ظلت قضية إنقاذ اليونان من براثن الإفلاس والخروج من الاتحاد الأوروبي مطروحة بقوة في عام 2015 في أصقاع القارة العجوز والعالم بأسره، منذ بدء الخطة الأولى لإنقاذها عام 2010، حيث شكل هاجس إفلاس دولة في قلب الاتحاد الأوروبي كابوسًا ليس فقط لأوروبا بل لمناطق عديدة من العالم قد تتشابه مع ما تمر به اليونان.
المعضلة التي تواجهها القوى الأوروبية الكبيرة لا تقتصر على اليونان فقط بل قد يمتد المرض إلى دول أخرى مثل إسبانيا والبرتغال اللتان تعانيان من مشاكل مالية، كما أن خروج اليونان من الاتحاد يمثل ضربة لمشروع الوحدة الأوروبية.
شكل يوم 5 يوليو/ تموز 2015 أرقًا لأصحاب الديون اليونانية المتمثلة بالترويكا (صندوق النقد الدولي، المفوضية الأوروبية، البنك المركزي الأوروبي)، حيث انتصر المعسكر الرافض لشروط الدائنين في الاستفتاء الشعبي في ذلك اليوم الذي أجاب بـ “لا” على خطط الدائنين المتمثلة بالإصلاح مقابل المال، ترتب على ذلك الاستفتاء عدة سيناريوهات مطروحة في أذهان بعض الساسة الأوروبيين منها انسحاب بعض أطراف المفاوضات لتواجه أثينا مصيرها وحدها، وعليه فإن أثينا ستواجه الانهيار المالي أو الخروج من منطقة اليورو وكلاهما مر، إلا أن الأيام التي لحقت الاستفتاء كانت حبلى ببعض التفاهمات لليونان والاتحاد الأوروبي سنستعرضها بعد الخوض في أسباب الأزمة المالية في اليونان.
نظرة على الأزمة المالية في اليونان
لا يعد تاريخ اليونان الاقتصادي صاحب ملاءة مالية جيدة، حيث أعلنت اليونان إفلاسها أربع مرات في الأعوام التالية 1827، 1843، 1893، و1932، وتبلغ نسبة الفساد المحلي في اليونان من 8 – 10%، أما نسبة الشباب العاطلين عن العمل 49.7%، كما أن الساسة الأوربيين أخطأوا في قرار ضم اليونان إلى الاتحاد الأوروبي عام 2000؛ حيث كان أداء اليونان سيئًا قبل انضمامها إلى منطقة اليورو، وفي نفس الوقت أخطأ اليونانيون أنفسهم عندما انضموا لمنطقة تتطلب معايير معيشية عالية وخاصة، ولعل أبرز أسباب الأزمة الاقتصادية اليونانية الحالية هي:
– الحماس الزائد الذي أبداه اليونانيون لدخول منطقة اليورو نظرًا لما تتمتع به المنطقة من مكانة اقتصادية عالية حيث تعتبر ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
– الفساد الحكومي المنتشر في كافة أرجاء قطاعات الدولة حتى أصبحت الرشوة طابعًا لا تخلو منه أي دائرة حكومية وأي معاملة من تعاملات اليونان.
– الشروط القاسية التي وقعها الساسة اليونانيون مع الدول الأوروبية كانت ضد مصالح الشعب ولم يحسب مسؤولو الدولة اليونانية نتائج ذلك مستقبلاً.
– إلغاء عملة الدراخما الضعيفة واستبدالها باليورو، ما فتح شهية اليونانيين على الاقتراض بوتيرة عالية تفوق قدرتهم على السداد، وهم معروفون أصلاً بإدمان الاقتراض.
– ارتفاع أسعار البترول الذي أثر على أسعار السلع والصناعات.
بعد انضمام اليونان في عام 2000 إلى الاتحاد الأوروبي وبدء تداول اليورو رسميًا عام 2001 أُلزمت الدولة اليونانية بأن يعيش مواطنوها وفق معاييير وشروط الدول في أوروبا، وهذا يعني ارتفاع مستوى المعيشة للأفراد في دولة ذات اقتصاد ضعيف، حيث تعتمد بشكل رئيسي على السياحة بنسبة 18% من الناتج المحلي الإجمالي والزراعة بنسبة 3.3%.
شجع ارتفاع النمو الإقتصادي لليونان في بداية انضمامه للاتحاد والذي بلغت نسبته 5.9% في عام 2003 بسبب ارتفاع الطلب المحلي بعد ارتفاع نسبة الاقتراض من دول اليورو ونسبة نمو 5.5% في عام 2005 الحكومة فزادت من الإنفاق وتضاعف دخل الفرد من 12 ألف دولار في العام 2000 إلى 31 ألفًا عام 2008 وارتفع إنفاق الحكومة على قطاعات الدفاع والمعاشات وزادت رواتب القطاع الحكومي إلى الضعف في نحو عشر سنوات إلا أن هذا الإنفاق الحكومي تم تمويله من خلال قروض بفوائد منخفضة نسبيًا من الحكومات الأوربية والبنوك.
ازدادت ضغوط القروض وفوائدها على الحكومة اليونانية وتأزم الوضع المالي بالتزامن مع الأزمة المالية العالمية 2007 – 2008 فوقّعت حكومة جورج باباندريو الحزمة الأولى للإنقاذ في مايو/أيار 2010 علما أن نمو البلاد انكمش بمعدل سالب 3.1% في عام 2009 وسالب 4.9% في عام 2010، ووافقت على خفض كبير في الإنفاق وزيادة الضرائب مقابل الحصول على 110 مليار يورو، ووصل عجز الموازنة إلى 12.5% من الناتج المحلي، علمًا أن الحد المسموح به في ضمن سياسات اليورو هي 3%.
