ترجمة وتحرير نون بوست
تعرف روسيا على وجه الدقة كيفية استثارة خصومها الجيوسياسيين، فمنذ قامت تركيا بإسقاط طائرة سو 24 المقاتلة الروسية، مفاقمة بذلك التنافس المتوتر أساسًا حول الهيمنة الإقليمية، شرعت موسكو بمعاقبة أنقرة سياسيًا واقتصاديًا، والآن، وفي سبيل تحقيق هدفها باستعداء أنقرة بشكل أكبر، تمارس موسكو نفوذها الكبير ضمن بقعة حساسة بشكل خاص بالنسبة لتركيا، المسألة الكردية.
من المخطط أن يستقبل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوم الأربعاء المقبل صلاح الدين دميرطاش، زعيم حزب الشعوب الديمقراطي، أهم حزب سياسي كردي في تركيا، ووفقًا لدميرطاش، الذي أعلن عن اجتماع موسكو يوم السبت من محافظة ديار بكر، وهي ساحة المعركة الرئيسية للقوات التركية والكردية، فإن حزب الشعوب الديمقراطي سيؤسس مكتبًا له في موسكو، والسياسون يدعّون بأن ديمرطاش يفعل الآن ما عجز عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو إصلاح العلاقة بين تركيا وروسيا، ولكن ما لم يُذكر على العلن، هو أن دميرطاش يريد أن يُظهر لأردوغان بأن الأكراد هم قوة سياسية لا يمكن تهميشها في الانتخابات أو سحقها في الشوارع، كما يأتي هذا الاجتماع، كلقاء دبلوماسي هو الأعلى بمستواه بين روسيا وتركيا منذ توتر العلاقات بين البلدين الشهر الماضي، وذلك بعد رفض الكرملين بصراحة التصالح مع أنقرة.
بجميع الأحوال، المشاكل الروسية – التركية تتجاوز مجرد مسألة إسقاط طائرة سو-24؛ فرغبة موسكو بتعزيز وجودها في الشرق الأوسط تتناقض أساسًا مع الرغبة التركية الساعية لذات الهدف، وروسيا تدرك بأنها من خلال دعم الأكراد ستضعف أنقرة، وتحقيقًا لهذه الغاية، أصرت روسيا الأسبوع الماضي على ضرورة حضور حزب الاتحاد الديمقراطي، الحزب الكردي السوري المرتبط مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، على طاولة المفاوضات جنبًا إلى جنب مع غيره من جماعات المعارضة السورية الأخرى، وفي أكتوبر، دعت روسيا حزب الاتحاد الديمقراطي أيضًا لافتتاح مكتب له في موسكو، مؤكدة رغبتها بالتنسيق مع الحزب والحكومة السورية لاستهداف تنظيم الدولة الإسلامية.
مؤخرًا، تحدثت روسيا عن دعمها لميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي، المعروفة باسم وحدات حماية الشعب، في حربها ضد الدولة الإسلامية وضد المسلحين الذين يسيطرون على الأراضي التي تحيط بمدينة أعزاز بالشمال السوري، ولكن الجماعة الكردية السورية سارعت إلى نفي هذا الدعم، متخوفة من الدعم المفتوح المقدم من موسكو، وهذا يبدو أمرًا منطقيًا نظرًا لأهمية الدعم الأمريكي الذي يُقدم لقوى حزب الاتحاد الديمقراطي، ولكن الواقع يشير إلى أن الروس وجهوا ضربات جوية عميقة ضد مواقع للدولة الإسلامية في شمال حلب، متجنبين، حتى الآن، خطوط وحدات حماية الشعب، كما أن الطائرات الروسية استهدفت أيضًا الطرق اللوجستية التي يستعملها المسلحون الممتدة من تركيا إلى الداخل السوري، ولكن مع ذلك، فإن مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي في المفاوضات السورية قد تؤدي في نهاية المطاف إلى ظفر الأكراد بالحكم الذاتي في شمال سورية، وهي المنطقة التي ستصبح، إن تأسست، معقلًا خصبًا لنشاط أكراد حزب العمال الكردستاني الذي قد يوجه ضرباته لتركيا من هناك، وبالطبع، فإن هذا السيناريو إن تحقق سيكون كارثيًا بالنسبة لتركيا، وروسيا تدرك ذلك جيدًا.
بالنسبة لدميرطاش، اللقاء مع وزير الخارجية الروسي يدلل على أهمية حزب الشعوب الديمقراطي وقدرته على كسب الدعم من موسكو، وهو الدعم الذي تمتع به حزب العمال الكردستاني لعقود خلت، علمًا أنه في الوقت الذي يُصنف به حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يتمتع حزب الشعوب الديمقراطي بوضع قانوني شرعي باعتباره حزبًا سياسيًا يتمتع بتمثيل في البرلمان التركي، وفقًا لنتيجة الانتخابات التركية الأخيرة، ورغم أن حزب الشعوب ينأى بنفسه رسميًا عن حزب العمال الكردستاني، إلا أن كلا الحزبين يتشاطران ذات المثل العليا والأهداف والرعاة.
