يعتبر بعض المتابعين للشأن التونسي أن هذا البلد العربي حقق نقلة نوعية في مجال حرية الإعلام خلال السنوات الخمس التي تلت ثورة شعبه، كيف لا والدستور الجديد يضمن حق التعبير وحتى الضمير (حرية المعتقد)، والقنوات التلفزيونية تضاعفت أعدادها والمحطات الإذاعية بالعشرات والصحف منتشرة بأقل الأثمان والقوانين التي ناضل من أجلها الصحافيون سنّت وصادق عليها برلمان بلادهم، وبعثت بمقتضاها هيئة عليا مستقلة للإعلام السمعي والبصري مهمتها تعديل المشهد الإعلامي بعد ما عرفه من فساد طوال العقود السابقة.
إلا أن التصنيف الجديد لمنظمة “مراسلون بلا حدود” الصادر مؤخرًا يبين خطأ هذه الاعتقادات وزيف ما تم الترويج له من إنجازات في هذا المجال؛ فحسب مراسلون بلا حدود احتلت تونس المركز 126 عالميًا في حرية الصحافة لسنة 2015، وحصلت تونس على 38.68 نقطة في الترتيب الذي شمل 180 دولة، حيث جاءت خلف العديد من الدول الأفريقية والعربية على غرار ناميبيا 17 عالميًا وغانا 22 والرأس الأخضر 36 وموريتانيا 55 والكويت 90.
وبالعودة إلى تصريحات سابقة لصحفيين وأرباب مؤسسات إعلامية ونقابيين، نكتشف حقيقة هذا التصنيف وما يترصد حرية التعبير في تونس من مخاطر وانتهاكات اعتبرها ناجي البغوري نقيب الصحفيين التونسيين بأنها ممنهجة وتهدف إلى إخافتهم خاصّة في هذه المرحلة الّتي يبدو فيها كل شيء ممكنًا بما في ذلك الرجوع إلى الاستبداد حسب قوله.
تصريحات لم تكن الأولى فقد سبق للبغوري أن اتهم الرئاسة التونسية بـ “ممارسة ضغوط على الصحافيين” والاتصال بالمديرين العامين للمؤسسات الإعلامية الحكومية ومطالبتهم بإقامة فريق عمل في القصر الرئاسي لتلميع صورة رئيس الدولة الباجي قائد السبسي، تصريحات جاءت عقب تقديم صحافيين شكاوى كشفت عن ضغوط تمارسها السلطة على أصحاب الصحف ووسائل الإعلام بهدف التأثير على عملهم، إما بدعوتهم إلى عدم انتقادها أو بحثهم على تلميع صورتها أمام الرأي العام.
ويقول بعض الصحفيين أيضًا إن السلطة الحاكمة أخذت تلجأ إلى إحالتهم ومحاكمتهم بموجب قانون الإرهاب وبموجب مجلة قانون الاتصالات أو بموجب مجلة قانون المرافعات العسكرية أو المجلة الجنائية الأكثر تشددًا بدلًا من استخدام المرسوم 115/2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، الذي يتضمن أحكامًا تحمي الصحفيين، ويتيح قانون العقوبات سجن الأفراد بسبب جرائم تتعلق بالنشر، بما في ذلك التشهير أو القذف، في حين لا يسمح المرسوم 115 بعقوبة السجن بسبب هذه الجرائم، وإنما ينص على فرض غرامات كعقوبة.
فقد قامت السلطات في ديسمبر 2014 باعتقال المدون ياسين العياري بسبب مواد نشرها على صفحته على موقع فيسبوك انتقد فيها وزير الدفاع التونسي السابق، وقد استخدمت السلطات قانون القضاء العسكري ووجهت للصحفي تهمة “التشهير” بالجيش وأدانته بهذه التهمة وصدر بحقه في يناير حكم بالسجن لمدة عام قبل أن يتم تخفيف الحكم والإفراج عنه.
كما استخدمت السلطات كذلك تهم تتعلق بالإرهاب لمعاقبة الصحفيين على تغطيتهم الصحفية وللضغط عليهم من أجل الكشف عن مصادر معلوماتهم، حسبما وجدت أبحاث لجنة حماية الصحفيين، فقد استخدمت السلطات قانون مكافحة الإرهاب الصادر عام 2003 لتوجيه اتهامات ضد الصحفي نور الدين المباركي، بالتواطؤ في الاعتداء على شاطئ سوسه الذي وقع في يونيو وأودى بحياة 39 سائحًا.
