رحلة السوريين في الداخل السوري المحفوف بالمخاطر إلى المنفى

000_par8293912

ترجمة وتحرير نون بوست

يرن الهاتف كما هو متوقع، ويتحدث رفيق بثقة تامة؛ رفيق هو محارب سابق في الجيش السوري الحر، وهم مجموعة من الضباط والجنود الذين انشقوا عن الجيش السوري، وكان ناشطًا في منطقة درعا في جنوب سورية.

وصل رفيق لتوه إلى ألمانيا مع زوجته وطفليهما بعد رحلة استمرت لمدة شهر، قضت العائلة منها 10 أيام وهي تتنقل ضمن مناطق الفوضى السورية، وتجري بين الأصوات الحرب المدوية وشبكات التهريب غير المشروعة.

“عائلتي لم تكن ترغب بأن أغادر، ووالدتي نعتتني بالمجنون، وقالت لي بأنني لا يحق لي أن أعرض حياة أطفالي لخطر من هذا القبيل”، يقول الجندي السابق، ويضيف بصوت متهدج: “ولكن في كل يوم في سورية يموت النساء والأطفال تحت قصف القنابل، وابنتي الصغرى كانت تشهد الموت مع كل يوم يمر”.

في معظم الوقت، تبدأ رحلة السوريين الذين يقطنون في المناطق الجنوبية من مدينة درعا، التي تقع قرب الحدود الأردنية، وفي البداية يتم جمع كافة الراغبين بالسفر من قِبل الجيش السوري الحر، ومن بين أولئك الأشخاص سوريين لجأوا سابقًا إلى الأردن، ووجدوا أنفسهم بعد حين غير قادرين على التأقلم مع الظروف المعيشية هناك وقرروا اللجوء إلى أوروبا، وغالبًا ما يكون هؤلاء مطلوبين للسلطات السورية، ولكونهم لا يمتلكون وثائقًا قانونية فإنهم لا يستطيعون السفر جوًا إلى تركيا، مما يضطرهم لركوب طريق البر، أما البعض الآخر من هؤلاء اللاجئين فهم سوريون عاشوا وشهدوا أهوال الحرب في الداخل السوري منذ اندلاع النزاع، ولكن وفاة أحد أقاربهم، الخوف من مصيرهم، أو خيبة الأمل التي عانوا منها، دفعتهم قسرًا ليقرروا في نهاية المطاف أن يخاطروا بحياتهم لركوب طريق البر هربًا من سورية.

يجب على كل شخص يرغب بالمغادرة دفع مبلغ 400 دولار كدفعة مقدمة للجيش السوري الحر، الذي يعمل على تقسيمها ما بينه وبين المهربين، وبعد نقطة التجمع في درعا يتم نقل المسافرين إلى السويداء، وهي مدينة تقع شرقي درعا في الجنوب السوري، ولكن بالنسبة لأولئك الأشخاص المنفيين، الذين يتمتعون بصلات وثيقة مع المعارضة السورية، اسم السويداء يحفز الرعب في قلوبهم؛ فتلك المنطقة الجبلية مُسيطر عليها بالكامل من قِبل حكومة الأسد، وهي تشكل في الواقع بالنسبة لهم رمزًا للقمع الوحشي الذي مارسه الجيش السوري بعد اندلاع الثورة السورية.

“إنهم لا يكترثون لماضيك، سواء كنت عضوًا سابقًا في إحدى الجماعات الثورية أم لم تكن، ما يهمهم حقًا هو المال” قال رفيق بلهجة ساخرة، وأوضح بأنه خلال الرحلة لا يتم التدقيق بالوثائق الشخصية ولا بالأمتعة؛ فالمهربون، وهم غالبًا من البدو، يتفاوضون على سعر العبور مع المسؤولين عن نقاط التفتيش، وكما يقول: “ينظر المسؤولون في الدولة السورية اليوم إلى مقاتلي الجيش السوري الحر السابقين وأسرهم كمجرد سلع للتكسب”.

“أصبحنا بيادق ضمن رقعة شطرنج حقيقية”

قرر رفيق الانشقاق من القوات المسلحة السورية بسبب الطريقة المربكة والمجنونة التي تحول إليها الصراع بمجمله، حيث يقول: “الضباط العسكريون في الجيش السوري يأمرونك بأن تقتل وتقتل، مرة بعد أخرى، ولكن لماذا يجب عليّ أن أقتل هذا الشخص الذي يقف أمامي؟ إنه سوري مثلي، أليس كذلك؟”.

بشكل عام، أضاع رفيق البوصلة التي كان يهتدي بها، حيث يقول آسفًا: “هذه الحرب لم تعد لنا، لقد أصبحت حرب القوى العالمية الكبرى على أرضنا، لقد حولونا إلى بيادق بسيطة، وقضيتنا لم تعد ملكنا بعد الآن”، ويضيف متحدثًا بلهجة حازمة للغاية، كما لو كان على وشك أن يقول أمرًا محرمًا: “اسمحوا لي بأن أقول لكم شيئًا خطيرًا ها هنا، شيئًا قد أتعرض للقتل لأنني قلته، في سورية لم يعد المقتول شهيدًا بعد الآن، ففي الدين الإسلامي، الشهيد هو من يموت دفاعًا عن المجتمع المسلم، أو دفاعًا عن أرضه، ولكن اليوم، الحال لم يعد كذلك، لقد انتهى الأمر”.

