الحديث عما يحمله العام القادم في تركيا خصوصًا على الصعيد الاقتصادي، شيء من أولى اهتمامات المواطن التركي بعد ما عصف بالاقتصاد التركي عدة أزمات، فحكومة داوود أوغلو تسعى بكامل طاقاتها المتوفرة لجعل عام 2016 هو “عام التنمية” من خلال تنفيذ مشروعات تنموية كبيرة لإضافتها إلى خانة إنجازات الحكومة بعد مرور شهر ونصف على انتخابها.
عاش المواطن التركي حزمة من الهموم تتعلق بأمن البلد بالدرجة الأولى بسبب ما شهدته تركيا من تفجيرات في عدة أماكن، وأخرى تتعلق بمعيشته بسبب انخفاض قيمة الليرة أمام الدولار وتوتر العلاقات بين روسيا وتركيا وما ستؤول إليه الأمور.
مع كل تلك المخاطر التي واجهت تركيا في هذا العام، نجد أن خطاب الحكومة بقيادة داوود أوغلو ورئيس البلاد رجب طيب أردوغان شابه كثير من المرونة تارة والحزم تارة أخرى ونظرة مستقبلية بخصوص توظيف الموارد المحلية بشكل أفضل.
إن الحديث عن الاقتصاد التركي خلال عام 2016 تفرض قضاياه الواقع الاقتصادي على مستوى الحكومة التركية وفيما يلي نتناول أهم القضايا التي يتوقع لها أن تشكل أجندة الحياة الاقتصادية بتركيا خلال العام القادم.
أزمة الطاقة
لا تخفى أزمة الطاقة التي تعاني منها تركيا على أحد، فتركيا مرتبطة بمعاهدات دولية حتى عام 2023 وغير قادرة على التنقيب واستخراج الموارد الطبيعية المدفونة في أراضيها، لذلك تستورد ما يقرب من 90.5% من النفط و98.5% من الغاز الطبيعي.
تعد روسيا مصدر الطاقة الرئيسي لتركيا إذ تزودها بـ 55% من احتياجاتها من الغاز و30% من احتياجاتها النفطية، وبعد إسقاط الجيش التركي لطائرة السوخوي على الحدود السورية في 24 نوفمبر الماضي أعلنت موسكو سلسة من العقوبات الاقتصادية ضد أنقرة تشمل قطاع السياحة والزراعة ووقف أعمال اللجنة الاقتصادية المكلفة بالتفاوض على خط “تورك ستريم” علمًا أنه لم يبدأ بعد لعدم تلبية الطلبات التركية من قِبل الروس.
وحتى الساعة لم تُفرض أي أعمال انتقامية على قطاع الطاقة من قِبل روسيا، إلا أن تركيا احترزت من هكذا خطوة كما صرّح أردوغان في خطاب له بعد تصاعد وتيرة الأزمة مع روسيا بخصوص الطاقة حيث قال: “من الممكن إيجاد مصادر أخرى”، مشيرًا إلى قطر وأذربيجان.
حيث ذهب رئيس الدولة أردوغان إلى قطر في 1 ديسمبر وقام بتوقيع 16 اتفاقية بين البلدين أهمها استيراد الغاز المسال القطري وتخزينه في تركيا، وذهب داوود أوغلو إلى أذربيجان في 4 ديسمبر لإيجاد بدائل في حال قطع إمدادات الغاز من قِبل روسيا، وحسب تصريحات لوزير الاقتصاد التركي مصطفى اليتاش فإن تركيا حصلت على خصم 40% من الغاز الطبيعي الذي ستستورده من أذربيجان.
كما قد تستعيض تركيا مشروع “ترك ستريم” بمشروع “TANAP” و”TAP” المتوقع إنهاءه في عام 2018 والذي سيضع تركيا في موقع إستراتيجي مهم إقليميًا لتوزيع الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، حيث سيوصل الغاز من أذربيجان مارًا بتركيا إلى اليونان وبلغاريا ليصل إلى أوروبا بتكلفة تقدر بـ 45 -47 مليار دولار، ومن المتوقع أن تبدأ إمدادات الغاز الأذري إلى أوروبا عام 2020 بحجم 10 مليارات متر مكعب و6 مليار متر مكعب إلى مناطق غرب تركيا.
ومن المتوقع أن تخفض تركيا من الغاز البترولي المسال المستورد من روسيا بنسبة 25% العام القادم 2016 بهدف خفض وارداتها من روسيا، ومن الممكن أن تستعيض تركيا فيه بالنفط من نيجيريا والولايات المتحدة والسعودية والجزائر حسبما أفادت عدة مصادر في الحكومة التركية.