في خطة المساعدات الأولى التي انطلقت عام 2010 كانت ألمانيا أكثر المساهمين في هذه القروض بـ 15.1 مليار يورو تلتها فرنسا بـ 11.3 مليار يورو، تم تقديم هذه القروض بفوائد عالية قريبة من 6% وفقاً لشروط تحقق الفائض المالي وتحقق النمو المطلوب في البلاد والشروط هي:
– إعفاء 150 ألف شخص من موظفي القطاع العام من مناصبهم.
– خفض الرواتب في القطاع العام ومعاشات التقاعد ورفع ضريبة القيمة المضافة.
– رفع سن التقاعد إلى سن 67 عامًا.
– إلغاء الامتيازات التي تتمتع بها الجزر وإرغامها على دفع الضرائب لصالح خزينة الدولة.
– خفض الإنفاق على السلاح.
طُبقت سياسات التقشف من قِبل الحكومة من أجل توفير مبالغ مالية من دول الاتحاد الأوروبي تقدر بـ 28.4 مليار يورو في موازنة الدولة من العام 2011 حتى العام 2015، إلا أن سياسات التقشف قوبلت بالرفض الشعبي وخرجت مظاهرات عارمة ضد هذه السياسة بسبب انخفاض الوضع المعيشي للعمال والفلاحين والفئات المتوسطة حيث وصلت نسبة البطالة إلى 16.6% ووقعت مواجهات بين المحتجين والشرطة، وارتفعت نسبة البطالة في العام الاخير27% وأضرب العاملون في جميع الهيئات الحكومية والخاصة ضد سياسات التقشف التي تطالب بها الدول الأوروبية كشرط لتقديم المساعدات المالية، علماً أنّ النمو شهد انخفاضاً في عام 2011 بنسبة سالب 7.1% وسالب 0.7% في عام 2012 وسالب 3.9% في عام 2013.
ولكن ترويكا المقرضين (المفوضية الأوروبية – صندوق النقد الدولي – البنك المركزي الأوروبي) مع مقترض يسرف في الإنفاق على مشاريع غير إنتاجية وليس لديه أدنى حسابات لخطط الإيفاء بالقروض، ومع استمرار هبوط الناتج المحلي الإجمالي لليونان، اضطرت الترويكا إلى تقديم حزمة إنقاذ ثانية مقدارها 130 مليار يورو في عام 2012 وشطب كثيف للدين الخاص الذي وصل إلى 107 مليار يورو مقابل تدابير جديدة لتصحيح مالية البلاد.
استفحلت الأزمة المالية وقفز الدين العام للبلاد من 107% من الناتج المحلي الإجمالي في 2007 إلى 177% في عام 2014 أي إلى 317 مليار يورو حسب أرقام مكتب الإحصاء الأوروبي يورو ستات عام 2014، على الرغم من ارتفاع معدل النمو في هذا العام والذي عاد الى الركود في العام التالي 2015 حينها اكتشف الأوروبيون أنّ اليونان تقدم أرقامًا مزيفة وغير حقيقة عن حجم الدين، حيث تم الكشف عن إحصائيات أخرى تفيد أن الديون قد تصل إلى ترليون يورو.
صُنفت الديون اليونانية على الشكل التالي:
– 270 مليار يورو ديون للقطاع العام.
– 300 مليار يورو عجز لمؤسسات التأمين الاجتماعي عامي 2005 – 2006.
– 280 مليار يورو ديون الشركات والأفراد للبنوك.
على الرغم من تلك القروض واعتماد سياسات التقشف إلا أن الدولة لم تعد قادرة على الوفاء بديونها أو قروضها ولا حتى توفير أسباب المعيشة للفرد اليوناني على أرضه، فدعت الحكومة في هذا العام 2015 بقيادة رئيس الوزراء تسيبراس إلى استفتاء شعبي لقبول أو رفض حزمة مساعدات مالية جديدة كخطة إنقاذ جديدة من الاتحاد الأوروبي وكانت النتيجة هي “لا” بنسبة تصويت وصلت إلى 61.24% من الأصوات.
قاد ذلك الاستفتاء حكومة تسيبراس إلى الاقتراض مجددًا في يوليو من هذا العام بعد عدة مفاوضات وتفاهمات مع التروكيا أفضت إلى صفقة مساعدات من الاتحاد الأوروبي مدتها 3 سنوات بقيمة 86 مليار يورو أنقذت البلاد من شبح الإفلاس ومن خروجها من منطقة اليورو، ولكن بشروط قاسية من بينها برنامج خصخصة طموح يشتمل على بيع الموانئ والمطارات وغيرها من الأصول الحكومية.
ختامًا تعمل ألمانيا البلد المجتهد في الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على دول الاتحاد وتقويته، وبحكم أنها صاحبة أكبر اقتصاد فيه وصاحبة أكبر دين لها في اليونان وفي آخر خبر أعلنت اليونان في 14 ديسمبر كانون موافقتها على بيع 14 مطارًا إلى الشركة الألمانية “فرابورت” من ضمنها مطار ساونيكي ثاني أكبر مطار في البلاد بالإضافة إلى مطارت الجزر السياحية في أول عملية خصخصة كبيرة تقوم بها الحكومة اليسارية التي تحكم البلاد، حيث ستقوم الشركة الألمانية بتشغيل المطارت بمبلغ 1.2 مليار يورو، وبهذا كافحت ألمانيا ومعها دول الاتحاد في عدم إخراج اليونان من منطقة اليورو، وأجبرو الحكومة اليونانية الالتزام بقواعد الإئتمان مقابل حزم المساعدات وبهذا أسعفوا البلاد من الإفلاس.