الحرب السورية تركت ندوبها الغائرة، حرفيًا، في جسد رفيق، فهو لا يزال يعاني من وجود شظايا استقرت في رأسه، “حتى اليوم، ما زلت أعاني من جروح جرّاء الحرب”، يقول رفيق، ولكن مع ذلك، الإصابات ليست هي بحد ذاتها التي دفعته لترك النزاع، بل ما دفعه حقًا لذلك هو شعوره بعبثية تضحياته التي لم يعد لها طائل، حيث يقول: “لقد انخرطت في صفوف الثورة التي آمنت بها حقًا، ولكن اليوم، لم يعد لدي أي فكرة ما الذي أضحى يعنيه كل ذلك”.

المسار الذي يختاره المهربون لمرور المهاجرين يعكس تناقضات الحرب السورية، فالطريق يمر من مناطق سيطرة عسكرية يعادي بعضها الآخر؛ فبمجرد مرورهم عبر نقاط تفتيش “المؤيدين”، يقتاد المهربون البدو صفوف اللاجئين إلى أراضي العدو، المتمثل بتنظيم الدولة الإسلامية، ففي نهاية رحلة المسير المتعبة ضمن الصحراء وتحت ضوء القمر، يصل موكب اللاجئين في نهاية المطاف إلى أراضي الخلافة الإسلامية مع مطلع الفجر.

“هناك، يقوم مقاتلو داعش بوضعنا ضمن شاحنات صغيرة لامعة، نقطع ضمنها مسافة حوالي 200 كم أخرى لنصل إلى قرية رجم البقر”، يقول علاء، وهو لاجئ آخر قطع هذا الطريق في نوفمبر الماضي، لصحيفة الميدل إيست آي.


الصورة: الطريق الذي يقطعه اللاجئون السوريون داخل سورية، الخط الأحمر يعبر عن مناطق سيطرة داعش.

منطقة تخضع لرقابة شديدة

تقع هذه القرية في أقصى جنوب الأراضي التي احتلتها الدولة الإسلامية، وهي الأراضي التي تمتد على جانبي الحدود السورية – العراقية، لمساحة تصل إلى 300.000 كيلومتر مربع ويقدر عدد سكانها بنحو 10 مليون نسمة.

رغم المساحة الكبيرة، تخضع أراضي التنظيم الشاسعة لمراقبة شديدة؛ ففي رجم البقر، يتم تفتيش أجهزة اللاجئين الإلكترونية وأمتعتهم بعناية كبيرة، وبعد ذلك يُسمح للقافلة بالتحرك لتقطع مسافة قدرها 450 كيلومترًا أخرى لتصل إلى إحدى مراكز الخلافة الكبرى على ضفاف نهر الفرات، مدينة الميادين.

بمجرد وصولهم إلى الميادين، يتم فصل الرجال عن النساء، تُعصّب عيونهم، ويُقتادون لمقر ديوان الحسبة، القوة الشرطية المرعبة التابعة لداعش والمسؤولة عن تنظيم الطرق العامة، “من خلال عصابة عيني، كنت قادرًا على رؤية مبنى ضخم، يتجول داخله مئات الأشخاص في جميع الاتجاهات”، يقول رفيق.

يتم جمع المسافرين في غرفة واحدة أمام القضاة الإسلاميين، وهناك يواجهون استجوابًا مكثفًا، يتم سؤالهم خلاله حول انضمامهم في أي وقت مضى للجيش السوري الحر، والذي يعتبره التنظيم جيش الكفار، “القلة الذين أنكروا في البداية، اعترفوا في نهاية المطاف تحت الضغط، وبعد اعترافهم يتم ضربهم واعتقالهم”، يكشف رفيق.

عادة ما يُحكم المسلحون السابقون الذي حاربوا داعش في أي وقت مضى بعقوبة الإعدام، وذات المصير ينتظر أيضًا المحاربين السابقين مع جبهة النصرة، الجماعة التابعة لتنظيم القاعدة؛ فأعضاء “الخلافة” مهووسون بهذه المجموعة المتعصبة الأخرى، ومحاربو النصرة هم أيضًا عديمو الرحمة ويمتعون بأيديولوجية منافسة لداعش، ويُنظر لهم كعدو لدود للتنظيم ربما لتداخل طموحهم مع طموح داعش في الاستيلاء على حركة “الجهاد” العالمي.

تتمحور الاستجوابات داخل ديوان الحسبة بشكل أساسي حول العقائد الدينية، ويوضح ذلك عبد الله، الذي تم استجوابه أيضًا من قِبل شرطة الميادين قبل وصوله إلى تركيا، بقوله: “أولًا، يتحققون فيما إذا كنت مسلمًا سنيًا حقًا، فيُطلب منك الإجابة على أسئلة مثل: كيف تصلي، كم عدد الصلوات في اليوم، وما هي الفروض الإسلامية”.

