بعد ثورة 25 يناير ظهرت التيارات الإسلامية بقوة ودخلت غمار السياسة ونافست في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وبدأت تظهر أحزاب تعبر عن الحركات التي تتبنى الإسلام كمشروع لتقدم الأمة ونموها.
ومع دخول الانتخابات والاستفتاءات ظهرت فكرة توحيد هذه التيارات والأحزاب تحت راية واحدة وقيادة موحدة تدير الحالة الإسلامية وتعمل على نجاح تجربتها السياسية، بل ظهرت دعوات أخرى بدمج هذه التيارات والحركات والأحزاب في إطار واحد يعبر عن الحالة الإسلامية المصرية.
ومن أهم الأوقات التي تعالت فيها هذه الدعوات هي وقت انتخابات الرئاسة، والاتفاق الذي تم بين هذه الحركات والأحزاب على اختيار مرشح إسلامي واحد تقوم الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح – هيئة تضم لفيف من العلماء والسياسيين الممثلين لكل الأحزاب والتيارات والحركات الإسلامية – باختياره وتقوم بدعمه ومساعدته للوصول لرئاسة البلاد.
بعدها حدث خلاف داخل الهيئة بعدما تم استبعاد المهندس خيرت الشاطر من الترشح للانتخابات وتم اختيار الدكتور محمد مرسي مرشحًا وممثلًا للهيئة، واعترض حزب النور والدعوة السلفية واختاروا دعم الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح.
في وقتها كنت أعتقد أن توحد قوى التيار الإسلامي وانضمامها تحت راية واحدة هو مصلحة لهذا التيار وقوة له، فتنسيق الجهود والتعاون والقيادة الموحدة تثري الحالة الإسلامية المصرية، وستكون هذه التجربة بداية ناجحة لتطبيقها في كل بلادنا العربية والإسلامية.
ولكن مع قراءتي في عوامل نجاح التجربة التركية لاحظت أنه من أهم عوامل نجاح هذه التجربة وجود عدة حركات إسلامية منظمة ومتمايزة في الطرق والوسائل والعمل، ولديها تشابه كبير في الأهداف العامة والمرتكزات الأساسية.
تتنافس دعويًا وتتسابق على إرجاع المجتمع التركي إلى قيمه ومبادئه التي نشأ وتربى عليها وكون على أساسها إمبراطوريته العظمى، وبرزت من هذا الحركات أربع حركات هي الأقوى والأعلى صيتًا وهي الحركة النورسية (النورية) وحركة السليمانيين وحركة الخدمة وحركة الفكر الوطني.
وكذلك التيارات الصوفية ويبرز منها الطريقة النقشبندية والتيجانية، وهي طرق ليست كمثيلاتها المصرية، بل هي تشتبك مع الواقع السياسي والدعوى للبلاد وتحارب فساد القيم والأخلاق، وكان لأحد قادتها في عهد أتاتورك وهو الشيخ “سعيد بيران” دور مهم في مقاومة التوجهات الأتاتوركية، حتى وصل به الأمر إلى رفع السلاح في وجه الدولة التركية وتمرده عليها.
وهي حركات ضغط سياسي لا تشترك في السياسة مباشرة إنما تعمل الأحزاب على كسب ودها لقيمتها الانتخابية، ما عدا حركة الفكر الوطني التي أسسها نجم الدين أربكان وخاضت غمار السياسية بأكثر من حزب، والآن ممثلها التقليدي هو حزب السعادة وممثلها التجديدي الذي تربى في محاضنها التربوية والفكرية والسياسية هو حزب العدالة والتنمية.
التنافس القوى والعنيف أحيانًا بين هذه الحركات له عدة مميزات، فهو يجعل كل حركة تقوم بأفضل ما عندها وتختار قياداتها بعناية وتركيز، التنافس المحموم يجعل كل حركة تحاول التجديد والتغيير والتطور لتواكب المجتمع وتطوراته، والتنافس يخلق التنوع في الوسائل والأهداف والطرق.
التنوع أيضًا يفتح مسارات وطرق جديدة للعمل وللأفراد، وتعطي فرصة لمن يريد أن يعمل في الحقل الدعوي والتربوي أن يمايز وينتقي الأفضل والذي يتفق مع رغباته وقدراته، وتنوع مصادر المعرفة والعلم والتربية للمتلقي، فيستطيع هذا المتلقي أن ينهل من كل هذه المشارب الدعوية، يستقي منها ما يشاء ويترك ما يشاء، فيتكون متلقي منفتح الفكر والعقل، لا منغلقًا على تفكير واحد ورؤية مفردة.
هذه الحركات قد تختلف سياسيًا، لكن يظل الجانب الدعوي الديني بها موحد الهدف والوجهة وهو عودة المجتمع التركي إلى قيمه وأصوله التي نشأ وتربى عليها.
عندما تقرأ مبادئ كل حركة تجدها متشابهة تقريبًا وموحدة في توجهات الجانب الدعوي، فهي تتبنى فكرة الأسلمة من أسفل إلى أعلى، مع فكرة التدرج عن طريق التربية الإيمانية الصوفية، وتزكية الأخلاق وارتقاء الإيمان، تتبنى فكرة التربية العملية عن طريق المدارس – ولحركة السليمانية والخدمة باع طويل في هذا المجال – ومدارس ودورات الأئمة والخطباء ومراكز تحفيظ القرآن.
