لقد كان لفشل ثورات الربيع العربي في جولاتها الأولى أثر كبير في تحويل عملية الحراك الثوري إلى عملية استقطابية بشكل قوي، حيث أدت الهزيمة في الجولة الأولى من الثورات إلى حالتين لدى الأطراف الثورية الفعالة؛ أولهما هو حالة اليأس والتسليم بانتهاء الحالة الثورية وأن كل ما يحدث الآن ما هو إلى محاولات فاشلة لإحياء ما تم دفنه بشكل كامل.
أما الحالة الثانية، وهي الأكثر تأثيرًا الآن، هي الثورة الحقيقية على كل شيء، فلم تعد الثورة في تلك الحالة مجرد محاولة لتغيير الأنظمة الفاسدة داخل كل إقليم، بل تخطى مفهوم الثورة ذلك الحد كثيرًا وأصبحت الحالة الثورية مواجهة للأنظمة العالمية برمتها.
الثورة في تلك الحالة كانت على كل ما يتعلق بالأنظمة العالمية الحالية بشكلها الاقتصادي والسياسي وشكل الدولة فيها وآليات الحكم والشورى وكل شيء، حتى أن أبناء ذلك الاتجاه بدأوا بالفعل بالثورة على الحدود الجغرافية ومواجهة النظام العالمي بشكل واضح وصريح.
يظهر هذا بشكل واضح في حالة الانتشار الواسعة التي حققتها الجماعات الجهادية في المنطقة، وعلى رأسها تنظيم الدولة؛ حيث استغلت حالة الفشل التي لحقت بالثورات وازدياد سخط الشباب وقامت بتحويل تلك الرغبة إلى طاقة محركة على الأرض ضد النظام العالمي كله والدخول بصدر مفتوح في حالة مواجهة مباشرة مع النظام العالمي كله لتنفيذ رؤية جديدة على أرض الواقع تشمل القيام بشكل جديد للدولة ونظام الحكم والتعليم والصحة والاقتصاد وغيرها من المجالات التي قام تنظيم الدولة بإيجاد أشكال أخرى لها غير شكلها الحالي المرتبط بصورة أو بأخرى بالنظام العالمي الحالي.
جعلت حالة الفشل في الثورات من الوسائل التي تبناها قادة الحراك الثوري والسياسي محل نقد لدى الكثير من الشرائح الشبابية التي آمنت بالثورة لكنها صُدمت حين تم إجهاضها بهذا الشكل ووجدت أن ما قدمته الثورة من تضحيات لم يُكافأ بعد بالقدر المطلوب من التغيير بل أصبحت الأوضاع أكثر سوءًا.
ترتب عليه تشكيل قناعات جديدة وسط تلك الشرائح بأن أدوات تلك المرحلة يجب أن تكون أكثر قوة وووجوب اعتمادها على شكل جديد للحكم غير الأشكال التي يستخدمها النظام العالمي حاليًا والتي فرضت على العالم كله وأصبحت مهيمنة على كل خطوة يخطوها الحكام بل والشعوب في العالم.
تلك القناعة عند الشباب ولدت طاقة عدائية قوية ضد الهيمنة الغربية بأشكالها التي يصدرها ويفرضها على دول المنطقة، فإذا نظرنا إلى أغلب المنضمين إلى الجماعات الجهادية الآن سنجد أنهم وإن كانوا لا يدركون الأبعاد العقدية والشرعية لفكرة تحريم العملية الديموقراطية جيدًا، إلا أن كفرهم وثورتهم على تلك العملية وعدم رغبتهم في دخولها مرة أخرى أصبح واضحًا، ليس لثقتهم وطاعتهم في مصدر الفتوى وحسب، بل أيضًا بسبب التجارب التي خاضوها خلال السنوات القليلة الماضية والتي جعلتهم يدركون أن كل ما يحاولون تحقيقة في الثورات يتم تطويقه بشكل أو بآخر من النظام العالمي الحالي.
لقد أصبح ما تبحث عنه تلك الشرائح هو المحرك الأول لها للانضمام للتنظيمات الجهادية التي وجدوا فيها ضالتهم لتغيير تلك المنظومة العالمية، حيث فرضت تلك التنظيمات رؤيتها على الساحة بقوة السلاح بل ونجحت في تحقيق الكثير من الأهداف الإستراتيجية مما ساعدها على استقطاب المزيد من الشباب الذين وجدوا ضالتهم أخيرًا.
ذلك الوضع المتشابك أنشأ حالة استقطاب شديدة داخل التيار الإسلامي، باعتباره أقوى التيارات تنظيمًا وأكثرها عددًا في المنطقة، بين رؤية وأدوات تيار الإسلام السياسي في المنطقة، على رأسه جماعة الإخوان المسلمين، وبين رؤية تيار الإسلام الجهادي، على رأسه تنظيم الدولة؛ مما شكًل حالة شديدة من الاستقطاب الذي بدأ في تشتيت الطاقات على مفترق طريق الأصل أنه بلا مفترقات.
فالأصل أن الأساس الذي يعتمد عليه كل جناح من الجناحين واحد يشملهم معًا إلا أن حالة الفشل التي نتجت عن الثورات جعلت الكفة تصب ناحية الجناح القوي، وجعلت كل تيار من الاثنين يتمسك بطرحه وتحولت وسائله إلى أهداف وغايات وذلك لمحاولة إثبات صحة المشروع، فصار الالتفاف حول الوسيلة أولى من الغاية من تلك الوسيلة، فالتمسك بالسياسة لآخر نفس من جانب الإخوان أصبح أولوية وفي المقابل أصبح السلاح الأولوية الأساسية عند تنظيم الدولة.
إن السياسة والسلاح وجهان لعملة واحدة، وتلك العملة مجرد وسيلة ليست غاية في حد ذاتها، وتحويلها إلى غاية كما يحدث الآن جعل منها سلاحًا ينقلب على مستخدمه في أغلب الأوقات، فالسياسة وحدها تم الالتفاف عليها وتقويضها، والسلاح فقد بوصلته في أغلب الأوقات فأصبحت الأولويات في الحرب خاطئة.
تحتاج الثورات حاليًا إلى رؤية جديدة تبدأ بتشخيص الوضع الحالي بشكل جيد لكي تنطلق من أساس متماسك ومن ثم معرفة الإمكانات والقدرات والتفريق جيدًا بين المفروض والمتاح وبين الوسيلة والغاية ومعرفة الوقت المناسب لكل وسيلة وما هي حدود وكيفية استخدامها، حينها وفقط سوف تنجح في سد الفجوة وملء حالة الفراغ الشديدة بين القطبين الأقوى على الساحة الآن وستساهم بشكل فعال في تحريك المياه الراكدة والانطلاق مجددًا نحو موجة ثورية جديدة.