تتمتع روسيا بتاريخ غني من دعم حزب العمال الكردستاني والجماعات الكردية الأخرى، حيث تم تأسيس الحزب خلال الحقبة السوفييتية، ويتقاسم الحزب أيديولوجيته اليسارية مع موسكو، وفي تلك الفترة قدم الاتحاد السوفييتي الملاذات الآمنة في جميع أنحاء الاتحاد للسكان الأكراد المتحركين من وإلى الحدود بشكل مستمر، وفي الواقع، تم إنتاج فيلم “زاريه”، وهو أول فيلم ناطق باللغة الكردية يتحدث عن قصة حب صامتة باللونين الأسود والأبيض حول شاب قروي محطم يحاول حماية عروسه من خطط الإقطاعي الشرير، في الاتحاد السوفييتي في عام 1926، وبالمجمل، سهّل السوفييت انتشار وسائل الإعلام والدعاية الكردية بدءًا من أربعينات القرن المنصرم، كما قدمت حليفة الاتحاد السوفييتي، سورية، ملاذات آمنة لحزب العمال الكردستاني، وعملت المجموعة بطريقة شرعية ضمن كامل روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينات القرن المنصرم.
يأتي التدخل الروسي في الشؤون التركية – الكردية في وقت حساس للغاية، ويتزامن مع انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وحزب العمال الكردستاني في يوليو، حيث ازدادت المواجهات إلى حد كبير بين قوات الأمن التركية وحزب العمال الكردستاني، وفي الأسبوع الماضي، شن الجيش التركي إحدى كبرى عملياته العسكرية المحلية في السنوات الأخيرة ضد حزب العمال الكردستاني، كما نشرت أنقرة حوالي 10.000 عنصر أمن تركي مدعومين بالدبابات، وعلاوة على ذلك، توعد أردوغان بـ “إبادة” أعضاء حزب العمال الكردستاني في منازلهم الأسبوع الماضي، وبالعموم، ومنذ انهيار اتفاق وقف إطلاق النار في يوليو، تم فرض عشرات أوامر حظر التجول، وقتل الآلاف في عمليات مختلفة، بما في ذلك الضربات الجوية التركية ضد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل في كردستان العراق.
رغم الشدة التي تتعامل بها أنقرة مع حزب العمال الكردستاني، إلا أن أعضاء من البرلمان التركي يتطلعون لنزع فتيل القضية الكردية عن طريق الحوار؛ فالمشرعون في أنقرة يحثون الحكومة حاليًا لاستئناف المحادثات مع الأكراد بالتزامن مع اطراد حدة الاشتباكات في جنوب شرق تركيا، ويوم الإثنين، دعا نائب رئيس ثاني أكبر حزب سياسي في تركيا للحوار المفتوح في البرلمان بدلًا من العنف، كما دعا حزب العدالة والتنمية الحاكم أيضًا لإجراء المحادثات، علمًا أن هذه اللهجة السياسية التصالحية تجاه حزب الشعوب الديمقراطي تهدف لدق إسفين للتفريق ما بين الحزب السياسي الكردي وتشدد حزب العمال الكردستاني بغية إعادة حزب الشعوب إلى الحظيرة السياسة التركية، ولكن مع ذلك، من المرجح أن تُثبت هذه المهمة بأنها صعبة للغاية؛ فيوم الثلاثاء المنصرم، أعلن دميرطاش بأن منطقة الأناضول في جنوب شرق تركيا احتضنت فكرة الحكم الذاتي في مواجهة ما سماه ديكتاتورية أنقرة، بل ذهب أبعد من ذلك لدرجة وصف الانتخابات المبكرة التي دعا إليها حزب العدالة والتنمية، عقب فشله في تحقيق الأغلبية اللازمة في انتخابات 7 يونيو، بـ “الانقلاب”.
اليوم، ومع استفادة الأكراد على نحو متزايد من الرعاية الروسية، يجب على تركيا أن تواجه بعض الحقائق؛ فتزايد قوة الدائرة الانتخابية السياسية الكردية في تركيا قد يؤدي إلى دفع طروحات الحكم الذاتي الكردي، وهذا الأمر الذي قد يتزامن مع قيام المجموعات الكردية التي تسيطر على شمال سورية بدعم حزب العمال الكردستاني في هجماته عبر الحدود إلى الداخل التركي، وبذات القدر من الأهمية، أجندة أنقرة الساعية لزيادة نفوذ تركيا في الشرق الأوسط لن تتعلق أو ترتهن للانحرافات السياسية والأمنية التي تحدث داخليًا؛ فتركيا فشلت حتى الآن في وقف تصعيد الأمور مع روسيا بسبب رفض أنقرة الاعتراف بخطئها من خلال الاعتذار والتعويض المناسب، ولهذا السبب ردت موسكو بفرض عقوبات تستهدف الصادرات التركية، وباتهام أردوغان بحيازة صلات مع تنظيم الدولة الإسلامية في مجال النفط.
أخيرًا، لا بد من الاعتراف بالبراعة الروسية في تحديد نقطة ضعف الخصم المتصورة ومن ثم ممارسة الضغوطات عليها، وفي الحالة التركية، وجدت موسكو نقطة الضعف المنشودة في القضية التركية، وما يحصل الآن مستوحى من المثل الروسي الذي نقله في وقت سابق من هذا الشهر الصحفي التركي المخضرم جنكيز جاندار في صحيفة راديكال اليومية: “إذا قمت بدعوة الدب إلى الرقص، فلست أنت الذي سيقرر متى ستنتهي الرقصة، بل إن الأمر مرهون بالدب”.
المصدر: مركز ستراتفور