إضافة إلى ما سبق، قدمت السلطة التنفيذية في تونس مشروع قانون يتعلق “بزجر الاعتداء على القوات الحاملة للسلاح من الأمن والجيش” للمصادقة عليه داخل البرلمان، وينص الفصل الرابع من هذا المشروع على أنه “يعتبر سرًا من أسرار الأمن الوطني جميع المعلومات والمعطيات والوثائق المتعلقة بالأمن الوطني مهما كانت الوسائل المعتمدة لاستعمالها ومسكها وحفظها وتداولها والتي يجب ألا تكون معلومة إلا ممن له الصفة في استعمالها أو مسكها أو تداولها أو حفظها”، كذلك يعاقب في فصله السادس كل من يسرّب هذا السر الأمني “بالسجن مدة عشرة أعوام وبغرامة قدرها خمسون ألف دينار”، مما يعني أن أبسط معلومة أو وثيقة ينشرها صحافي أو قناة أو إذاعة يمكن أن توضع تحت طائلة “السر الأمني” الذي يعرّض الناشر إلى السجن عشر سنوات، مشروع قانون اعتبرته نقابة الصحافيين التونسيين معادٍ لحرية الصحافة وحرية التعبير.
كما سبق للحكومة أن قامت في 3 يوليو الماضي بسحب مسودة القانون الأساسي حول الحق في الحصول على المعلومات، والذي صاغته وطالبت به جماعات المجتمع المدني، وكان معروضًا على البرلمان لإقراره، وكانت الغاية منه تيسير الضمانات الدستورية “للحق في الحصول على المعلومات والحق في الوصول إلى المعلومات وشبكات التواصل”.
من جهة أخرى تستعد الحكومة لعرض مشروع قانون يتعلق مكافحة الجرائم الإلكترونية، على نواب البرلمان لمناقشته والمصادقة عليه وسيوسع مشروع قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية نصوص العقوبات كي تنطبق على المواد المنشورة في شبكة الإنترنت، حسبما أظهرته أبحاث لجنة حماية الصحفيين الأمر الذي يهدد حرية النشر.
بدورها لجأت قوات الأمن التونسية في مناسبات عدة إلى استعمال العنف البدني واللفظي ضد الصحفيين قصد إعاقة عملهم أو السعي لترهيبهم، من ذلك ما حصل مؤخرًا خلال التغطية الإعلامية للتفجير الإرهابي في شارع محمد الخامس الذي راح ضحيته 12 من قوات الأمن الرئاسي، حيث تعرض عدد من الصحفيين لاعتداءات على يد الشرطة بينما كانوا يحاولون تغطية الحدث كما صودرت كاميرات كانت بحوزة بعضهم.
معاناة الصحفيين لم تكن نتيجة تهديدات وممارسات بعض الأمنيين فقط بل أيضًا نتيجة تهديدات عدة وصلتهم من جماعات مسلحة منها ما هو متعلق بالتهديد بالقتل بالإضافة إلى تهديد بعض المؤسسات الإعلامية كونها ” تنشر أكاذيب وشائعات حول المجاهدين”، باتخاذ إجراءات انتقامية ضدها.
وفي مقابل ذلك تواجه الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري التي بعثت لتعديل القطاع، انتقادات واسعة من قِبل بعض أصحاب المشاريع الإعلامية ممن ينتمون لأحزاب سياسية، ووصفوها بأنها تقيد حريتهم بالتعبير، كما شككت عدة وسائل إعلام محلية وأحزاب سياسية بحيادية الهيئة.
الأمر الذي اعتبره أعضاء الهيئة ونقابة الصحفيين، محاولة من قِبل رجال أعمال وسياسيين متنفذين لامتلاك وسائل إعلام لتوجيه الرأي العام، وكانت الغاية من تأسيس هذه الهيئة عقب الثورة تعديل المشهد الإعلامي وفرض الفصل بين الأحزاب السياسية وبين ملكية وسائل الإعلام، وتتألف هذه الهيئة من 9 أعضاء يجرى تعيينهم من قِبل ست هيئات هي: المجلس التشريعي، السلطة التنفيذية، القضاء، المنظمات الصحفية، المنظمات التي تمثل المهن غير الصحفية في قطاع الإعلام، ومنظمة مالكي وسائل الإعلام والاتصال، وتحظر قواعد الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري على حاملي تراخيص وسائل الإعلام وعلى إدارات وسائل الإعلام المرخصة أن يكونوا أعضاء في أحزاب سياسية.
ليس هذا فحسب فقد عادت الرقابة الذاتية إلى الانتشار مجددًا، فالعديد من الصحفيين يفضلون عدم الخوض في مسائل عدة مثل الفساد والرشوة والتجاوزات الأمنية والاحتجاجات الشعبية وكل ما من شأنه أن يعتبره الائتلاف الحاكم حين الخوض فيه والكتابة عنه “تقويضًا للأمن العام وتهديدًا للسلم الاجتماعي”.
ورغم كل ما كتب وقيل تبقى تونس في صدارة البلدان العربية في مجال حرية الإعلام؛ فهامش حرية التعبير في هذا البلد الصغير الواقع في أقصى شمال أفريقيا غير مسبوق في تاريخها وتاريخ العرب وتبقى هي أمل المنطقة في خطّ مشروع وطني توافقي قوامه حرية التعبير والرأي.