بالمحصلة، أولئك الذين يراهم ديوان الحسبة كأشخاص غير متمتعين بدراية دينية كافية أو الذين يتمتعون بمعرفة دينية ضالة، يتم الحكم عليهم بقضاء أسبوعين في الديوان، وهي المدة اللازمة لتعليمهم “الأخلاق الحميدة”، وفقًا لقواعد النظام الثيوقراطي الجديد؛ ففي أرض أبو بكر البغدادي، خليفة المسلمين، يجب على الجميع أن يحترم القانون.

“أولئك الذين يُقبض عليهم وهم يدخنون السجائر يُرسلون لمدة ثلاثة أيام لمنطقة المطار، بالقرب من دير الزور، حيث تجري معارك ضارية ضد قوات نظام الأسد، وهناك، يتم تكليف السجناء بحفر القبور للأشخاص الذين لقوا حتفهم في ساحة المعركة”، يقول رفيق.

الحياة المريحة

الأمر الذي أدهش رفيق هو الحياة السهلة والمريحة التي يعيشها قادة داعش ومواطنوهم”، فالأسعار داخل حدود دولة التنظيم، وفقًا للمحارب السابق، هي أدنى بكثير من أسعار أي منطقة أخرى، ولتر البنزين الواحد الذي يبلغ سعره في درعا 2 دولار أريكي يُباع في الميادين بأقل من ذلك بأربعة أضعاف، “إنهم يستخدمون الإنترنت، ويقودون سيارات الدفع الرباعي، كما لو كانوا يعيشون في دبي”، يقول رفيق مندهشًا، “جميع الخدمات العامة تعمل بشكل جيد، سواء الماء أو الكهرباء”، يضيف عبد الله.

“عدد قليل من الأشخاص، ونتيجة لافتتانهم بهذا الترف، يقررون البقاء في مناطق تنظيم الدولة”، يعترف رفيق، ولكنه يشير بأن ذلك لم يكن خيارًا واردًا بالنسبة له، حيث يقول: “إنهم ينعتوننا بالخونة والجبناء لأننا تركنا بلادنا، ولكننا غادرنا بسبب أمثالهم، إنهم لا يمثلون الإسلام، أنا واثق من ذلك”.

بعد يومين من التحقيق، يُسمح للقافلة بالانطلاق مرة أخرى، حيث تقطع طريقها على طول ضفاف نهر الفرات، بالقرب من دير الزور، وتمر عبر حقول الغاز التي يسيطر عليها داعش، ومن ثم تعبر الرقة، عاصمة الخلافة الإسلامية، قبل أن تصل إلى نهاية أراضي التنظيم، قرب مدينة الباب في ريف حلب الشرقي، وبالمجمل، يقطع اللاجئون مسافة تنوف عن 800 كم ضمن الأراضي التي يقطنها المسلحون الأخطر في العالم.

في كل يوم، يدفع حوالي 50 شخصًا مبلغ 400 دولار لكل منهم لشراء حق المرور، مما يرفد خزائن التنظيم بمبلغ إجمالي شهري يصل إلى 600.000 دولار أمريكي، وهو مبلغ جيد، ولكن أهميته تبدو هامشية مقارنة مع عوائد بيع النفط التي يحصّلها التنظيم من مدينة دير الزور.


الصورة: صورة التقطها أحد اللاجئين، عبد الله، تظهر الكيفية التي يسافر بها المهاجرون سيرًا على الأقدام.

“كل شيء يتعلق بالمال”

استطاع رفيق أن يشهد على تجارة نفط داعش بعينيه أثناء رحلته إلى تركيا، فعشرات ناقلات النفط كانت تستخدم ذات الطريق الذي قطعه بين تركيا ومعبر باب السلامة، “لقد اتجهنا غربًا بغية الوصول إلى منطقة تركية تدعى هاتاي” قال رفيق، وأضاف: “ولكن عندما وصلنا إلى الحدود، سلكت سيارات الشحن طريقًا آخر، ولا أعرف تمامًا أين توجهت”.

هل كان يتم بيع الذهب الأسود لأعضاء الجبهة الإسلامية، وهي مجموعة مسلحة معارضة تنشط في المنطقة الواقعة ما بين الجيش التركي وداعش؟ أم تم بيعه لإحدى المنظمات التركية؟ لا جواب لدى رفيق، ولم يعد يسعى أيضًا لمعرفة الجواب بعد الآن، فكل شيء أضحى واضحًا أمام عينيه، حيث يقول: “لقد وصلت إلى استنتاج مفاده بأن كل شيء يتعلق المال، وهذا هو السبب الذي دفعني للمغادرة”.

يعيش رفيق الآن في مدينة صغيرة في ألمانيا الغربية، ولا زال يعاني من عذابات وإرهاصات ذكريات الحرب التي خاضها، ولكن التحدي الجديد الأكبر الذي يواجهه الآن يتمثل بأن يتعلم مجددًا كيف يعيش بسلام.

المصدر: ميدل إيست آي