تسعى تركيا في العام القادم لاستبدال 16.45 مليار دولار ثمن واردات الطاقة من روسيا بإقامة محطات لتوليد الطاقة باستخدام محطات الطاقة الشمسية والمولدات الهوائية باستثمارات تصل إلى 10 مليار دولار.
تحاول تركيا إذا في عام 2016 لتنويع مصادرها الطاقوية من النفط والغاز، والانعتاق من الروس بشكل أكبر.
أزمة النمو
شهدت تركيا تفجيرات عدّة هددت مستوى الأمان في عموم البلاد وتخوف المسؤولون في وقت ما من أن تؤثر تلك التفجيرات على قطاع السياحة والاستثمارت الأجنبية.
ففي يونيو تبنى حزب العمال الكردستاني في ديار بكر تفجير بسيارة مفخخة أدى لمقتل جنديين تركيين، كما قام بعدة هجمات أدت لمقتل جنود أتراك على الحدود مع سوريا، وفي يوليو شهدت بلدة سوروج الحدودية التابعة لولاية شانلي أورفة في تركيا تفجير أدى لمقتل 30 شخصًا وخلف 100 جريح ووجهت أصابع الاتهام إلى تنظيم الدولة الإسلامية.
وردًا على هذه الهجمات دخلت تركيا بشكل رسمي في 27 يوليوحزيران مع التحالف الدولي لضرب الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني (تنظيم البي كي كي) وهذا أدى لانهيار مفاوضات السلام وعودة الصراعات بين البي كي كي والدولة التركية.
وفي أكتوبر وقع تفجيران انتحاريان في أنقرة أودى بحياة 128 شخصًا ومئات الجرحى واتهم تنظيم الدولة الإسلامية بتنفيذه، وأخيرًا جاء إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر من قِبل سلاح الجو التركي لتعلن روسيا عن حزمة عقوبات اقتصادية ضد أنقرة.
عززت حالة عدم الاستقرار الأمني في البلاد الغموض الذي اكتنف الاستقرار السياسي في البلاد بعد ذهاب البلاد إلى جولة إعادة للانتخابات النيابية في 1 نوفمبر أفرزت بالنهاية فوز العدالة والتنمية بنسبة 49.5%.
إلا أنّ فوز العدالة والتنمية في جولة الإعادة شكل منعطفًا مهمًا على الساحة السياسية والاقتصادية في تركيا حيث انتهت غمامة عدم الاستقرار الذي كان يشوب المشهد السياسي في البلاد، وتعزز شعور المستثمرين الأجانب بالاقتصاد التركي الذي أبهرهم بتحقيق معدلات نمو مرتفعة أكثر من السنة الماضية؛ حيث حقق الاقتصاد التركي نموًا في الربع الثالث من 2015 أكثر من المتوقع بنسبة 4% وشهدت نسبة النمو ارتفاعًا خلال الأرباع الثلاثة الأولى من هذا العام بمعدل 3.4% مقارنة بنفس الفترة في عام 2014.
كما ستعمل على إلغاء العقبات المفروضة أمام الصادرات والواردات؛ حيث سيتم تطوير النظام البيروقراطي الذي تعاني منه تركيا بهدف جلب المزيد من الاستثمارات وتعزيزها في الأراضي التركية، حيث من المتوقع أن تتجاوز الصادرات التركية مع نهاية هذا العام إلى أكثر من 150 مليار دولار على الرغم من كل المشاكل والعقبات التي واجهتها البلاد وفي ظل المعطيات الحالية من المتوقع أن ترتفع الصادرات إلى 200 مليار دولار.وفي العام المقبل ستفتتح تركيا ثاني أطول نفق في العالم يربط بين ولايتي أرضروم وريزه التركيتين قُدّرت نفقته 719 مليون ليرة تركية،
وكنظرة استشرافية لعام 2016 ستحافظ حكومة أوغلو على زيادة قدرات النمو في البلاد للعام القادم من خلال إصلاحات سيجريها العدالة والتنمية خلال مدة حكمه في السنوات الأربع المقبلة حسب تعبير داود أوغلو في اجتماع يوم الخميس حيث عرض فيه خطته لعام 2016، لقد ساهمت التنمية والرخاء الذي تشهدهما تركيا عبر الاستقرار السياسي وإصلاحات الحكومة إلى تحول النظرة المستقبلية لتركيا إلى منحى إيجابي.