تتبنى جماعية العمل، فكل هذا الحركات هي حركات جماعية منظمة لها إدارة ومراكز عمل وهيئات، ليس كمثيلاتها المصرية التي لا يوجد بها إلا فصيل واحد منظم هو الإخوان والجماعة الإسلامية وإن كانت ضعيفة التنظيم والعدد، وجماعية العمل تساعد في إنجاح الخطط وتعطي الحركات القدرة على تنفيذ المشروعات الدعوية الضخمة.
شمولية الفكر، فالإسلام عندهم يشمل حياة الفرد في بيته وعمله ونفسه ومع أصحابه ومن حوله، الإسلام جزء لا يتجزأ من حياة الفرد ولا يجب أن نفصله عن حياة المسلم، الإسلام حياة للمرء وحياة للأمة، يقول الشيخ بديع الزمان النورسي مؤسس الحركة النورسية: “إحياء الدين إحياءً للأمة، وحياة الدين نور الحياة” .
أما دخول الدين في السياسية فهم يتراوحون في طريقة النظر له، لكنهم يتفقون في مرجعيته الأخلاقية والمعنوية في السياسية، ويعترض بعضهم على استخدام الدين كأداة في السياسية، فهو أنزه وأشرف من أن يدخل في صراع سياسي براجماتي، يقول فتح الله كولن مؤسس حركة الخدمة “يمكن أن يختلف الناس في آرائهم، ولكن بالنسبة لي تسييس الإسلام خيانة كبيرة لروح الإسلام”.
وحدة الأمة والفرد، فالمجتمع وحدة واحدة لا فرق بين أفراده وأطيافه وفرقه ودياناته، فالرجل والمرأة كفتي ميزان الأمة، والفرد وحدة بناء الأمة، فلا بد من كفالة الحقوق والحريات له وتوفير التعليم والتربية اللائقين به وبانتمائه لأمته وحضارته.
وأولت هذه الحركات المرأة والشباب اهتمامًا خاصًا، فاهتمت بتعليم المرأة وتطوير قدراتها واندماجها في المجال العام، وعملت على إزالة العوائق من أمامها، وخاضت هذه الحركات مع الدولة التركية حروبًا قانونية وسياسية وحقوقية من أجل حرية لبس المرأة للحجاب، على اعتبار أنه حرية شخصية ولا يحق للدولة أن تتدخل في اختيارات المرأة الشخصية، وكان لحركة الفكر الوطني دورًا كبيرًا عبر أحزابها المختلفة في دخول المرأة المتدينة للبرلمان التركي.
أما الشباب فكانوا محور الاهتمام الأكبر في هذه الحركات، وما المدارس التعليمية ودورات ومدارس الأئمة والخطباء ومراكز تحفيظ القرآن إلا طريقة لجذب الشباب وتربيتهم وتعليمهم، وبناء شاب واعٍ قادر على العمل لأمته ومبادئه وقيمه.
ولحركة الفكر الوطنس فكرة رائعة أفادت الكثير من شباب الأمة التركية، وهس الاتحاد الوطني للطلبة الأتراك، اتحاد يمثل الشباب ويعمل على تنمية مهاراتهم الفنية والعلمية والأدبية والدينية والسياسية، إتحاد يقوده الشباب ويضعون خططه ومناهجه بأنفسهم، فكرة أسمهمت بعد فترة بخروج قيادات شابة هي الآن التي تقود القفزات العظيمة للتجربة التركية الحديثة.
تخصصت كل حركة من هذه الحركات في مجال ما وبرعت فيه وسدت ثغرًا في طريقها لبناء الأمة المحافظة على قيمها ومبادئها، فالحركة النورسية برعت في مجال التربية والمدارس التعليمية، ورسائل النور لمؤسس الحركة من أعظم الكتب في مجال التربية الإيمانية، حركة الخدمة وهي من مشتقات الحركة النورسية برعت في مجال المدارس التعليمية والجامعات العلمية ولها نشاط اقتصادي وإعلامي ضخم، الحركة السليمانية رائدة مدارس التعليم الشرعي ومراكز تحفيظ القرآن وتهتم بتربية النشء وتقويمه، حركة الفكر الوطني برعت في المجال السياسي والاقتصادي، أحزابها المتعددة كانت رأس الحربة في اختراق مؤسسات الدولة والتغلغل بداخلها، ولديها نشاط إعلامي واقتصادي كبير، وكان لمؤسسها دور مهم في الاقتصاد الصناعي التركي فهو مؤسس لأول شركة تركية لصناعة المولدات والمحركات “جوموش موتور” وكان رئيس غرفة الصناعة التركية.
المقارنة بين الحالة المصرية والتركية تجعلك توقن أن أمام الحركات الإسلامية المصرية كثير من العمل والجهد والتخطيط والابتكار والإبداع لكي تكون هذه الحركات قاطرة النم ، لكي تكون من عوامل بناء الإنسان والأمة والمجتمع، لكن على حالها هذا قد تكون عائق في وجه التطور الطبيعي للأفكار والأطروحات الإسلامية الحداثية.