بمجرد أن حزم فرقاء اليمن حقائبهم وحطوا مجتمعين على طاولة مستديرة بسويسرا، بدا لوهلة أن عجلة السلام دارت ولن تتوقف، بيد أن المسألة كانت مجرد وقت ليتلاشى هذا الشعور تدريجيًا وتحل مكانة كومات من الإحباط.
والتف الطرف الحكومي وممثلو الحوثيين وصالح وجهًا لوجه في برن السويسرية للمرة الأولى منذ بداية الحرب، وهناك جدول أعمال متفق عليه وتطورات على الأرض، وموقف دولي داعم لخيار السلام، لكن التفاؤل الكبير بنجاح المباحثات يحتاج وقتًا إضافيًا حتى يتحول إلى واقع.
عمليًا انهار مشروع وقف إطلاق النار بعد ساعات محدودة من دخول حيز التنفيذ، رغم الجولة المكوكية لمبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ، وبالرغم من الوقت الذي بدده الدبلوماسي الموريتاني في إقناع الأطراف المتحاربة بهدنة تسبق انطلاق محادثات السلام.
ولم ينعم سكان اليمن طويلاً برحمة الهدنة على كل الجبهات بعد دخولها حيز التنفيذ يوم الثلاثاء الماضي تزامنًا مع انطلاق محادثات السلام بين أطراف النزاع في سويسرا، إذ شنت القوات الموالية للحكومة والمدعومة من التحالف، هجومًا على منطقتين استعادت خلاله السيطرة على مدينة حرض بشمال غرب البلاد في عملية انطلقت من الأراضي السعودية.
في المقابل أطلق الحوثيون، من جانبهم، صاروخين صوب الأراضي السعودية؛ لتعلن الرياض أن الدفاعات الجوية اعترضت صاروخًا بالستيًا أطلق من اليمن فيما سقط صاروخ آخر في منطقة صحراوية شرق مدينة نجران السعودية.
وبموازاة التصعيد للمعارك البرية، في أكثر من جبهة ساخنة أعلنت دول التحالف السيطرة على جزيرة “زقر اليمنية” في عرض البحر الأحمر غرب اليمن، وهي من الجزر اليمنية التي كان الحوثيون يستخدمونها في تخزين الأسلحة وتهريبها إلى اليمن لموقعها في ممرات الملاحة الرئيسية في البحر الأحمر.
هل تصمد المحادثات؟
وعلى وقع انتهاكات طرفي الصراع في اليمن، لإعلان الأمم المتحدة وقف إطلاق النار، تواجه الجلسات بين الأطراف اليمنية في سويسرا عراقيل عدة، أهمها محاولة القفز على البند الخاص بالإفراج عن المعتقلين، وتثبيت وقف إطلاق النار، وتمسك وفد الحكومة اليمنية بتطبيق القرار الدولي رقم 2216 كمدخل لوقف الحرب، وهو ما يعتبره الحوثيون محاولة لإعادة الأمور إلى المربع الأول.
في هذه الأثناء، برزت حقيقة واحدة غذاها فشل محاولات الأمم المتحدة لمنح اليمن أجازة قصيرة من العنف، أو فرصة وجيزة لتتنفس شيء آخر غير البارود، هي أن طريق البلد – المتأزم على الأصعدة كافة – إلى السلام ليس سالكًا بعد.
ويعزز ذلك، البداية المحبطة لجولة المحادثات اليمنية في سويسرا، بجانب التعثر الذي ساد أجواء النقاش من اللحظة الأولى، وكلها، مجتمعة، مؤشرات بعدم وجود مفاجآت سارة تنتظر اليمنيين هذا الشتاء.
ويمكن إعادة مراوحة محادثات سويسرا في دوائر فارغة بعد خمسة أيام على انطلاقها، إلى ملف المعتقلين السياسيين لدى الحركة الحوثية، حيث رفض وفد الأخيرة تسوية قدمها ولد الشيخ بإخلاء سبيل المعتقلين على دفعتين: الأولى التي تضم القادة السياسيين تكون قبل إعلان وقف إطلاق النار، والثانية بعده، وصولًا إلى الخوض في إجراءات بناء الثقة.
ولعل الحوثيين الذين يدركون أن الإفراج عن اللواء الصبيحي، في هذا التوقيت سيقلب المعدلة عسكريًا على الأرض، كون البلد ما زال في حالة حرب، وقد يؤثر ذلك على سير المعركة ضدهم، حيث تفتقر القوات الموالية للحكومة إلى قيادة ميدانية على الأرض.
