على روسيا القوية.
يُذكر أن في عام 1991 شن صدام حسين حربًا على الكويت دمر من خلالها 600 بئر نفطية، بسبب عدم قدرة العراق على دفع ديونها المتراكمة بعد فترة حرب دامت ثمان سنوات مع إيران، اتهم صدام حسين الكويت أنها تسعى لإغراق الأسواق العالمية بالنفط لتخفيض الأسعار ورفضت الكويت دفع ديون العراق، فجاء اجتياح العراق للكويت لأسباب اقتصادية بحته.
ختامًا… هل يشهد القرن الواحد والعشرين غطرسة الدب الروسي بشن حرب على المملكة العربية السعودية (أكبر مزود للنفط في أوبك) باتهامها إغراق الأسواق بالنفط لتخفيض الأسعار بعد تكبد روسيا خسائر فادحة من جراء “حرب النفط” بين البلدين حيث يرفض كليهما خفض الإنتاج.