الانضمام للاتحاد الأوروبي
شهد ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي انفراجًا هذه السنة كان آخرها اجتماعا في 14 ديسمبر لفتح فصل”السياسات الاقتصادية والنقدية” رقم 17 من فصول مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي الذي يهدف إلى بناء بنية اقتصادية قوية وتقوية التنسيق الاقتصادي بين دول الاتحاد.
يُذكر أن وتيرة المفاوضات ارتفعت بين تركيا والاتحاد الأوروبي في الآونة الأخيرة على خلفية أزمة تدفق اللاجئين السوريين نحو بلدان أوروبا الغربية.
تم فتح 14 فصل من أصل 33 فصلًا تفاوضيًا حتى اليوم، وأشار كبير المفاوضين الأتراك فولكان بوزكير أن فتح الفصل 17 له دلالة كبيرة لتركيا حيث يعد مؤشرًا مهمًا لمستوى الانسجام العالي الذي حققته في مجال التفاوض مع دول المفوضية الأوروبية، لافتًا أن تركيا ستتقدم في مفاوضاتها العام المقبل بسرعة مرضية بفضل هذا المستوى من الانسجام.
الليرة التركية
شهدت الليرة التركية خلال عام 2015 انخفاضًا في قيمتها أمام الدولار الأمريكي في سلسلة غير مسبوقة من الانخفاضات منذ عام 1999 علمًا أن معدلات النمو تشهد تحسنًا ملحوظًا عن السنة الماضية وواصل الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعه للسنة الخامسة على التوالي وخلال الشهور الثمانية الأولى من عام 2015 حققت الحكومة التركية فائضًا في الموازنة بلغ 208 مليون دولار حسب وزارة المالية.
حقق سعر صرف الدولار أمام الليرة تراجعًا قياسيًا بلغ 3.07 وتعود أسباب هذا الانخفاض إلى انهيار عملية السلام الداخلي مع حزب العمال الكردستاني، وعدم الاستقرار الأمني بسبب سلسلة الانفجارات التي شهدتها البلاد وعدم الاستقرار السياسي بعد أول جولة انتخابات نيابية لم تحسم لصالح أحد من الأحزاب لتشكيل الحكومة ما أدى إلى شبه عدم استقرارسياسي في البلاد انتهى بعد فوز العدالة والتنمية بالجولة الثانية في الأول من نوفمبرتشرين الثاني.
وأتت رفع الفائدة الأمريكية في منتصف هذا الشهر لترتفع إلى نطاق 0.25 – .0.5 % علمًا أن تركيا كانت أحد أكثرالمستفيدين من خفض سعر الفائدة الأمريكية إلى ما يقارب الصفر في عام 2008 حيث تدفقت الاستثمارات الأجنبية إلى تركيا بشكل هائل وحقق الاقتصاد التركي نموًا عاليًا بنسبة 9% في عام 2010 وعام 2011.
إلا أن الأثر سيكون محدودًا مادام سعر الفائدة بقيمة منخفضة لذلك من المستبعد أن تشهد تركيا في العام المقبل سحوبات استثمارية منها لأن سعر الفائدة لايزال منخفضًا، ولكن من غير المتوقع أن تعود الليرة التركية إلى مستوياتها السابقة عند مستوى 2 ليرة مقابل الدولار وذلك بسب تأثيره على ارتفاع تكلفة سلعها بالنسبة للمستورد، وعليه في ظل ارتفاع سعر الفائدة الأمريكية أكثر مستقبلاً فإنه من المتوقع أن تشهد الليرة خفضًا متعمدًا أكثر في سبيل تشجيع صادراتها.
المستقبل
الحديث عن عام جديد في تركيا يعني التفاؤل بالأفضل والحديث عن استثمارات جديدة ومشاريع جديدة، ستسعى حكومة أوغلو أن لا يمر 2016 كما مرّ 2015 ستعمل خلالها على تنويع مصادر الطاقة بشكل فعال واستبدال جزء من الواردات بالطاقة البديلة المولّدة من الرياح والشمس. ستركز على بناء قدراتها الإنتاجية المحلية أكثر دون الاعتماد على الخارج والارتهان باستثمارات أجنبية همها الربح دون المصلحة الوطنية.
معدلات النمو في تحسن ومؤشرات الاستثمار مفائلة وتسعى الحكومة لتعزيزها من خلال منح قروض بلافائدة للشباب الأتراك وفتح خطوط إنتاجية أخرى مثل إنتاج طائرات ركاب خاصة، وإطلاق قمر فضائي، ومشاريع في البنية التحتية تحقق معدلات عالية من التوظيف والنمو.