وبالتالي فإن الحوثيين يعملون لإفشال المفاوضات لأن ذلك يعني بالنسبة لهم أن يدخل اليمن في دوامة أكبر من الفوضى، وهو ما يتيح مزيدًا من المساحات الأمنية الشاغرة، الأمر الذي يسهم في إقناع التحالف الدولي للحرب على الإرهاب بإدراج اليمن ضمن مقرراته، وإدخال الروس تحديدًا بالتدخل في اليمن.
وقد كان واضحًا من البداية، رغبة الحوثيين في مسألة تعقيد الوضع الراهن، وأنهم ذاهبون إلى المفاوضات من أجل المراوغة والالتفاف على القرار الأممي، حيث بعثوا برسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون يعلنون فيها موافقتهم على القرار الأممي، ثم يأتي المتحدث باسمهم محمد عبد السلام ليعلن قبل يوم واحد فقط من المشاورات بأنهم ذاهبون للتباحث حول ما أسماها مبادئ مسقط أو النقاط السبع التي اقترحوها ورفضها في ذلك الحين الرئيس عبد ربه منصور هادي.
من جهة ركز وفد الحكومة اليمنية خلال الجلسات، على موضوع الإفراج عن المعتقلين، وفي مقدمتهم اللواء ناصر منصور هادي، شقيق عبدربه منصور هادي، واللواء محمود الصبيحي، والعميد فيصل رجب، بالإضافة إلى بعض المعتقلين الذين ينتمون لحزب الإصلاح.
ترجيح كفة الحرب
عمليًا، سيطر التحالف على كامل الساحل اليمني وتوج السيطرة، قبل دقائق من بدء جلسات المباحثات، بالاستيلاء على جزيرة زقر في أرخبيل حنيش في البحر الأحمر واستكمال السيطرة على الممر البحري الواقع بين مضيق باب المندب والحدود البحرية مع السعودية، لكن الرياض لم تتمكن من هزيمة الحوثيين وقوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح تمامًا.
فبعد 9 أشهر من المواجهات والمعارك والقصف، تبرز النتيجة أوضاع لا تتغير على الأرض ومواقف أكثر تصلبًا ولا سبيل للوصول إلى حل عسكري نهائي، ذلك أن التقدم والكر في جبهة، يقابله تأخر وفر في جبهة أخرى، فيما التصريحات لم تتبدل، والمطالب ذاتها من الجانبين.
وكان التحالف يحاول تحقيق انتصار إضافي في تعز بعد الانتصار الذي حققه في جنوب اليمن وفي محافظة مأرب شرق صنعاء لكنه لم يتمكن من تحقيقه وخسر اثنين من أبرز القادة العسكريين الذين أرسلهم إلى اليمن، ولا يستطيع التحالف اليوم أن ينكر أنه أنهك وأن استمرار القتال غير مجد، وأن المدنيين في اليمن دفعوا ثمنًا أكبر من الحوثيين وأنصار صالح.
بيد أن الملاحظ، هو أن فرص بقاء اليمن ينهار تحت ضربات العنف مواتية، قياسًا بنزعة طرفي الصراع للمسار العسكري، مقابل وأد محاولات إيجاد قواعد مشتركة يمكن البناء عليها لتفاهمات سياسية تقود إلى فرض السلام.
ويلحظ أن الحرب ما تزال الخيار الأكثر ترجيحًا في ميزان كلا الطرفين، إذ يرفضان تقديم تنازلات باعتقاد مشترك يتلخص في القدرة على فرض واقع عسكري على الأرض وصولًا إلى توظيفه لاحقًا في سياق رغبة الجانبين في تمرير صيغة حل تفصل على مقاس حساباته المرحلية.
في المقابل، كان السائد بالاستناد إلى وثيقة جدول الأعمال المتفق عليها، أن المباحثات التي تعقد بعيدًا عن أعين الصحفيين تحقق غايات الطرفين، فهي تمنح الحكومة حق تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي بشأن استعادة سلطتها على المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وعلى الجانب الآخر تضمن للحوثيين وصالح البقاء كأطراف سياسية فاعلة في الساحة السياسية إلى جانب تنفيذ مطالبهما المتعلقة بتعديل وثائق مؤتمر الحوار الوطني وتشكيل حكومة جديدة.
وإذا قدر لهذه المباحثات أن تنجح استنادًا إلى تجربة تسعة أشهر من القتال، وقناعة إقليمية ودولية بأن الحرب توفر مناخًا ملائمًا للجماعات الإرهابية وتلحق الضرر بملايين اليمنيين، فإنها بذلك ستفتح الباب أمام مسار سياسي انتقالي قد يمتد لأكثر من عامين، أما إن فشلت فستفتح الباب على مصراعيه أمام صراع داخلي قد يكرر التجربة الصومالية.